أنغام باحتفالية مجلس القبائل: كل سنة وأحنا احرار بفضل القيادة العظيمة الرئيس السيسى    أبرز رسائل الرئيس السيسي للمصريين في ذكرى تحرير سيناء    السفير التركي يهنئ مصر قيادة وشعبا بذكرى عيد تحرير سيناء    أنغام تحيي احتفالية مجلس القبائل والعائلات المصرية بعيد تحرير سيناء    المجلس القومي للأجور: قرار رفع الحد الأدنى إلى 6 آلاف جنيه بالقطاع الخاص إلزامي    وزارة قطاع الأعمال: إقامة مجمع صناعي بالعريش للاستفادة من منتجات «المحلول المر»    سيناتور أمريكي ينتقد سياسات الحرب غير الأخلاقية لإسرائيل    لأول مرة، دي بروين يسجل هدفا برأسه في البريميرليج    قرارات عاجلة من النيابة بشأن حريق شقة سكنية في التجمع    استعد للتوقيت الصيفي.. طريقة تعديل الوقت في أجهزة الأندرويد والآيفون    أنغام تتألق في احتفالية عيد تحرير سيناء بالعاصمة الإدارية الجديدة (صور)    «لا تحاولي إثارة غيرته».. تعرفي على أفضل طريقة للتعامل مع رجل برج الثور    تجنبوا شرب المنبهات من الليلة.. الصحة توجه نداء عاجلا للمواطنين    طريقة عمل الكيكة العادية، تحلية لذيذة وموفرة    وزير الصناعة الإيطالي: نرحب بتقديم خبراتنا لمصر في تطوير الشركات المتوسطة والصغيرة    محافظ الإسكندرية يستقبل الملك أحمد فؤاد الثاني في ستاد الإسكندرية الرياضي الدولي    "الأهلي ضد مازيمبي".. كل ما تريد معرفته عن المباراة قبل انطلاقها مساء الجمعة    محمد الباز: يجب وضع ضوابط محددة لتغطية جنازات وأفراح المشاهير    خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف مكتوبة 26-4-2024 (نص كامل)    كرة يد - إلى النهائي.. الزمالك يهزم شبيبة سكيكدة الجزائري ويضرب موعدا مع الترجي    عضو «مجلس الأهلي» ينتقد التوقيت الصيفي: «فين المنطق؟»    حمادة أنور ل«المصري اليوم»: هذا ما ينقص الزمالك والأهلي في بطولات أفريقيا    عبد العزيز مخيون عن صلاح السعدني بعد رحيله : «أخلاقه كانت نادرة الوجود»    رغم ضغوط الاتحاد الأوروبي.. اليونان لن ترسل أنظمة دفاع جوي إلى أوكرانيا    التنمية المحلية تزف بشرى سارة لأصحاب طلبات التصالح على مخالفات البناء    «القاهرة الإخبارية»: دخول 38 مصابا من غزة إلى معبر رفح لتلقي العلاج    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    يقتل طفلًا كل دقيقتين.. «الصحة» تُحذر من مرض خطير    عالم أزهري: حب الوطن من الإيمان.. والشهداء أحياء    بعد تطبيق التوقيت الصيفي.. تعرف على مواقيت الصلاة غدًا في محافظات الجمهورية    جوائزها 100ألف جنيه.. الأوقاف تطلق مسابقة بحثية علمية بالتعاون مع قضايا الدولة    انخفضت 126 ألف جنيه.. سعر أرخص سيارة تقدمها رينو في مصر    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    فيديو.. مسئول بالزراعة: نعمل حاليا على نطاق بحثي لزراعة البن    أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية بالاستفزازية    المغرب يستنكر بشدة ويشجب اقتحام متطرفين باحات المسجد الأقصى    10 ليالي ل«المواجهة والتجوال».. تعرف على موعد ومكان العرض    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    إدريس: منح مصر استضافة كأس العالم للأندية لليد والعظماء السبع أمر يدعو للفخر    حبس عاطلين وسيدة لحيازتهم 6 كيلو من مخدر البودر في بولاق الدكرور    بيان مشترك.. أمريكا و17 دولة تدعو حماس للإفراج عن جميع الرهائن مقابل وقف الحرب    هل تحتسب صلاة الجماعة لمن أدرك التشهد الأخير؟ اعرف آراء الفقهاء    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    النيابة العامة في الجيزة تحقق في اندلاع حريق داخل مصنع المسابك بالوراق    «الداخلية»: ضبط قضايا اتجار في النقد الأجنبي ب 42 مليون جنيه خلال 24 ساعة    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    مشايخ سيناء في عيد تحريرها: نقف خلف القيادة السياسية لحفظ أمن مصر    "ميناء العريش": رصيف "تحيا مصر" طوله 1000 متر وجاهز لاستقبال السفن بحمولة 50 طن    إصابة 3 أشخاص في انقلاب سيارة بأطفيح    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    التجهيزات النهائية لتشغيل 5 محطات جديدة في الخط الثالث للمترو    خبير في الشؤون الأمريكية: واشنطن غاضبة من تأييد طلاب الجامعات للقضية الفلسطينية    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    ملخص أخبار الرياضة اليوم.. إيقاف قيد الزمالك وبقاء تشافي مع برشلونة وحلم ليفربول يتبخر    الهلال الأحمر يوضح خطوات استقبال طائرات المساعدات لغزة - فيديو    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سنن التغيير فى السيرة النبوية
نشر في الشعب يوم 15 - 05 - 2009


بقلم مجدى أحمد حسين

* الشعب المصرى ليس هو المسئول عن عرقلة وتأخير التغيير
* الزهد فى السلطة على المستوى الفردى واجب, ولكنه مرهون بمستوى الحركة التى تسعى للإصلاح
* لماذا يغفل بعضنا عن الاقتداء بالرسول فى التقشف والزهد؟!
* الهند تنتج كومبيوتر ثمنه 10 دولارات, ومصر مشغولة بسوزان تميم وأزمات الخبز والبوتاجاز


بسم الله الرحمن الرحيم
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي{25} وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي{26} وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي{27} يَفْقَهُوا قَوْلِي{28}) (طه)
ننشر هذا الباب من مسودة الجزء الثانى من دراسة مجدى أحمد حسين (العصيان المدنى.. رؤية إسلامية) والتى صدر الجزء الأول منها مؤخرا، ننشر المسودة بسبب وجود مجدى حسين فى السجن, ولم يتمكن من مراجعتها النهائية، ولكنه وافق على نشرها على حلقات على أن يراجعها بشكل نهائى قبل صدورها فى كتاب إذا أذن الله بفك أسره. ورأى مجدى حسين أن نشر المسودة سيساعد على الاستفادة من ملاحظات المفكرين والعلماء والقراء عموما حول الدراسة.

تمهيد :
أحمد الله سبحانه وتعالى أن انتهى الجزء الأول من هذه الدراسة، وهذا هو الجزء الثانى الذى يتضمن بالأساس استخلاص أهم القوانين الأساسية للصراع السياسى من سيرة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
قلنا فى الجزء الأول أن العصيان المدنى أى انتهاج أسلوب الاحتجاج السلمى كان هو طريق الرسل والأنبياء فى مواجهة المستكبرين وحكام الاستبداد والطغيان، وأن الأساليب السلمية كانت هى الطريق لنشر الدعوة وإحقاق العدل, وقد سار المصلحون فى مختلف أنحاء العالم على دربهم، وحتى الحركات الإصلاحية غير الدينية فقد انتهجت نفس الطرائق لأنها من سنن الله فى خلقه. إن استخدام العنف مشروع بشروط معينة أساسها حماية المجتمع المسلم بعد إقامته من عدوان مسلح خارجى أو داخلى، وأيضا لنصرة المسلمين إذا تعرضوا للاضطهاد, أو تعرضت ديارهم للاحتلال فى أى مكان فى العالم، مع الأولوية للأقرب ثم الأبعد (قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً) (التوبة: 123), ولكن استخدام الجهاد المسلح غير جائز لنشر الفكر والدعوة، ولا لتغيير الأنظمة السياسية فى الصراع المحلى، إلا فى حالات خاصة