واشنطن تعلن التصدي لصاروخ حوثي يستهدف على الأرجح سفينة ترفع العلم الأمريكي    أمريكا تضغط على إسرائيل على خلفية مزاعم بشأن قبور جماعية في مستشفيين بقطاع غزة    إيران وروسيا توقعان مذكرة تفاهم أمنية    عاجل.. أسطورة ليفربول ينتقد صلاح ويفجر مفاجأة حول مستقبله    بعد إعلان الرئيس السيسي عنها.. ماذا تعرف عن البطولة العربية العسكرية للفروسية؟    صندوق التنمية الحضرية يعلن بيع 27 محلا تجاريا في مزاد علني    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    تحظى ب«احترام غير مبرر».. اتهام مباشر لواشنطن بالتغاضي عن انتهاكات إسرائيل    تخصيص 100 فدان في جنوب سيناء لإنشاء فرع جديد لجامعة السويس.. تفاصيل    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بالصاغة    شوبير يعلق على تكريم الأهلي لنجم الزمالك السابق    الليلة.. أدهم سليمان يُحيي حفل جديد بساقية الصاوي    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    حصول 5 وحدات طب أسرة جديدة على اعتماد «GAHAR» (تفاصيل)    رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر: تخصصنا يحافظ على الشخص في وضعه الطبيعي    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    محافظ شمال سيناء: الانتهاء من صرف التعويضات لأهالي الشيخ زويد بنسبة 85%    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    "منافسات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    كرة السلة، ترتيب مجموعة الأهلي في تصفيات ال bal 4    عماد النحاس يكشف توقعه لمباراة الأهلي ومازيمبي    إصابة 5 سائحين في انقلاب سيارة ملاكي بالطريق الصحراوي بأسوان    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    بعد اختناق أطفال بحمام السباحة.. التحفظ على 4 مسؤولين بنادي الترسانة    "مربوط بحبل في جنش المروحة".. عامل ينهي حياته في منطقة أوسيم    التطبيق خلال ساعات.. طريقة تغيير الساعة على نظام التوقيت الصيفي (بعد إلغاء الشتوي)    ريهام عبد الغفور عن والدها الراحل: وعدته أكون موجودة في تكريمه ونفذت    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    30 صورة وفيديو من حفل زفاف سلمى ابنة بدرية طلبة بحضور نجوم الفن    منسق مبادرة مقاطعة الأسماك في بورسعيد: الحملة امتدت لمحافظات أخرى بعد نجاحها..فيديو    كيف أعرف من يحسدني؟.. الحاسد له 3 علامات وعليه 5 عقوبات دنيوية    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    الاحتلال يعتقل فلسطينيًا من بيت فوريك ويقتحم بيت دجن    الهلال الأحمر: تم الحفاظ على الميزانية الخاصة للطائرات التى تقل المساعدات لغزة    الرئيس الموريتاني يُعلن ترشّحه لولاية ثانية    محافظ شمال سيناء: منظومة الطرق في الشيخ زويد تشهد طفرة حقيقية    وزيرة التضامن: المدارس المجتمعية تمثل فرصة ثانية لاستكمال التعليم    ما موعد انتهاء مبادرة سيارات المصريين بالخارج؟.. وزيرة الهجرة تجيب    رئيس تحرير «أكتوبر»: الإعلام أحد الأسلحة الهامة في الحروب    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    اختيارات النقاد.. بعد سيطرة الكوميديا ما هى الأفلام الأنسب لموسم العيد؟    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    ارتفاع الذهب اليوم الخميس.. تعرف على الأسعار بعد الزيادة    إصابة أم وأطفالها الثلاثة في انفجار أسطوانة غاز ب الدقهلية    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    تأجيل بيع محطتي سيمنز .. البنوك الألمانية" أو أزمة الغاز الطبيعي وراء وقف الصفقة ؟    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    الصحة تفحص مليون و413 ألف طالب ضمن المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن فيروس سى    مدير تعليم القاهرة: مراعاة مواعيد الامتحانات طبقا للتوقيت الصيفي    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    10 توصيات لأول مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لوزارة العدل    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ميدان الإسماعيلية في 21 فبراير 1946.. ميدان التحرير في 25 يناير 2011:
ثورة الورد
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 02 - 2011


إسقاط النظام -( 1)
بدأت في كتابة هذه السطور مساء السبت 5 فبراير، وعليّ أن أنهيها - لضرورات طباعية - صباح الاثنين 7 فبراير، أي أنني أكتب في ذروة الأزمة المنذرة باحتمالات شتي وفي مناخها المقبض المتوتر، علي الرغم من أنه غني عن القول إن بلادنا منذ 52 يناير قد أسقطت نظاما وممارسة سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية علي نحو شبه نهائي، وغني عن القول أيضا أنها قدمت مشهدا جللا، ليس فقط للشباب الجسور الذي صاغ تلك الدراما الكبري التي لاتزال دائرة، بل أيضا لجموع المصريين من الاطفال والنساء والرجال والشيوخ علي نحو غير مسبوق، وعلي الأقل منذ ستة عقود عشتها حتي الآن.
قهوة المعلم عوف-( 2 )
سوف أحاول أولا أن ألقي نظرة سريعة علي تاريخ ميدان التحرير الذي هفت إليه قلوب الثوار والمتمردين، وصاغوا منه معني أساسيا لفكرة الأرض المحررة في بلد تنتهك أجهزة الأمن بقضها وقضيضها كل ألوان الطيف السياسي كل لحظة.
لن أعود إلي عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي التي شهدت بعض الأحداث، سواء في ميدان الإسماعيلية نفسه، أو في المنطقة المتاخمة له، مثل محاولة اغتيال يوسف وهبة باشا رئيس الوزراء في ميدان طلعت حرب، بل سأبدأ علي الفور بنقل السطور التالية من كتاب الأستاذ فاروق القاضي »فرسان الأمل« حول يوم 12 فبراير 6491:
تدفقت علي ميدان الإسماعيلية (التحرير) الجموع الهادرة من خمس جهات، من جامعة فؤاد، ومن السيدة زينب ومن الأزهر، ومن العباسية ومن شبرا، حتي ضاق بهم الميدان علي سعته، إذ قدر الجمع بحوالي مائة ألف طالب. وكم كان رائعا وعظيما أن تجتمع هذه الآلاف علي قلب رجل واحد وهي تنشد:
ياشعب قم خض بحر الدماء
لاتبك فالآن وقت الفداء
هيا نحطم قيود العبيد
هيا جميعا لنيل الجلاء
نيل الشمال ونيل الجنوب
وحد أيادي ووحد قلوب
نرمي بها قلب مستعمر
فالاتحاد سلاح الشعوب
كتب كلمات هذا النشيد طالب الطب عبدالواحد بصيلة الاستاذ بطب الأزهر الآن والذي يذكر في شهادة وردت في كتاب »عمال وطلاب في الحركة الوطنية المصرية« تحرير وتقديم د. عاصم الدسوقي، أنه كتب النشيد علي سبورة مدرج الدكتور علي باشا إبراهيم في مشرحة الكلية حيث كانت تعقد المؤتمرات.
ويواصل الاستاذ فاروق القاضي رواية أحداث ذلك اليوم البعيد قائلا:
أطلت المؤامرة السوداء برأسها والجماهير تغني للثورة والحرية، شارك اسماعيل صدقي (رئيس الوزراء آنذاك) أو لم يشارك، فإن كل الشواهد تؤكد أنه طرف أصيل طاف الشوارع وعلي وجهه ابتسامة الذئب يتظاهر بتأييد المظاهرات وترك الدور القذر للانجليز. فرغم صدور تعليمات القوات البريطانية بعدم مغادرة المعسكرات ذلك اليوم، إلا أن أربع سيارات مصفحة أقبلت من شارع القصر العيني، شقت طريقها بدم بارد وسط الحشود غير عابئة
بمن تقتل أو تدهس.
