عبث ما بعده عبث!! تلك الدعاوي المغرضة التي تتردد في الساحة السياسية اليوم فيما يتعلق بحكومة الدكتور كمال الجنزوري. فلا شك أن المطالبة برحيل الحكومة أو سحب الثقة منها أو الحملات الظالمة التي تتعرض لها، تؤكد بالفعل أن عدداً كبيراً من الوجوه التي تطالب بذلك لا يعرفون الحقيقة المرة التي وصلت إليها بلادنا، خلال فترة ما بعد 52 يناير فيما يتعلق بالشق الاقتصادي والذي يمثل عصب الحياة ويشكل الركيزة الأساسية في تحقيق الأهداف النبيلة التي سعت إليها الثورة بالإضافة إلي الشقين الأمني والاجتماعي. وجاحد كل من ينكر أن حكومة الجنزوري قد نجحت بالفعل في وقف النزيف الدامي الذي تعرض له اقتصادنا، وانعكس بصورة مباشرة علي كل أوجه الحياة بالإضافة إلي التحسن الملحوظ في الوضع الأمني. إن قراءة متأنية للمشهد المصري اليوم تتطلب وعياً وإدراكاً للحقائق. فحكومة الجنزوري أمامها أقل من ثلاثة أشهر، وفقاً للبرنامج الزمني فيما يتعلق باكتمال تشكيل السلطة التنفيذية ووجود رئيس للجمهورية. وإن مجرد تغيير الحكومة واستبدالها بحكومة أخري خلال تلك الفترة، يؤكد بالفعل عبثية الموقف وجر مصر إلي نفق مظلم جديد قد لا نخرج منه أبداً. إن مجرد التغيير وتشكيل حكومة جديدة، وبدء قراءة كل الملفات المتعلقة بمجالات عمل الوزراء والمحافظين الجدد، ربما تتطلب وقتاً أكبر بكثير من ثلاثة أشهر. وأقول بكل الوضوح إن هذه الفترة تعني توقفاً أو إبطاء لعجلة العمل قد يساهم في تفاقم النكبة التي دخلت إليها مصر، والتي تملك حكومة الجنزوري القدرة والمهارة علي العبور منها بأمان بإذن الله. وإذا كان نجاح أي حكومة يرتبط ارتباطاً مباشراً بمدي شعور المواطنين بنتائج وثمار عملها، فإن جانباً كبيراً وخطيراً من إنجازات حكومة الجنزوري يكمن في قدرتها علي إخراج مصر من هاوية كانت بالفعل قد اقتربت من الوصول إليها. اقتصاد انهار بالكامل حيث توقفت عجلة الإنتاج تماماً وتوقفت صادرات مصر، وتوقفت كل المساعدات التي كانت تقدم لنا. انهارت السياحة وشهد سوق الاستثمار أكبر حركة لخروج المستثمرين، وتوقف العمل تماماً في جميع المشروعات والمرافق التي كانت قد بدأت قبل 52 يناير. انهارت منظومة الأمن الداخلي، وشهدت مصر أكبر حركة لمحاولات الاختراق الخارجي. عصفت المطالب الفئوية والعشوائية بالموازنة والتي كانت تعاني عجزاً متفاقماً، وارتفعت معدلات التضخم وانخفضت معدلات الادخار، وارتفع العجز بالميزان التجاري وميزان المدفوعات لحدود غير مسبوقة. انخفض الاحتياطي النقدي نتيجة عشوائية السحب منه، من خلال حكومة هواة قادها الدكتور عصام شرف، تحولت مصر خلالها إلي حقل تجارب فاشلة. تجارب عادت تطمس المعاني والأهداف السامية التي سعت تورة يناير لتحقيقها. كما شهدت مصر أكبر حركة لتهريب الأسلحة عبر الحدود، ودفعت أعباء ضخمة نتيجة الأحداث التي شهدتها الدول المجاورة. بأصابع جراح ماهر بدأ الجنزوري التعامل مع موطن الداء رغم كل الظروف الصعبة والمناخ المسموم الذي كانت تعيشه مصر. وبدأ سباق الزمن من أجل احتواء الموقف وكانت أولي مهام حكومته عودة الأمن للشارع المصري، والتي تمثل في حد ذاتها أساساً مهماً لاحتواء تداعيات الانهيار الاقتصادي تمهيداً لإعادة عجلة دورانه مرة أخري. ولأن المجال لا يتسع لاستعراض ما قامت به الحكومة خلال أيامها المعدودة، فإني أشير إلي قرارين مهمين يعكسان فكر الرجل الذي سوف يتوقف التاريخ طويلاً أمام مسيرة عطائه ووطنيته المجردة. رفع معاش الضمان وزيادة أعداد المستفيدين به، كان مجرد رمز لإحدي أولويات حكومته في إرساء أسس العدالة الاجتماعية. وكان قراره الثاني بإلغاء دعم الطاقة لمشروعات القطاع الخاص الضخمة والتي يستطيع أصحابها تحمل أعبائها من خلال أرباحها الكبيرة، وما بين هذين القرارين عشرات القرارات والإجراءات التي نجحت في انتشال مصر من الهاوية السحيقة. أعرف أن هناك عدداً من البرلمانيين يعدون من الآن العدة للهجوم علي الحكومة. أعرف أن عدداً منهم لا يدركون أبعاد الصورة القاتمة التي كانت عليها بلادنا عندما كلف برئاسة الحكومة. أعرف أيضاً أن إذاعة جلسات البرلمان علي الهواء مباشرة تمثل -في حد ذاتها -سبباً أساسياً في زيادة الحدة وغلو المطالب وقسوة الهجوم علي الحكومة من جانب بعض النواب، خاصة أبناء الدوائر الأكثر شعبية والأقاليم. بل إنها ستكون مباراة بين النواب قد تعلي من قسوة هذا الهجوم. قد تكون تلك هي ضريبة الديمقراطية الوليدة، وضريبة تدفعها حكومة إنقاذ لوطن يقاوم الغرق. لكن يبقي ضمير الأمة الذي يجب ألا يحيد عن الإنصاف لحكومة اختارت الانحياز لثورة كانت توشك علي الضياع.