عندما يتم ذلك بأسلوب العمليات الجراحية وبدون فتن دموية ممتدة. ولعل أحدث مثلين تاريخيين: هما الانقلاب العسكرى للإنقاذ فى السودان، واستيلاء حركة طالبان على الحكم فى كابول عقب خروج القوات السوفيتية من أفغانستان. أعنى أن استخدام العنف المسلح ليس مجرما شرعا للإطاحة بنظام ظالم أو فاسد, وهذا ما ورد صراحة فى كتابات الدكتور يوسف القرضاوى وشيخ الأزهر السابق محمود شلتوت، ود. محمود توفيق محمد سعد من علماء الأزهر, على سبيل المثال من العلماء المعاصرين (تجد رأى الأول فى دراستى "الجهاد صناعة الأمة"، ورأى الثانى فى دراستى "الإسلام والحكم"، ورأى الثالث فى دراستى "العصيان المدنى: رؤية إسلامية - الجزء الأول")، ولكن الشرط الفقهى المعروف هو ألا يكون الخروج على الحاكم (أى الثورة) يؤدى إلى فتنة أكبر من استمرار النظام الظالم. بمعنى شريطة ألا يؤدى الخروج إلى مذابح دموية بلا طائل, وبدون حسم سريع للصراع, وإلا فإن الخروج يمثل ظلما أكبر, لأنه يؤدى إلى خسائر أكثر فى الأرواح والحياة الاقتصادية والاجتماعية. وكنت إبان الصراع الدموى فى الجزائر عقب الانقلاب العسكرى الذى أطاح بالجبهة الإسلامية للإنقاذ من الحكم بعد فوزها فى الانتخابات، كنت قد أيدت موقف الجناح العسكرى للإنقاذ عندما أعلن وقف القتال، ذلك لأن الصراع المسلح امتد لسنوات, وأدى لمقتل أكثر من 100 ألف مواطن دون حسم، وقد يكون ذلك بسبب تشرذم الحركات الإسلامية. المهم أن الشروط لم تكن ملائمة لحسم سريع للصراع، وبالتالى فإن العودة للمعارضة السلمية تكون هى الأوفق.
وعلى خلاف المقولة الشهيرة للماركسية (أن العنف هو قابلة التاريخ) فليست هذه هى الرؤية الإسلامية، العنف المشروع فى الإسلام أشبه بالعملية الجراحية فى عالم الطب، فمن 80 إلى 90 % من الأمراض يعالجها الطب بوسائل شتى: أدوية - نظم غذائية - علاج طبيعى - راحة واستجمام.. الخ, ومن 10 إلى 20 % يتم اللجوء إلى العمليات الجراحية, وهى حكمة قديمة (آخر الدواء الكى)، وفى عالم الطب الحديث يتجه الطب العالمى إلى الحكمة القديمة: تقليل التدخل الجراحى إلى الحد الأدنى.. الحد الاضطرارى. وبالتالى فإن استخدام العنف المشروع (الجهاد المسلح - القصاص - قتال الفئة الباغية - حق الدفاع المشروع عن النفس والمال والعرض) جد محدود فى الإطار الحضارى الإسلامى. بينما الاعتماد الأساسى على نشر الفكر والتربية والوازع الدينى، وتقوى الله، وإعمال مبدأ التنافس السلمى، وقد أدى هذا إلى أن تكون مجتمعاتنا الإسلامية رغم تخلفها الراهن على مستوى الأنظمة الحكومية أكثر أمنا من بلاد أكثر تقدما من الناحية المادية كالولايات المتحدة وروسيا.
أما فيما يتعلق بموضوعنا: وهو أساليب تغيير الأنظمة السياسية الظالمة، فإن الأصل فى الموضوع هو إعادة تجديد الفكر الإسلامى، ليس بالمعنى المنحرف السائد الذى يدعو إليه الغرب وحكامنا وفقهاء السلطان، ولكن بالمعنى الفقهى الصحيح، أى إعادة تجلية جوهر الدين كما ورد فى القرآن الكريم والسنة النبوية المؤكدة، وإعادة تنزيل النصوص على الواقع المتجدد. وبالتالى فإن الحركات الإسلامية مطالبة بقطع شوط لاستعادة الوجه الحقيقى للدين وتطبيقه المباشر على أحوالنا المعاصرة المعاشة، وإعادة جماهير المسلمين إلى جادة الطريق، فى اتجاه الإصلاح والتغيير، بإعادة الاعتبار للجهاد بمعناه الشامل (بذل الجهد فى سبيل إعلاء كلمة الله وإقامة المجتمع الإسلامى، وبذل الجهد بالقتال نوع من أنواعه. وأما غايته، فهو إقامة المجتمع الإسلامى وتكوين الدولة الإسلامية الصحيحة).