من المؤكد بالطبع أنني لا أقصد أي مقارنة بين انتفاضة 52 يناير 1102 و 12 فبراير 6491، فلحسن الحظ أن القوات المسلحة المصرية انحازت منذ اللحظة الاولي ل »مطالب الشباب المشروعة« ومازالت وستظل منحازة لحق الشعب في التظاهر السلمي.
ويواصل فاروق القاضي روايته:
التهبت أعصاب المتظاهرين فانهالت علي السيارات بعض اللافتات والأعلام والحجارة لاذت السيارات بالفرار داخل ثكنات قصر النيل التي كانت تنطلق الرشاشات من داخلها لافساح الطريق لها. لحظتها. ولحظتها فقط، أفلت عيار الجماهير التي تحولت إلي إعصار مدمر. انطلقت تهاجم ثكنات قصر النيل بكل ما طالته الأيدي وبأي شيء.. وفجأة تفتقت العبقرية الشعبية من كرات اللهب. تمزقت الجلاليب والقمصان ولفت حول الحجارة وغمست في وقود السيارات وألقيت علي الثكنة تحت وابل الرصاص.
ويضيف:
كنت لم أزل في ميدان الإسماعيلية وسط الحشد الذي اتجه صوب شارع سليمان باشا. لكننا لم نكد نخطو بضع خطوات داخل الشارع حتي انطلقت رصاصات من احدي البنايات فوق محل للموبيليات (كشك أو بونتريمولي، لم أعد أذكر) وسقط بجواري شهيد، فاندفعت الجموع إلي داخل البناية للفتك بمن أطلق النار، بينما توجه آخرون لإحراق المحلات الأجنبية أسفلها. هاجم المتظاهرون معسكراً للجنود الأفارقة خلف القضاء العالي، ومخزن الاحتياطي الطبي للجيش البريطاني، ونادي الطيارين الانجليز، ودمرت خمس سيارات للقوات الهندية. أطاحت وحشية الانجليز بكل حليم إذ بلغ ضحايا هذا اليوم المجيد 32 شهيدا و 321 جريحا.
أحداث هذا اليوم يرويها أيضا سيد عبدالوهاب ندا عامل النسيج وعضو اللجنة الوطنية للطلبة والعمال - شبرا الخيمة - المحلات الصناعية في كتاب عمال وطلاب في الحركة الوطنية المصرية الصادر عن دار المحروسة علي النحو التالي:
.. وبلا شك أن اجتماعنا، المنعقد في قهوة المعلم عوف وكانت الساعة الثالثة صباحا، أخذ صورة تاريخية ليس فقط لاتخاذ القرارات اللازمة بتنظيم العمال أثناء المسيرة وكانت ستبدأ من شبرا الخيمة إلي شارع شبرا إلي شارع الملكة نازلي (رمسيس الآن) إلي ميدان الإسماعيلية (التحرير الآن) ومراجعة المنظمين والمندوبين وحاملي اللافتات الخ وأثناء الاجتماع حضر إلينا في القهوة السيد رئيس مجلس الوزراء اسماعيل صدقي باشا ومعه اسماعيل فخري وجلس بيننا وبعد أن سلم علينا واحدا واحدا بالاسم قال أنا عارف أنكم مجتمعون هنا الليلة وتنظمون المظاهرة والاضراب وكان ممكن وأنا قاعد في بيتي أأمر بالقبض عليكم لكن أنا فضلت أحضر بنفسي وعلشان أنتم بتقولوا عليّ خائن وعميل الاستعمار، بينما الواضح اني لا أقل وطنية عن أي واحد فيكم فأنا موافق علي الاضراب صباحا والمظاهرة بشرط النظام وعدم الخروج عليه ومش عايز فوضي ومعاكم اسماعيل فخري إذا احتجتم أي شيء خاص بالأمن. وأنهي حديثه وخرج وترك لنا اسماعيل فخري. وفي تمام السابعة صباحا خرجت الوردية المسائية صباحا وانتظم كل في مكانه وتحت اللافتة الخاصة بمصنعه وانضمت إليها الوردية الصباحية وكانت الوردية الثالثة معظم أفرادها يعملون في كتابة اللافتات بالشعارات المناسبة وبدأت المسيرة من الثامنة صباحا وكانت مثال الانضباط. وكانت معسكرات جيش الانجليز في ميدان رمسيس وكان ميدان الإسماعيلية به ثكنات القوات البريطانية والمنطقة غرب قصر العيني وحينما وصلت التجمعات إلي هذه المنطقة خرجت علينا دوريات الجيش الانجليزي واخترقت المظاهرة السلمية وقتلت العشرات.. الخ«.
أكرر أني لا أقدم هذه المشاهد للمقارنة بين أحداث 6491 وانتفاضة 1102، بل أحاول استعادة مشاهد جرت علي الأرض نفسها والشوارع المحيطة بها، ولا حاجة للقول أن تلك المساحة المحدودة من الأمتار احتشدت علي الدوام لأشواق المصريين للحرية والعدل، ظل الميدان ملاذا وقبلة ورمزا ونصبا للشهداء ومكانا لممارسة أنبل المشاعر الانسانية وأكثرها ندرة. التضحية والفداء والايمان بالوطن والدفاع عنه وعشقه من بين المشاعر والقيم التي تتكرر - ولاتتطابق - بين كل من حرر ميدان الإسماعيلية ولو لبضع ساعات.
3
بجوار سعد يانحاس
هناك حادثة مضي عليها أكثر من أربعين عاما، إلا أن الحقيقة اختلطت بالخيال بعد أن مضت كل تلك السنوات، ولم أعد متأكدا من تفاصيلها، لكنني أتذكر أنني كنت صبيا في منتصف الستينات، وكنت مستقلا لاتوبيس عام وشاهدت ناسا يحملون نعشا ويعبرون به ميدان التحرير، وأظن أنهم كانوا يهرولون والجميع فوجيء بالنعش والناس المحيطين به وتوقف الأتوبيس الذي كنت أستقله. كانت تلك جنازة الزعيم مصطفي النحاس الذي كانت الثورة قد غيبته تماما من كتب التاريخ، وكان مشيعوه يهتفون: بجوار سعد يانحاس، ولم تستطع الثورة التي كان قد مضي عليها أكثر من عشر سنوات أن تمحو أيا منهما، وخرجت عشرات قليلة في جنازة الرجل في تحد سافر قد لايشعر أبناء الأجيال الجديدة بدلالته الحقيقية في ذروة مجد الناصرية وتأميمها للصراع الاجتماعي.
وفي الثامن والتاسع من يونيو 7691 في أعقاب الكارثة المروعة، كان ميدان التحرير مركزا لضغط الملايين من أجل إجبار جمال عبدالناصر علي العدول عن قراره بالتنحي، بكل ما يعنيه ذلك من رفض للهزيمة واتخاذ قرار بالمقاومة.
وفي العام التالي، كان الميدان نفسه مسرحا لمظاهرات الطلاب عام 8691 رافضين للأحكام المخففة علي ضباط الطيران الذين اعتبروا مسئولين عن أقسي هزيمة في تاريخنا الحديث. أتيح لي بالمصادفة أن أشهد جانبا منها، فقد مات جدي بالمصادفة في يوم المظاهرة، واضطر خالي الشاعر الراحل فتحي سعيد للاستعانة بأحد أصدقاء عمره من ضباط البوليس، لتأمين الصلاة عليه في جامع في حي معروف الملاصق لميدان التحرير حيث كان خالي يسكن، وأتذكر جيدا الزحام الذي أحاط بالجنازة وأتذكر جيدا أن المتظاهرين احترموا الجنازة وأفسحوا لنا مكانا وساعدونا قدر الامكان، ولكم تمنيت آنذاك أن أكون بين هؤلاء المتظاهرين الذين مات بعضهم فداء للوطن، إلا أنه كان عليّ أن أرافقه حتي الدراسة لدفنه، ولم أشارك في تلك المظاهرة.