ويمكن أن نضيف لهذا التعريف: مع الدفاع عن المجتمع المسلم وكافة المسلمين فى العالم. ونضيف تعريف ابن القيم الجوزية: (الجهاد فرض عين إما بالقلب وإما باللسان وإما بالمال وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع).
وتحتاج الحركات الإسلامية لربط النصوص بالواقع,وإبراز موقف الإسلام بلا خوف أو وجل، وفيه كل ما يشرف ويرفع الرأس.. ومن ذلك إعادة الاعتبار لفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إعادة الاعتبار لموقف الإسلام من الظلم والطغيان والاستبداد، وأنه دين العدل والعدالة، وأنه يحض على مقاومة الظالمين، ونصرة المظلومين من أى جنس ولون ودين، وأن الشورى وانتخاب الحاكم من أركان الدين، وأن حرية العقيدة مصونة فى ظل الإسلام بأكثر من أى نظام آخر، وأن النظام الإسلامى لا يعادى أحدا فى الداخل أو الخارج بسبب الخلاف فى الدين، ولكن بسبب الظلم والاعتداء، وأن الإسلام نصير الفقراء والمستضعفين، وأنه أكبر مدافع عن حقوق المرأة والطفولة، وأرقى نظام للدفاع عن حقوق الإنسان (رغم ادعاءات الغرب).
ونريد أن نقنع جماهير المسلمين أن دينهم يعنى العزة والكرامة، وأن الحاكم أجير عندهم، وليس متسلطا عليهم, وأن أساس ديننا أن نقول الحق لا نخاف فى الله لومة لائم، وأن مقاومة الظلم هى أساس التوحيد والعبادة، وأن خشية الحاكم وقمعه أكثر من خشية الله تخرجنا من صحيح الدين: (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ) (التوبة: 13).
ولا أقول أننا نحتاج إلى شوط طويل، بمعنى الأحقاب والقرون، لأننا قطعنا شوطا لا بأس به فى هذا السبيل فى بلاد العرب والمسلمين، ولسنا فى نقطة الصفر، وكذلك فقد شرحت من قبل أنه يتعين علينا السعى إلى النصر فى كل جيل، وعدم تأجيل النصر لأجيال أخرى، وإلا كأننا نؤجل الدين لأجيال أخرى!!
ولكن أعنى أن معركتنا بالأساس هى معركة كسب العقول والقلوب، عقول وقلوب المسلمين للعودة للفهم الصحيح للدين، ولإقناع غير المسلمين وكافة التيارات الوطنية الأخرى بمشروعنا الحضارى. وإقناع الجمهور عموما بدوره الدينى والوطنى لإحداث التغيير, وعدم الرضا بالقهر والظلم والاستغلال والاستبداد والتبعية لأعداء الأمة، وعدم الخوف من أجهزة القمع التى يتمترس خلفها الحاكم الفاسد.
وهذا يعنى أننا نحتاج للوسائل السلمية للشرح والتجميع والتعبئة لجموع الأمة، ونريد للأمة أن تسمعنا بينما يسعى الحكام من منعنا من مجرد مخاطبة الجمهور، فأغلقوا صحفنا، وضيقوا علينا الفضائيات، وكافة وسائل الإعلام، وأصدروا تشريعا خاصا لمنعنا من الحديث فى المساجد، ويفضون المظاهرات والاعتصامات السياسية لأنها إحدى وسائل التواصل مع الجماهير، ويعتقلون من يوزع البيانات، ويعتقلون نشطاء الانترنت، ويضربون مواقع الانترنت، ولكن مهما فعلوا لن يستطيعوا منعنا من التواصل مع الجمهور، ولكن المعضلة الأكبر: هى الرسالة التى نوصلها إلى الجمهور ما هو مضمونها؟ لا يزال القطاع الأكبر من الإسلاميين لا تتضمن رسالته الحكم بعدم مشروعية هذا النظام، ولا تتضمن حشد الناس من أجل التغيير، وهذا هو العائق الأكبر فى سبيل التغيير، وإلا فإن الظروف مهيئة وخصبة للغاية من أجل هذا التغيير. وهذا التحليل للسيرة النبوية الشريفة، هو محاولة جديدة مستميتة من قبلى لإقناع جمهور الإسلاميين الذين يقدرون بالملايين ويزعمون أنهم قلة، وأنهم ما يزالون فى مرحلة الضعف والاستضعاف، وبعضهم يقول أن آوان العمل السياسى لم يأت بعد!!
إن الوضع السياسى - الاقتصادى - الاجتماعى متأزم فى بلادنا إلى أقصى حد، ومصر تعيش أزمة حضارية شاملة, والشعب المصرى يعانى من شتى صنوف الويلات، وقد خرج بكل طوائفه دفاعا عن مصالحه المشروعة فى حد أدنى من الحياة الكريمة, وضد استبداد الشرطة وجرائمها، ولكنه يخرج بدون قيادة سياسية فى مئات وآلاف المعارك الجزئية، من الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات، وقد حقق الشعب انتصارات فى بعض هذه المعارك وإخفاقات فى أخرى، ولكنه عرف طريقه للمناجزة والمغالبة، فى إطار معركة كل طائفة على حدة، والمحصلة النهائية لن تؤدى إلى إصلاح حقيقى من أى نوع، لأن بيت الداء هو هذا النظام الفاسد، وليس هذا الخطأ أو ذاك، وليس هذه القيادة المحلية أو تلك. وقد شاخ النظام وانتهى عمره الافتراضى، وانتهى المبرر التاريخى لوجوده، ولكنه لن يغادر المسرح من تلقاء نفسه، وهو الأمر الذى يؤدى إلى حالة من التحلل والتفكك والانهيار المجتمعى الشامل.
إن المرء ليحزن على أحوال مصر، ولا يدرى هل يبكى بالدماء بدلا من الدموع عندما يرى الأمم التى كانت وراءنا تنافس الآن على المراكز الأولى فى العالم، بينما نحن مشغولون بالصراع حول رغيف خبز أو أنبوبة بوتاجاز أو نبحث فيه عن مكان نستر فيه نساء الدويقة والشرطة تحاربنا، مشغولون بمقتل سوزان تميم، أقلعنا عن الإنتاج ونستورد من الإبرة إلى السيارة, بينما الهند تتجه الآن لإنتاج كومبيوتر (لاب توب) سعره 10 دولارات لتنشر العلم وتقيم ثورة ثقافية فى أنحاء شبه القارة الهندية، بينما أرخص كومبيوتر أمريكى ب 200 دولار، وماليزيا التى كانت مجرد مزرعة مطاط عندما استلم مبارك الحكم فى مصر، هى الآن ضمن العشر الأوائل بين الدول الصناعية، وايرلندا المستعمرة البريطانية التى تحررت فى وقت متقارب معنا، تصدر الآن منتجات الكترونية ب 50 مليار يورو سنويا، وتحتل المركز الرابع فى العالم فى مجال الصادرات الالكترونية، وآخر إحصاء رسمى عن صادرات مصر من هذه المنتجات يشير إلى أنها تمثل 01 و % من صادرات مصر!!
فعندما أشير فى مقالاتى مرارا إلى أن حكم مبارك جعل مصر خارج التاريخ لا أقول كلاما إنشائيا أو حماسيا أو بلاغيا بل حقيقة مرة يتفطر منها قلب أى وطنى مصرى.
ومما يؤسف له أن بعض قادة نخبتنا المعارضة من الإسلاميين وغير الإسلاميين يتحدثون عن الشعب المصرى وعدم أهليته للثورة، فهل يملك هؤلاء جهازا حاسبا صغيرا ليعدوا عدد الإضرابات التى تحدث يوميا وشهريا فى مصر خلال العاميين الماضيين، بينما لا توجد قيادة سياسية جبهوية تجاريه ، وتقوده وتوحد صفوفه.
إن الشعوب لا تتحرر بدون تنظيم سياسى قائد, أو جبهة وطنية عريضة تحدد له أهداف المرحلة، وتقوده إلى النصر، ولاعتبارات تاريخية - ليس مجال تفصيلها فى هذا الموضع - فإن التيار الإسلامى هو المؤهل فى هذه اللحظة للقيادة، وتنكبه عن دور القيادة الجريئة والشجاعة والثورية، هو المسئول عن تأخر التغيير فى مصر.