4
حكاية الضباب السياسي
كذلك لم أشارك في عرس الكعكة الحجرية ليلة 42 يناير 2791، فقد كنت من بين قرابة ألف طالب تم اعتقالهم من قاعة جمال عبدالناصر فجر 42 يناير وبعد اعتصام دام لأكثر من أسبوع احتجاجا علي خطاب السادات الشهير باعتذاره عن تنفيذ وعد كان قد قطعه علي نفسه علنا أمام الناس بأن عام 1791 لابد أن يشهد حل مشكلة أراضينا المحتلة منذ عام 7691، وكان اعتذاره بسبب ما أسماه ب »الضباب السياسي« الذي ساد المنطقة!
واذا كانت تلك الليلة قد شهدت تحرير ميدان التحرير ليلة كاملة جري في نهايتها تفريقهم بالضرب بوحشية من جانب قوات الأمن، فقد فاتني أن أشارك فيها أيضا مثل مظاهرة النحاس في منتصف الستينات ومظاهرات الطلاب عام 8691.
وهنا أفتح قوسا لأنقل عن أوراقي ما سبق أن دونته حول تلك الفترة. لقد اعتبرت نفسي محظوظا بشدة لأنه أتيح لي أن أشهد ما جري في أيام لم تتكرر مطلقا طوال السنوات التالية. شاهدت اللجان الوطنية التي تتشكل بالانتخاب المباشر في كل كلية، لتتكون منها اللجنة الوطنية العليا التي قادت الاعتصام في قاعة جمال عبدالناصر احتل الطلاب الجامعة وحرروها، وفتحوا المطبعة وقاموا بطبع بياناتهم ونداءاتهم، وشكلوا لجانا لحفظ النظام والاتصال والاعاشة والدعاية والأمن، وتصدوا لأعنف حملة تشويه وتفريق بوليسية - مثل هذه الأيام في يناير 1102 قبل 04 عاما - شارك فيها البرلمان وما كان يسمي بأمانة الدعوة والفكر وأجهزة أمن عديدة مختلفة شاهدت تحرير الجامعة عشرين يوما متواصلة، ومن بين المطالب الأساسية للاعتصام، كان هناك مطلب بضرورة حضور السادات بنفسه - لا أقل - ليناقش الطلاب ويوضح لهم حكاية الضباب إياها. تمسك الطلاب بهذا المطلب، بينما عرض ممثلون من البرلمان والداخلية أن يكتفي باذاعة بيان اللجنة الوطنية العليا بالاذاعة والتليفزيون، وفي المقابل نفض الاعتصام. كانت الأمور تجري بشفافية كاملة، وتجري مناقشة عملاء النظام علنا مثل الديمقراطية الاثينية. ولم تفلح كل محاولات الاجهزة المختلفة في تخريب هذا المشهد الجلل. كان العشرات من الكتاب والفنانين يتدفقون إلي الجامعة ويتجولون في أرجائها، ويمتعون عيونهم بمشهد تحريرها، وكان كثير من الأهالي والأصدقاء يأتون بالطعام من بيوتهم كل يوم للمعتصمين الذين كانوا يقيمون اقامة كاملة في القاعة الكبري، ومن بينهم تشكلت لجان لحراسة الاعتصام وحمايته، من بوابة الجامعة الرئيسية وحتي القاعة ومداخلها.
في فجر 42 يناير 2791 اقتحمت مصفحات ومدرعات الداخلية البوابة الرئيسية وحطمتها، واندفع آلاف الجنود ليحيطوا ويحاصروا الاعتصام، ثم اندفعوا مرة أخري ليحطموا أبواب القاعة ببلط وأسلحة تشبه الفئوس. وفي الدقائق الفاصلة بين إبلاغنا من زملائنا الذين كانوا يتولون حراسة البوابة الخارجية بالاقتحام، وبين وصول هذه القوات إلي مقر الاعتصام، اتخذت اللجنة الوطنية العليا أهم قراراتها علي الرغم من الانهاك المتواصل لهؤلاء الشباب الصغار ممن كانوا يخوضون معركتهم الاولي مع الحياة. كان القرار هو ضرورة تفادي المذبحة، فالقوات التي حطمت أبواب قاعة الاعتصام، كانت مجهزة لفضه بالقوة، معتمدة علي المفاجأة والانهاك، ولذلك جاءوا مدججين بالقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه والبنادق والرشاشات، لكن اللجنة الوطنية فوتت الفرصة عليهم، واعتلي أعضاؤها المسرح مطالبين الجميع بالهدوء والبقاء في أماكنهم، ثم تولي الراحل الجميل أحمد عبدالله رزة بكوفيته الحمراء المفاوضة العلنية عبر الميكروفون، وطالب قائد القوة المقتحمة بأن يكتب اقرارا بأن هذا الاعتصام تم فضه سلميا من جانب الطلاب، لكن القائد رفض كتابة الاقرار، وبدلا من ذلك أقسم بشرفه العسكري بأننا سنخرج من الاعتصام لوزارة الداخلية لخمس دقائق فقط، ثم نعود إلي بيوتنا، ولم يصدق أحد طبعا، إلا أنها كانت فرصة لتفادي المذبحة.
وزع أعضاء اللجنة الوطنية أنفسهم في الممرات وعلي الابواب للإشراف علي خروج المعتصمين. كان المشهد مهيبا ولايمكن نسيان تفاصيله. كان كل يسلم علي أعضاء اللجنة ونحتضنهم، ثم نخرج في طابور طويل يمتد مئات الأمتار من باب القاعة حتي بوابة الجامعة الخارجية، بين صفين من العساكر الغلابة المرتدين خوذا ومحملين بأسلحة. وعندما حاول أحدنا أن يهتف، كادت المذبحة المدبرة أن تقع، وسرعان ما استبدلنا الهتاف بصغير موحد شارك فيه الجميع بلحن بلادي بلادي، حتي إن العصافير التي كانت قد استيقظت توقفت تماما في تلك الدقائق من فجر
42 يناير، كأنها تنصت لصوت صغيرنا: بلادي بلادي.. لك حبي وفؤادي.
بقية القصة شبه معروفة، فقد صعدنا إلي لوريات جديدة كأنهم جاءوا بها من المصانع لتوهم، وذهبوا بنا إلي معسكرات الأمن المركزي في الدراسة. كانوا قد فوجئوا بتطور الأمور علي ذلك النحو، وبدا وكأنه أسقط في أيديهم. فقد ظللنا طوال اليوم بلا طعام ولا شراب، ثم جمعونا مرة أخري في آخر النهار، وأركبونا لوريات أخري ( كانت اللوريات كلها، سواء التي ركبناها في الفجر أو المساء مغطاة بغطاء ثقيل وفي حراسة الضباط والجنود، وأحكموا الغطاء علينا وواصلوا منعنا من الهتاف).
نقلونا - كما عرفنا فيما بعد - إلي معرض أمناء الشرطة بطرة أو وادي حوف - لا أتذكر بالضبط - وخدعونا علي نحو ما، عندما اختطفوا أعضاء اللجنة الوطنية وحدهم وساقوهم إلي سجن القلعة.
مرة ثانية أعتبر نفسي محظوظا بخوضي هذه التجربة، فقد قسمونا إلي مجموعات ووزعونا علي عنابر هي نفسها المخصصة لنوم طلاب معهد أمناء الشرطة، ولا أعرف كيف تمكنا من تدبير أقلام وأوراق، وكتبنا مجلات حائط وعلقناها، وأطلق كل عنبر اسما خاصا به، وكان عنبرنا اسمه 42 يناير، وشكلنا قيادة كل عنبر، وبدأنا في بناء شبكة اتصال بين العنابر المختلفة، وسرعان ما نجحنا في صياغة مطالب كان أهم أن نعرف مصير زملائنا أعضاء اللجنة الوطنية العليا، وهددنا بالاضراب ثم نفذناه بالفعل، دون أن نعلم أن زملاءنا في الخارج قاموا طوال اليوم بأعنف مظاهرات شهدتها القاهرة، لأنهم ذهبوا في اليوم التالي إلي الجامعة، فوجدوا البوابة الخارجية محطمة وكذلك أبواب مقر الاعتصام، ولم يجدونا نحن المعتصمين، وسرت شائعة بأن الاعتصام تم فضه بالقوة وأن مذبحة قد جرت بالفعل، لذلك اتجهوا في مظاهرات صاخبة من جامعتي القاهرة وعين شمس إلي ميدان التحرير الذي حرروه لليلة كاملة ليغنوا ويهتفوا لبلادهم ويكتب أمل دنقل قصيدته الكعكة الحجرية ويغني الشيخ امام ويلقي نجم قصائده ويقضي الآلاف أطول ليلة في تاريخ القاهرة.
لايقاس حجم المشتركين أو الوقت الذي استغرقه تحرير الميدان عام 2791 بما يجري عام 1102، الا أن هناك كثيرا من العناصر المشتركة بينها: التنظيم الدقيق، وممارسة الديمقراطية، والتصدي لمشكلات الوطن من جانب شباب في اوائل العشرينات لم يتخرجوا من الجامعة بعد، وتعرضت كل منهما لحملات من الشائعات القذرة حول العمالة لجهات أجنبية، بل ونشرت الصحف بالفعل أيامها خطابا للرئيس السادات محلي بالصور التي يشير فيها إلي الصور المنشورة والتي تفيد أن هناك شبكة تجسس بلجيكية تم ضبطها في البلاد اتصلت بالطلاب ودبرت ومولت الانتفاضة، وإن كان أحد لم يصدقها، كذلك لم نصدق نحن أيضا اللواء سيد فهمي مدير مباحث أمن الدولة آنذاك، الذي استقبلنا بعد عدة أيام قضيناها معتقلين في معهد أمناء الشرطة، وخطب فينا خطبة عصماء مضمونها انهم ألقوا القبض علي شبكة تجسس سيعلن عنها بعد أيام تضم عملاء للمخابرات المركزية الامريكية، وتستهدف الوقيعة بين السلطة الوطنية والطلاب، وأظن أنه راح يذكر امثلة لمحاولات السي آي أيه الاطاحة بدور السلطة الوطنية المعادية للاستعمار.. في عدد من البلدان، ربما كان من بينها شيلي إذا لم تخوني الذاكرة، قاطعناه بالسخرية ومنعناه من استكمال محاضرته الخاوية.
5
أحد أيام يناير
هناك وشائج عديدة وصلات وثيقة بين كل الحركات والهبات والانتفاضات المعادية للاحتلال سواء كان الانجليزي أو الاسرائيلي أو النفوذ الأمريكي، أو المنادية بالحرية السياسية، أو الداعية للعدل الاجتماعي، ولعل من أهم هذه الوشائج التوجه إلي ميدان التحرير والسعي نحوه بوصفه المنتهي والنقطة الأخيرة، ومن بين هذه الوشائج أيضا أن تلك الحركات اختارت شهري يناير وفبراير علي وجه الخصوص طوال الفترة السابقة علي الألفية الجديدة عندما اندلعت الاحتجاجات العنيفة واستغرقت نحو عشر سنوات حتي سقط النظام أخيرا.
كان شهر يناير مثلا هو الذي شهد الاحتجاجات العنيفة عام 5791، حينما تجمع عمال حلوان أمام محطة المترو القديمة في أول شارع منصور بباب اللوق في الصباح المبكر ضد نظام السادات، وسرعان ما لحق بهم يهتفون (.... كيلو اللحمة بقي بجنيه) و (.... جوز الجزمة باتنين جنيه) إلي جانب شعارات أخري ذات طابع سياسي، ووصل الأمر إلي مقارنة عبدالعزيز حجازي رئيس الوزراء آنذاك بهتلر (حكم النازي ولاحجازي!)..
استمرت مظاهرة يناير عام 5791 يوما واحدا، لكنه ايقظ مصر بكاملها، شاركت فيها بالمصادفة فقد كنت موجودا في ميدان التحرير واقفا في محطة الاتوبيس التي كان مكانها آنذاك في مواجهة مبني الجامعة العربية، وفوجئت بالمئات يتدفقون من الشوارع الجانبية ويتجمعون في الميدان، وعندما تهاجمهم قوات الأمن يفرون هنا وهناك ليتجمعوا مرة أخري بالقرب من الاسعاف. ويتكرر الهجوم من قوات الأمن، فيعاودون الفرار إلي حواري بولاق والترجمان، وسرعان ما يخرجون مرة أخري إلي شارعي رمسيس والجلاء..
قضيت اليوم بكامله في المظاهرة، واختزنت ذاكرتي مشاهد لن تمحي. أتذكر مثلا أن هذه المظاهرة كانت تلقائية تماما ولم تنظمها أية جهة، وتشكل جسمها الأساسي من عمال حلوان الذين اكتووا بنار الأسعار شأنهم شأن سائر المصريين، واللافت للنظر حسبما شاهدت بعيني أن المظاهرة كانت »هبة« أو »صرخة« يشارك فيها موجوعون ومحرومون لايعرفون بعضهم بعضا، ويفتقدون للمهارات الأساسية الكفيلة بإنجاح المظاهرة.
فالشعارات ذات الايقاعات الساخنة كانت تؤلف علي عجل، وقادة المظاهرات المحمولون علي الاكتاف بدوا متهيبين الموقف ومرتبكين إلي هذا الحد أو ذاك، ولا أحد يعرف إلي أين تتجه المظاهرة بعد أن حالت قوات الأمن بينهم وبين ميدان التحرير، فقد كانت هذه المظاهرة هي أول مظاهرة واسعة ذات مطالب اقتصادية منذ ثلاثة عقود تقريبا، لأن أقرب مظاهرات كانت هي مظاهرات الاحتجاج علي أحكام قادة الطيران، وقبلها بعدة شهور كانت مظاهرات رفضت تنحي عبدالناصر، وكلتاهما ذات طابع سياسي.
وعلي الرغم من كل هذا الارتباك ونقص الخبرة والتلقائية الشديدة، الا أن المظاهرة استمرت يوما كاملا شديد الانهاك، ووجدتني أسير من التحرير إلي بولاق إلي شارع رمسيس إلي العباسية، ولم يتفرق المتظاهرون إلا عندما حلّ الليل، وحطموا ما وجدوه في طريقهم من مظاهر البذخ الاستفزازية مثل الاعلانات الزجاجية عن سلع لايعرفون ما إذا كانت تؤكل أو تشرب مثلا!
أتذكر جيدا أنني كنت أشعر بحيرة المتظاهرين الشديدة، وغضبهم الأشد وامتلاكهم للشوارع وصدامهم العنيف مع الأمن، فلم يعرفوا طريقا لهم، وكلما فرقهم الأمن تجمعوا مرة أخري.