والآن فنحن على أعتاب النظر التحليلى فى سيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام، لنستخلص لأنها سنن التغيير، التى نجح من أخذ بها حتى وان لم يكن إسلاميا، فالقوانين والسنن الاجتماعية كالقوانين الطبيعية تعمل مع من يفهمها ويقدرها ويعمل بها. وإذا لم يدركها الإسلامى فإنه يخسر مرتين: يخسر دينيا، لأنه لم يتعلم من آلاء الله وآياته التى أمره بالنظر فيها ودراستها والعمل بها, ويخسر دنيويا ويخسر معه الوطن فرصة الإصلاح والتغيير.
وهذه الدراسة لا تستهدف كتابة جديدة للسيرة النبوية, فما أكثر الكتب والدراسات القديمة والمعاصرة حول هذا الموضوع. وهى لا تكتشف معلومات جديدة، فكل الدراسات حول السيرة مجمعة حول الوقائع والأحداث الرئيسية, بالإضافة للتوثيق القرآنى لمعالمها الأساسية. ولكن تستهدف الدراسة أهم سنن التغيير، فكما كان القرآن الكريم معجزة الإسلام، وهو وثيقة تتحدى الأفهام والعقول حتى نهاية العالم، فهو معجزة عقلية إن جاز التعبير، إنها الطبعة النهائية لرسالات السماء إلى الأرض, فلابد أن تكون فى يد كل إنسان ليقيمها بنفسه، ولم تكن المعجزة الأخيرة طوفان نوح، أو معجزة إبراء الأكمه والأبرص، لأن أى إنسان يمكن أن يقول: والله لم أرى ذلك بنفسى!
ما يزال الباحثون الغربيون يبحثون عن سفينة نوح فوق جبل أرارات بتركيا، ويدعى بعضهم أنه وجدها، وصورها موجودة على موقع حزب العمل، ولكن حتى إن صح ذلك فإنه لن يحل كثيرا مشكلة الطوفان وكيف جرى: (وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ{50} أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{51}) (العنكبوت).
بل لقد حسم القرآن الكريم القضية فى مسألة رفض المعجزات، لأن الأولين كفروا رغم هذه المعجزات: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ) (الإسراء: 59).
كذلك كانت سيرة محمد عليه الصلاة والسلام قصة انتصار بسنن التغيير الاجتماعى التى وضعها الله للبشرية جمعاء، دون أن ننكر الوحى والتوفيق الإلهى، ويد الله فى التاريخ، هى القانون الأول الذى يعمل منذ بدء الخليقة وحتى نهايتها، ولكن فى إطار فوز الذى يستحق النصر، حتى وإن لم يكن على دين الله، فهى قوانين تعمل كالساعة، أما إذا أخذ المؤمنون بالأسباب فإنهم ينتصرون، والله لا ينصرهم إلا بقدر ما يستحقون: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)، وفى هذا المجال تكون الطاقة الإيمانية أحد عوامل النصر الأساسية, لأنها تمد الإنسان بطاقات معنوية لا نهائية، تتحول إلى فاعلية مادية فى الصراع، وحتى الإمداد بالملائكة وصفه الله فى القرآن أنه مجرد بشرى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ{9} وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ) (الأنفال: 9 - 10).
إن الله سبحانه وتعالى هو العدل، والعدل المطلق، فهو لا يحابى أحدا، ولا ينحاز لأحد لأنه يرفع شعار الإسلام دون مضمونه (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) (النساء: 123).
إن السيرة النبوية من المفترض أن تدرس فى كليات العلوم السياسية لأنها نموذج مذهل لانتصار تحقق بكل ما يعرف الآن بأساليب الصراع، والتكتيك والإستراتيجية، والبراعة فى إدارة الصراع، والمناورة التى لا تتخلى عن المبادىء، وكيفية الانتقال من مرحلة إلى مرحلة فى العمل السلمى، والانتقال من مرحلة إلى أخرى فى العمل الحربى، ثم العودة من جديد إلى العمل السلمى من نقطة أعلى.
يقول الله عز وجل: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21).
ورغم حب المسلمين لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام إلا أن معظمهم لا يقتدون به فى أهم مجالين، رغم الاهتمام بالاقتداء به فى أداء الشعائر، وبعض الأخلاقيات، والزى والسواك، والخاتم الفضى واللحية، أما أهم مجالين فهما:
1- التقشف فى حياته الشخصية.
2- الجهاد باللسان فى المرحلة المكية والجهاد المسلح فى المرحلة المدنية.