6
هو بيلبس آخر موضة
وبعد عامين فقط، وفي شهر يناير أيضا، اندلعت مظاهرات الخبز في 81، 91 يناير عام 7791، ولحسن حظي شاركت فيها وكنت شاهدا عليها وكما هو معروف، كانت الأزمة الاقتصادية تعصف بالجميع (جميع الفقراء بالطبع)، وكانت خطة الاعلام الحكومي التي استند عليها السادات في حكمه أن الرخاء قادم قادم، بعد الانفتاح الاقتصادي ووصول مراكب الدولارات الامريكية إلي الميناء، لكن مجلس الشعب اتخذ قرارات مفاجئة بزيادة أسعار عدد من السلع الاساسية ليلة 71/81 يناير، وفي الصباح كان الزلزال كانت هذه المظاهرات تلقائية تماما، لكنها مع ذلك جاءت علي أرضية المطالب والشعارات التي كانت القوي السياسية المعارضة، واليسارية علي الاخص، قد طرحتها في معاركها المختلفة سواء في الجامعات أو المصانع أو اثناء انتخابات مجلس الشعب عام 6791.
لعب ميدان التحرير طوال اليومين اللذين استغرقتهما الانتفاضة دورا أساسيا، لأن مجرد تعطيله كان كفيلا بجذب انتباه الناس إلي ما يجري. موقع ميدان التحرير محوري في الحقيقة وعبقري ويربط بين الاتجاهات الأربعة ويطل علي جسرين ضخمين يربطان ضفتي النيل، لذلك كانت المظاهرات التي اندلعت خلال اليومين تصب فيه وتخرج منه.
وحسبما ورد في كتاب الاستاذ حسين عبدالرازق (مصر في 81 و 91 يناير) فإن التقرير الذي رفعه اللواء أحمد رشدي مدير أمن القاهرة، والمرفوع للسيد المستشار ابراهيم القليوبي النائب العام بتاريخ أول فبراير:
»بدأت أحداث الشغب بمدينة القاهرة صباح يوم الثلاثاء 81 يناير 7791 في حوالي الساعة 03.8 صباحا، بخروج عمال شركة مصر حلوان للغزل والنسيج بتحريض العاملين بالشركة، في مظاهرات أخذت تطوف بمنطقة حلوان مرددة هتافات عدائية ضد سياسات الحكومة وقرارات رفع الأسعار والقيادة السياسية. ونجح المتظاهرون في إخراج بعض عمال المصانع الأخري الكائنة بالمنطقة.
ويواصل مدير الأمن تقريره:
ثم عزل منطقة حلوان عن باقي أحياء المدينة. ولكن أمكن لبعض المتظاهرين التسلل إلي وسط المدينة. وفي حوالي الساعة الواحدة والنصف بدأت مظاهرة من كلية الهندسة جامعة عين شمس قوامها حوالي 003 طالب من الدارسين بتلك الجامعة. وأخذت مسارها من شارع الجيش متجهة إلي مجلس الشعب، وانضم إليهم عدد من العمال الذين تمكنوا من التسلل من منطقة حلوان، وبلغ عدد المتظاهرين أمام مجلس الشعب في الساعة 03.4 مساء يرددون الهتافات العدائية السابقة الاشارة اليها«.
من بينها مثلا:
مش كفاية لبسنا الخيش
جايين ياخدوا رغيف العيش
أو
يشربوا ويسكي وياكلوا فراخ
والشعب من الجوع أهو داخ
أو
الصهيوني فوق ترابي
والمباحث علي بابي
أو
بالطول والعرض
هانجيب ممدوح الأرض (هو ممدوح سالم رئيس الوزراء)
أو
هو بيلبس آخر موضة (هو المرحوم الرئيس المؤمن محمد أنور السادات)
واحنا بنسكن عشرة في أوضة
أو
ياحاكمنا بالمباحث
كل الشعب بظلمك حاسس
وغيرها وغيرها كثير
وعلي مدي يومين كاملين خرج الملايين في أغلب المدن المصرية ينددون برفع الأسعار وسياسة الحكومة، وهوما دعا السادات للهروب الي اسوان استعدادا للفرار، وقام المتظاهرون بتحطيم وحرق عدد كبير من مقار الحزب الحاكم وأقسام الشرطة والمباني الحكومية، وخرج البلطجية والمجرمون من الجحور بعد فشل قوات الأمن المدججة في وقف المظاهرات وسقط عدد من الشهداء وكثير من الجرحي. كان أداء الجهاز الأمني خلال وفي أعقاب الانتفاضة بالغ التهافت والرداءة، حيث تم اتهام الشيوعيين وعملائهم إلا أن أوامر القبض عليهم كانت تتضمن أسماء من ماتوا دون تبليغ وزارة الداخلية!!
وكذلك من كانوا خارج البلاد!!، وقدم الجهاز الأمني شهوده علي ذلك، إلا أن التعامل غير المهني مع هذه الانتفاضة من جانب الجهاز أدي الي تمثيل مسرحيات كوميدية للغاية مثل مسرحية السيد حاتم زهران الذي شهد علي عدد كبير من اليساريين انهم قادوا هذه المظاهرات، علي الرغم من انهم كانوا موجودين في أماكن متفرقة من المدينة، لذلك اطلق علي السيد حاتم: (حاتم تلستار).
وعند محاكمة المتهمين بتدبير الانتفاضة وعددهم 671 متهما من بينهم كتاب وشعراء ومثقفون وطلاب وعمال وفلاحون، وبعد ان نظرت القضية علي مدي ثلاث سنوات من المماطلة والتكفؤ بسبب فساد وعوار المضبوطات والشهود.. ألخ، اصدر المستشار الراحل منير حكيم صليب حكم التاريخي بادانة الحكومة واتهامها بانها السبب الأساسي في انفجار المظاهرات. ومن بين حيثيات حكم المستشار صليب انقل السطور الشجاعة التالية:
»وقد استغلت ادارة مباحث امن الدولة هذه الأحداث من أجل تصفية القوي الوطنية المعارضة لسياسات القائمين علي الحكم، وتأكيدا لذلك بعد انتهاء التحقيق في بلاغاتهم التي قيدت برقم 001 سنة 77 و101 سنة 77 امن دولة عليا تقدمت مباحثا امن الدولة يومن 01/5/77 الي نيابة أمن الدولة بمذكرة قالت فيها ان احداث 81،91 يناير 77 ليست إلا نتيجة نشاط سياسي سابق ومستمر بدأ منذ ما قبل 37، تحاول به القوي المناهضة اسقاط الحاكمين. وقد كانت تلك القضايا وما سبقها منذ 37 يشكل معركة واحدة مستمرة كانت مباحث امن الدولة خلالها تطارد المعارضة، واستطاعت في حملات متتالية ان تقبض علي مجموعات وراء مجموعات ولم تعرض اية مجموعة منها علي القضاء للمحاكمة«.
ويضيف:
»إن أحدا من ضباط مباحث أمن الدولة الذين قدموا البلاغات أو حرروا المذكرات أو سمعت اقوالهم في التحقيق الابتدائي امام النيابة أو في التحقيق النهائي الذي اجرته المحكمة لم تتوافر له شروط الشاهد ولاتوافرت لأقواله شروط الشهادة، وبالتالي لايجوز في صحيح القانون الاعتداد بما قالوا ولا حتي من قبيل الاستدلال، كما ان الجهاز نفسه حين يتلقي المعلومات من المصادر، وحين يضيف اليها او يحذف منها، وحين يدونها في السجلات، وحين يختار منها ما يبلغ عنه، وحين يبدي الضباط أقوالهم أمام المحققين أو المحاكم يكون خاضعا لأوامر سياسية تأتيه من خارجه. واستشري الخلل في الجهاز إلي حد الفوضي، فهو يبلغ عن اتباعه ويتهمهم بالجرائم ويتصدر ضدهم أوامر بالقبض ويقبض عليهم فعلا مثل أحمد لطفي حسونة وحسين عبدالمنعم الحيوان وغيرهم، واسند اليهم ذات التهم التي اسندها الي باقي المتهمين.. ودخلوا السجون الي ان انقذتهم النيابة العامة!!«.
أكرر انني انقل حرفيا بعض السطور علي نحو عشوائي من حيثيات الحكم التاريخي للمستشار الراحل منير حكيم صليب مثل:
»ولقد تأكدت للإنسان حقوق وحريات علي مدي التاريخ ازدادت رسوخا واصالة مع رقيه وتطور المذاهب الانسانية والفكر الانساني. ومن هذه الحقوق ما تعلق بالحرية الشخصية مثل حرية التنقل وعدم جواز القبض عليه أو حبسه أو ابعاده بغير سند من القانون، ومنها ما تعلق بمسكنه مثل حرمة المسكن التي لاتجيز التدخل في شئون الانسان الخاصة وشئون اسرته ممكنة بغير مسوغ قانوني، ومنها ما تعلق بالعقيدة والعبادة بان يعتنق الانسان الدين أو المبدأ الذي يريد، وما تعلق منها بالفكر بأن يكون للانسان حرية الرأي وحرية التعبير عنه سواء عن طريق الصحافة أو الاذاعة او غيرها من وسائل الاعلام، وما تعلق منها بالتجمع بان يتقرر للانسان حرية تكوين الجمعيات والانضمام الي ما يشاء منها مادامت أغراضها سلمية«.
والواقع ان حيثيات الحكم التاريخي للمستشار الراحل هي دروس ليس فقط بوصفها دروسا قانونية، بل الأهم انها دروس في الوطنية واحترام حقوق الانسان واستقلال القضاء، خصوصا ان هذا الحكم صدر في ذروة سطوة السادات وعنفه ذي الطابع الجنوني في بطشه بمعارضيه وتمضي سطور الحكم التاريخي مؤكدة:
»والذي لاشك فيه وتؤمن به المحكمة ويطمئن اليه ضميرها ووجدانها ان تلك الأحداث الجسام التي وقعت يومي 81 و91 يناير 7791 كان سببها المباشر والوحيد هو اصدار القرارات الاقتصادية برفع الأسعار فهي متصلة بتلك القرارات اتصال العلة بالمعلول والنتيجة بالأسباب. ولايمكن في مجال العقل والمنطق ان ترد تلك الأحداث الي سبب اخر غير تلك القرارات. فلقد اصدرت علي حين غرة وعلي غير توقع من احد، وفوجيء بها الناس جميعا بما فيهم رجال الأمن، فكيف يمكن في حكم العقل ان يستطيع احد ان يتنبأ بها ثم يضع خطة لاستغلالها ثم ينزل الي الشارع محرضا ومهيجا. ان هذا الغرض غير معقول وغير مقبول ذلك انه لم يقع فاصل زمني ما بين اعلان القرارات وخروج الناس، فما كادوا يقرأون ويسمعون حتي خرجوا من تلقاء أنفسهم لم يحرضهم أحد ولم يدفعهم فرد أو تنظيم ليعلنوا سخطهم وغضبهم«.
ويضيف أيضا:
»هذا التلاحم الزمني بين اعلان القرارات واندفاع الجماهير ينفي تماما احتمالات التحريض او الاثارة او استغلال الموقف أو ركوب الموجة لأن فردا مهما بلغ قوة ودراية وتنظيما ومهما كانت سرعته ودقة تخطيطه لايستطيع ان يحرك هذه الجموع الحاشدة« وسوف اختتم هذا التحليل السياسي والقانوني معا بما ورد حول السيد الشاهد حاتم زهران المعروف بحاتم تلستار وقدمته مباحث امن الدولة بوصفه احد مصادرها السرية:
»واذا تأملنا في امر هذا الشاهد مليا فلن يستوقفنا هذا الموقف الشائق من اداء للشهادة وعدول عنها ثم اصرار عليها تحت تأثير الدوافع المختلفة فقط، ولكننا وسوف تقابلنا صور اخري منافية لمقتضيات العقل والمنطق ومواقف يضفي فيها علي نفسه خارق القرارات وخفي الملكات.
فهذا الشاهد الذي يقرر عن نفسه امام المحكمة انه لايعرف حقيقة الشيوعية والشيعة وانه كان يظن ان الشيوعيين هم الشيعة دافعا نفسه بالجهالة أو بادعائها، نجده في مواقف اخري يخلع علي نفسه اردية الذكاء والقدرة الفائقة علي النفاذ بين اعضاء حزب العمال الشيوعي«.
وقام السيد حاتم تلستار »بما لاقبل لبشر به فنجده يوم 81/1/7791 مصاحبا لمظاهرة قادمة من جامعة عين شمس مخترقا شوارع القاهرة حتي ميدان التحرير، ووسط هذه الجموع الحاشدة والبحر المتلاطم من البشر يستطيع ان يتبين الأشخاص ويتعرف عليهم ويحدد نشاطهم رغم اختلاف مواقفهم«.
ومثلما اسلفت من قبل كان ميدان التحرير في كل هذا هو المصب الذي تتدفق علي حوافه الموجات في كل اتجاه، فالمجد لميدان التحرير، والمجد للمنتفضين والمحتجين ومحطمي قيودهم والثائرين علي قامعيهم.
مصب الغاضبين 7
مرت السنوات التالية علي نحو بطيء ثقيل، وبدأ ميدان التحرير يخلد للسبات، ولا اكاد اتذكر خلال عقد الثمانينات الا المظاهرات التي اعقبت غزو اسرائيل الهمجي لبيروت في صيف 2891 واجبار جيش منظمة التحرير الفلسطينية علي الرحيل والتوزع بين المنافي علي مرأي ومسمع من كل النظم العربية. ولأنني أكتب من الذاكرة ودون اعتماد، علي مصادر محددة، فأظن ان المظاهرات الضخمة استمرت عدة أيام، وبطبيعة الحال كان ميدان التحرير هو المصب للغاضبين. حتي المظاهرات التي خرجت من الأزهر اتجهت علي الفور الي ميدان التحرير، والتي جاءت من الجيزة وبولاق الدكرور لابد ان تعبر الميدان.
وكان عقد التسعينيات من القرن الماضي كئيبا قاحلا توقفت فيه بلادنا عن النمو ليستشري الفساد ويتحول إلي فساد منظم له قادته وميليشياته، وبدأنا في التحول تدريجيا الي نظام امني محكم ومحكوم بجهاز أمن الدولة، واستمرت أسماء مقررة علينا لأعوان رأس النظام تلعب نفس أدوارها المكرروة الكاذبة، ويتدهور التعليم والصحة والثقافة، وتظل نفس الوجوه في أماكنها سنوات وسنوات، ويتم العبث بالدستور والممارسة السياسية الي اخر كل ما ميز هذا العقد الكئيب.
أما ميدان التحرير فقد كاد يفقد بهاءه وزادت معدلات التلوث وازداد الزحام حوله فعاد للخلود إلي السبات.
ثورة الورد 8
تغير الحال خلال سنوات العقد الأول من الألفية الجديدة والتي انتهت بثورة الورد، وعاد ميدان التحرير ليلعب دوره، وشهد للمرة الأولي المظاهرات المليونية سواء التي تتجاوز المليون أو تقترب منه أثناء غزو العراق أو الهجوم علي غزة. وشهدت بلادنا خلال هذه السنوات عشرات الحركات الاحتجاجية والمنظمات المستقلة والحركات السياسية، ولم تقتصر مطالب هذه الحركات علي المطالب الاقتصادية فقط، بل شغلت المطالب السياسية حيزا لايستهان به.
خلال هذا العقد ايضا حاول نظام الحكم تدمير الروح المصرية مستخدما أكثر الأوراق خطورة مثل الفتنة الطائفية، وغدا الفساد أسلوبا للحكم، ورفض هذا النظام بصلف وغرور الالتفات مجرد الالتفات لمطالب الرعية وململتها وضجرها بثقل الوجوه التي ظلت تتكرر كأنها كوابيس.