ولا شك أن المجاهدين فى ميادين القتال فى فلسطين ولبنان وأفغانستان وغيرها, هم الذين يقتدون بالرسول عليه الصلاة والسلام اقتداء شاملا بما فى ذلك هذين المجالين المهجورين، ولكن القطاع الأكبر من المسلمين بسبب تقصير بعض قيادات الحركة الإسلامية لا يزالون محصورون فى دائرة: الشعائر والسواك والأخلاقيات الفردية واللحية وحف الشوارب.
ولكن من المهم أن نشير إلى أن هذه الدراسة تركز أكثر على المرحلة المكية لأنها هى التى تماثل وضعنا الآن فى مصر ومعظم البلاد العربية والإسلامية، حيث الإسلاميون فى المعارضة ومن المفترض أنهم يسعون للوصول إلى السلطة لإقامة الدولة الإسلامية، فهل يتبعون الرسول عليه الصلاة والسلام فى منهجه وطرائقه؟! أحسب أن لا! لأنهم يخلطون بين المرحلة المكية السرية (3 سنوات) والمرحلة المكية العلنية (10 سنوات)، ويستعيرون من المرحلة السرية الأولى أمثلة لتأييد صحة مواقفهم، رغم أن ظروف بلادنا العربية والإسلامية أقرب إلى المرحلة المكية العلنية بكثير منها إلى السرية، ولا أظن أن هذا الخلط نابع من مجرد الخطأ الفكرى، ولكنه بالإضافة لذلك ربما يكون تهربا من تكاليف الجهاد السلمى العلنى تحت شعار "الحفاظ على التنظيم".
كذلك فإن فريقا من التيار الإسلامى قفز إلى المرحلة المدنية واستعار منها مباشرة الجهاد المسلح، وهو ما أدى إلى خسائر فادحة فى عدد من البلدان: كتجربة الجماعة الإسلامية فى مصر وما تمارسه القاعدة فى الجزائر والمغرب الآن، بينما تكتيك وإستراتيجية المرحلة المدنية ينتسب إلى وجود دولة إسلامية, وإن كانت صغيرة فى المساحة والحجم (دولة المدينة يثرب).
على أى حال، يبدو أن هذا التمهيد أكثر من كاف لندخل فى الموضوع مباشرة، وأسأل الله العلى القدير أن يوفقنى، فهو وحده المطلع على النيات، وأننى لا أستهدف به إلا وجهه تعالى، ولا أحلم إلا برايات النصر مرفوعة، لاستعادة مجد هذه الأمة المهدر، ولا أسئل الله إلا أن أكون جنديا فى كتيبة التغيير أو شهيدا، وأن يظل دعائى الأثير هو دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أحينى مسكينا وأمتنى مسكينا واحشرنى فى زمرة المساكين"، ولكن على المستوى العام فإننى أحلم بالنصر، والتمكين لدين الله فى الأرض، وأن نقيم الدولة الإسلامية، نعم بهذا المعنى فإننى أسعى للوصول إلى السلطة (كتيار وكأمة)، وأرى من مصائب بعض الحركات الإسلامية أنها تعلن على سبيل الفخر أنها لا تسعى للسلطة، ولا أدرى كيف ستسير الجماهير خلفها بهذا الشعار!!
إن السعى للسلطة واجب شرعى، ومن يصرف عنه يأثم، وهو ابتلاء يتعين عدم الهروب منه، وهكذا أمرنا الله، ولا نملك إلا أن نقول سمعنا وأطعنا، فالزهد فى السلطة على المستوى الفردى واجب، ولكنه مرزول على مستوى الحركة التى تسعى إلى الإصلاح.
(وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ{5} وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ{6}) (القصص).
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ{105} إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ{106}) (الأنبياء).
التمهيد الثانى: مصطلح العصيان المدنى
العصيان المدنى - الخروج على الحاكم - الثورة الشعبية - الانتفاضة الشعبية - الإضراب العام السياسى: مصطلحات ذات معنى واحد
نود أن نوضح فى البداية أن مصطلح العصيان المدنى، هو مصطلح غربى تم تعريبهcivil disobedience و obedianceفى اللغة الانجليزية تعنى الطاعة، و disobedience العكس أى عدم الطاعة أو العصيان، و civil تعنى مدنى. وهو مصطلح سياسى معاصر لا أدرى فى أى مناسبة تم تدشينه، ولكنه اشتهر بتجربتين فى العصر الحديث (القرن العشرين)، تجربة الحركة الوطنية الهندية بزعامة "المهاتما غاندى" ضد الاحتلال البريطانى، ولقد كانت فى الأصل فكرة واقتراح الحركة الإسلامية فى الهند، ولكن غاندى (وحزب المؤتمر) تبناها وارتبطت باسمه.