المثير للدهشة هذا الانسداد الذي اصاب النظام، فالصحف تكتب وتتمتع بقدر لابأس به من الحرية، وبسبب توقيع الحكومة المصرية علي معاهدات دولية بالسماح لاشكال التعبير السلمي عن الرأي، تقف مظاهرات صغيرة جدا تحيط بها دروع الأمن المركزي، ومع ذلك فان الحكومة والنظام لايلتفتان دون ادني التفات لمطالب الناس، بل عرف عن الرئيس انه مولع بمفاجأة الناس باتخاذ عكس القرارات التي يحتاجها المجتمع ويمكنها ان ترفع بعض العبء عنهم دون اي عبء علي النظام. لقد بدأ النظام يعمل ضد نفسه ولم يعد يعبأ بورقة التوت بل يباهي الناس بسوءاته.
كثير من عقلاء النظام بل واصدقائه والمشمولين ببركته، وكذلك المعارضين المستأنسين له والأكثر منهم راديكالية، كلهم قدموا النصح وصاغوا قوانين وقرارات وقدموها للنظام لانقاذ بلادنا قبل الكارثة، لكنه أعرض وأصر علي ان يسير نحو الهاوية بصلف وغرور وتصلب واحتقار للآخرين، حتي ان الرئيس عندما تناول ما سوف يحدث بعد يومين من خطابه حول المظاهرات التي كان الشباب قد اعلنوا عن القيام بها في 52 يناير سخر من الجميع قائلا: خلوهم يتسلوا!«.
مئات الحركات الاحتجاجية خلال السنوات الست الأخيرة وسيطرة مطلقة ومباشرة للأجهزة الأمنية وفساد يرتع ويلعب وملايين تئن من البطالة والفقر بعد ان دق النظام المسامير الأخيرة في نعوش التعليم والصحة.. كل ذلك دون ان يرعوي احد منهم، بل علي العكس المزيد من الصف والغرور والسخرية والتنكيل بالمعارضين والنيل من الجميع.
مئات الفرص اتيحت للنظام ليغطي سوءاته: احتجاجات المحلة الكبري، والعشرات الذين افترشوا شارع مجلس الشعب لتنفيذ مطالبهم العادلة، احتجاجات القضاة وحركات التغيير، ما كان يجري يوميا علي سلم نقابة الصحفيين، مظاهرات حاشدة في عابدين والسيدة زينب وامام وزارة الداخلية وفي مئات المدن الاقليمية الصغيرة.
مئات الفرص فرّط فيها النظام بكل صلف وتصلب.. اما ميدان التحرير فقد بدأ في استعادة حيويته الا ان المؤكد انه حتي الميدان نفسه لم يكن يتخيل ان يحدث فيه ما حدث بالفعل.
سلمية سلمية 9
أنا سعيد الحظ جدا في الحقيقة. لم يحدث ان اهتز قلبي الي هذا الحد علي مدي ستين عاما. كان يوم 52 يناير يوما عاديا جدا، وكنت قد انتويت المشاركة مثلما اعتدت. اقف قليلا داخل قفص لاجأر بالصراخ ساعة أو ساعتين مدججا بدروع من عساكر الأمن المركزي الغلابة والذين دربوهم علي النهش. وبالفعل بعد الواحدة بدقائق كان هناك بضع عشرات قليلة اسفل محكمة النقض بدار القضاء العالي. وكالعادة ايضا كان المفروض ان ادخل القفص شأن العشرات واتسلي كما قال الرئيس! كان اليوم اجازة رسمية والشوارع شبه خالية، فعبرت شارع 62 يوليو، وبدلا من ان ادخل القفص استمريت في السير وانحرفت الي داخل شارع عبدالخالق ثروت، فوجدت اربعة محتجين فقط سألتهم عن الأحوال فأجابني احدهم مبتسما: »ربنا يبعت!«، فقلت لنفسي لأتمشي قليلا، وواصلت سيري في الشارع المجاور وعدت الي دار القضاء العالي. قلت لنفسي: »أمري لله.. ادخل القفص!«. لكنني عندما وصلت الي اول المظاهرة المحبوسة في القفص، فوجئت ان هناك مظاهرة اخري نجحت في اختراق الطوق الأمني وتدفقت في شارع رمسيس، فاطلقت ساقي في اتجاهها.
منذ تلك اللحظة تغير وجه بلادنا الي الابد وسقط النظام. كانت المعجزة الأسطورية تتشكل امامي. عشرات وعشرات اوقفوا السير في شارع رمسيس وراحوا يندفعون في اتجاه ميدان
عبدالمنعم رياض. شباب في عمر الورد مستعد منذ اللحظة الأولي.. لاتخريب ولا عنف.. سلمية سلمية.. فقط الشعب يريد اسقاط النظام، وهو الشعار الذي استعاروه من اخوتهم التوانسة البواسل، راح العدد يتزايد ويتزايد والشباب قادرون علي حمايتها والتقدم بها علي الرغم من الصدامات مع عساكر الأمن المركزي الغلابة.
مرة اخري، انا سعيد الحظ جدا فقد شهدت اقتحام المظاهرة الأولي لميدان التحرير وتحريره، وشاهدت شبابا يبكون- يبكون حرفيا، عندما نجحوا في اقتحام الميدان، وفي الوقت نفسه كانت هناك مظاهرة اخري تم مطاردتها من ناحية مجلس الشعب باستخدام القنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه، لكن المدد لم يكن يتوقف، صعدت -أنا الرجل المسن- فوق احد الأسوار وتطلعت حولي وتأكدت كم انا سعيد الحظ، فمن ناحية كوبري قصر النيل كان هناك مئات يتقدمون ومن ناحية شارع رمسيس مئات اخرون، ومن المداخل المطلة علي الميدان مئات اخرون، وقوات الأمن المركزي بدت حائرة وغير قادرة علي السيطرة، كان العدد يزداد كل دقيقة وارتال الأمن المركزي وعرباتهم المصفحة ومدرعاتهم بدأ عجزها عن التصدي.
لكنني لاحظت في هذا اليوم وما تلاه من ايام ان هؤلاء الشباب بقدر حرصهم علي منع التخريب والتحطيم للمحلات والسيارات والممتلكات العامة، وبقدر حرصهم علي تنظيم المظاهرة وتأمينها، بقدر تهم وعدم تهيبهم للخطة الواحدة، فعندما يتقدم جنود الأمن المركزي يتقدمون هم ويشتبكون معهم دون ادني تردد. شاهدت بعيني شابا يندفع بجسمه مهاجما مدرعة تقتحم الميدان ويطير في الهواء ليلحق بها ويغلق محبس المياه.
في تلك الليلة لم يكن ميدان التحرير وحده، كانت مصر كلها ميدان تحرير: في شبرا وبولاق الدكرور وبولاق أبوالعلا وشبرا الخيمة وعشرات الأحياء في القاهرة، وفي الاسكندرية والسويس والمحلة والاسماعيلية والمنيا وقنا وسائر المدن المصرية.
هل هي ثورة اذن؟!
نعم ثورة يا محمود ياورداني.. هكذا كنت أردد لنفسي غير مصدق. لا أريد ان اقوم بالتنظير والتقعير، لكنني ظللت طوال عمري احلم بان اشاهد ماشاهدته الان: المصريون يقومون بهدم واسقاط النظام الذي عذبهم واهانهم وسجن ابناءهم وقام بتجويعهم وتحويل بلادهم الي سجن كبير ترتع وتلعب فيه أجهزة الأمن لم تشهد بلادنا تدخلا مفضوحا يصل الي حق الفيتو من جانب هذه الأجهزة مثلما شهدنا خلال الثلاثين عاما الماضية.
نحن أمام ثورة ذات خيال مختلف. ثورة يتم الاعداد لها وتنفيذها علنا وعلي رؤوس الاشهاد، ويستطيع اي انسان ان يدخل علي موقع خالد سعيد ويتبادل الجميع النقاش علنا. ثورة للشباب (السيس) او الذي تصورنا انه (سيس) بينما هو يبني واقعه ومستقبله الافتراضي. ثورة لكل دوره واسهامه منها بدءا من نظافة الشوارع الي اللجان الشعبية للدفاع عن الناس والبيوت. ثورة منظمة تتحمل مسئوليتها وتحافظ علي استمرارها أجيال لاتعرف الا الطريق المستقيم الواضح.
ثم كانت الفضيحة التي ينبغي التوقف عندها وعدم السماح بمرورها ببساطة مطلقا، وهي فضيحة انسحاب كل قوات الأمن في لحظة واحدة واختفائها عمدا مساء يوم الجمعة ولا حاجة لذكاء خاص ليدرك اي طفل ان هناك خطة امنية منظمة لاخفاء واخلاء البلاد من عسكري واحد لحفظ الأمن، وفي الوقت نفسه كانت جهات اخري من الجهاز الأمني ذاته تقوم باعمال خطف وترويع لناشطين معروفين لها مثل مدير التسويق بشركة جوجل للشرق الأوسط، وهو شاب في اواخر العشرينات من عمره، وانكرت كل الجهات الأمنية انها تعلم اي شيء عن مكانه حتي مساء الأحد الماضي، وكان قد اختفي بعد ثلاثة ايام من بدء الانتفاضة وامكن لبعض اصدقائه تصوير عملية اختطافه من قلب المظاهرة، وهوالأمر الذي مكن المهندس نجيب ساويرس عضو لجنة الحكماء من الضغط علي الجهات التي ماتزال سيادية حتي الان وتلقي وعدا بانه سيتم الافراج عنه في الرابعة من عصر يوم الاثنين بعد ان انكروه كل هذه الأيام.
سيكشف هذا التحقيق الذي يجري الآن- اذا تم بشفافية كاملة- حول أسباب اختفاء ما يقرب من مليوني ضابط وجندي يعملون في وزارة الداخلية التي يتربع علي رأسها شخص واحد منذ 41 عاما، ويبدو ان احدا لم يكن يجرؤ علي الاطاحة به لأن وزارته ارتكبت اخطاء وخطايا وجرائم ضد الانسانية كانت كفيلة بالاطاحة بكل وزارات الداخلية في العالم!
واعتبر نفسي سعيد الحظ ايضا لانني كنت شاهدا علي لحظة اقتحام المظاهرة يوم الأربعاء 2 فبراير بالبغال والجمال والخيل، وبعيني شاهدت شابا لم يفر مثلي من امام الخيل وهاجم بلطجيا من فوق حصانه واسقطه وغنم حصانه! شاهدت ايضا كيف يقف هؤلاء الشباب (السيس) بثبات امام البلطجية المسلحين بالسنج والسيوف والمطاوي وزجاجات المولوتوف، ورأيت كيف قاموا بتلك الأعمال الاسطورية: أي تأمين واستمرار مئات الآلاف في ميدان التحرير ينتمون لكل الاتجاهات والتيارات السياسية ولكل الأعمار ومن كل محافظات مصر واستطاعوا ان يبدعوا صيغة موحدة لهم، ولم يسمع احد عن اي حادثة تحرش او »خناقة صغيرة« أو مشكلة بين مسلم وقبطي.
اما التليفزيون الحكومي فقد اتهم المتظاهرين بحصولهم علي اموال من امريكا واسرائيل وايران وفلسطين والهند والسند لتمويل المظاهرة، وحكي احد الذين استضافهم التليفزيون انه شاهد بعينه كيس الكنتاكي الذي يوزع علي كل متظاهر ويضم بطانيه (لا أدري كيف دخلت كيس الكنتاكي) وورقة مطوية باسم كتائب عزالدين القسام تحدد بالضبط كيفية خط السير والتواجد والتنقل، واضاف هذا الذي استضافه التليفزيون ان من كان يوزع هذه الأكياس ثلاثة يتكلمون باللغة السويسرية (ليست هناك لغة سويسرية!)، وحكي احد المذيعين انه شاهد بنفسه علي التوالي عند حاجز مجلس الشعب امرأة عجوز تحمل كيسا وبعد تفتيشها وجدوا ان بالكيس عشرة آلاف جنيه تنوي المرأة تهريبها للمتظاهرين، علي الرغم من ان مصادر عديدة اكدت ان العملاء من المتظاهرين كانوا يتقاضون أجورهم باليورو!!
ماكينة ضخ الأكاذيب تميزت بالرداءة الشديدة ولاتصمد أمام أي مناقشة، ومحاولات الوقيعة بين المتظاهرين والشعب لم تتوقف، وكان الشغل الشاغل لقناتي التليفزيون الرسميتين هو ان توغر صدر الشعب علي المتظاهرين حتي مساء الأحد الماضي عندما بدأ التليفزيون بخجل شديد يشبه خجل فتاة عذراء يستضيف شبابا حقيقيين من قلب المظاهرة، وليسوا شبابا افتراضيين يفترضهم التليفزيون المصري في استمرار للممارسات الأمنية التي كانت تجري في بلادنا وتم بالفعل تنظيم بلطجية وتأجيرهم والدفع بالمخبرين والضباط السريين لتخريب الاعتصام من داخله، وقاموا بالفعل باختطاف عدد من الشباب افرجوا عنهم بعد ضغوط عنيفة عن نائب الرئيس ورئيس الوزراء.
مجتمعا جديدا يلوح في الأفق.
في كل الأحوال ومهما تمخضت الأزمة المفتعلة والمرهونة بتنحي رأس النظام من حلول، فان مجتمعا جديدا يلوح في الأفق، ولابد من التمسك بالمكاسب التي دفع ثمنها مئات الشهداء وآلاف الجرحي يجب التمسك بشفافية التحقيقات التي تجري الان مع وزير الداخلية ومعاونيه حول الخطة المنظمة لاخفاء كل اجهزة الداخلية بل وحرمة أقسام الشرطة ومقار الحزب الوطني الحاكم واخراج المجرمين من السجون وتنظيم البلطجية واللصوص والمسجلين خطر.
وفي الوقت نفسه يجب التمسك بشفافية التحقيقات مع رموز الفساد وملاحقتهم ومطاردتهم بعد ان نهبوا بلادنا نهبا منظما دفع بنا إلي هاوية الفقر.
واثناء تجولي في الميدان طوال ايام الاعتصام (31 يوما حتي الآن) اشهد انه تحول الي نموذج جديد او طريقة مختلفة في الحياة، فالآلاف اصطحبوا اسرهم ونصبوا الخيام وعقدوا العزم علي البقاء، ولايجب الخوف منهم بوصفهم من الإخوان، فقد خاضوا تجربة ميدان التحرير مع كل ألوان الطيف السياسي وصاغت كل هذه الأطياف ملحمة من الصمود والعمل المشترك وصنعوا ثورة الورد السلمية من العدم وقادوا بلادنا الي الحرية.
وأخيرا.. المجد لميدان التحرير والشكر والعرفان للقوات المسلحة المصرية التي شرفت بالخدمة فيها ثلاث سنوات قبل وبعد حرب اكتوبر والخلود للشهداء اما الجراح فهي أوسمة في اجساد الشبان والشابات وليحفظ الله مصر.
اما حل الأزمة المفتعلة فهو امر يخص المعتصمين ونحن علي ثقة انهم قادرون علي حلها.. ألم يقودوا بلادنا الي الحرية؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.