والحقيقة فإن "غاندى" بدأ ممارسة هذا النهج عندما كان يعيش فى جنوب أفريقيا, فى ظل الحكم العنصرى الغربى الأبيض, والذى كان يتعالى على الأفارقة السود والهنود, وكانوا أقلية كبيرة مهاجرة ومستقرة فى هذا البلد. وكان "غاندى" يعمل محاميا، وآلى على نفسه الدفاع عن المضطهدين, وكان السود والهنود - على سبيل المثال - ممنوعين من ركوب الدرجة الأولى فى القطار. وقرر "غاندى" - أثناء سفره لحضور إحدى جلسات المحكمة - أن يتحدى هذا القرار الجائر، واشترى تذكرة بالدرجة الأولى فى القطار وجلس فيها. وعندما أكتشف تم طرده من القطار بصورة عنيفة من قبل الشرطة وإلقاؤه على رصيف أول محطة هو ومتاعه. غاندى لم يقاوم الشرطة, ولكنه ظل يكرر ذلك حتى حصل على هذا الحق هو والمواطنون الهنود والسود، باستخدام وسائل الإعلام فى فضح هذه الممارسات العنصرية. وعندما عاد غاندى إلى الهند طور هذه الممارسة فى مواجهة الاحتلال البريطانى، وكان ينظم التجمعات والمسيرات شريطة ألا تواجه بالعنف قوات الشرطة العميلة أو قوات الاحتلال، ونعرف أن هذا النهج أدى إلى استقلال الهند فى النهاية، رغم وقوع كارثة انفصال باكستان عن الهند، وكان غاندى شديد العداء للصراعات العنصرية التى كانت تقع بين الهندوس والمسلمين, واضطر بسببها إلى الدخول فى أكثر من إضراب عام عن الطعام حتى الموت، حتى تتوقف المواجهات الطائفية. ولكنه لم يتمكن من محاصرتها, وهو الأمر الذى أدى إلى انفصال باكستان كدولة إسلامية عن الهند، وتم اغتياله على يد هندوسى متعصب ليدفع غاندى حياته ثمنا لمعتقداته.
وقامت نظرية غاندى على أساس أن استخدام الاحتلال البريطانى للعنف ضد الهنود دون مبادلتهم العنف، يؤدى إلى إساءة سمعة بريطانيا التى تدعى الحضارة والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان. وكان استخدام وسائل الإعلام المحلية والعالمية وسيلة بارعة وأساسية لإدارة هذا الصراع، لتأكيد أن الشعب الهندى شعب مسالم، وأن بريطانيا هى الطرف الباغى والعدوانى والمجرم. ورغم ذلك كان هناك مواجهات دامية تحدث بين الجماهير الهندية وقوات الاحتلال بين حين وآخر، ولكن غاندى لم يكن يؤيد الرد العنيف على الاحتلال، وظل الطابع الأساسى للحركة سلميا حتى استقلال الهند.
والتجربة الثانية التى أشهرت مصطلح العصيان المدنى، هى حركة الأفريقيين السود بزعامة "مارتن لوثر كينج" لمواجهة العنصرية البيضاء المقيتة ضد السود فى الولايات المتحدة، والتى اندلعت فى النصف الثانى من القرن العشرين، حيث كان السود يمنعون على سبيل المثال من دخول أماكن عامة كبعض الفنادق والمطاعم، وأيضا بعض وسائل المواصلات إلا فى مقاعد خلفية مخصصة لهم، وقد كان من الطبيعى أن تجد مطعما يضع تحذيرا على واجهته (ممنوع دخول الزنوج والكلاب!)، وقد انتهجت حركة مارتن لوثر كينج وسائل العصيان المدنى بعدم استخدام العنف، ومن أشكال ذلك مقاطعة وسائل المواصلات العامة والذهاب إلى العمل سيرا على الأقدام وغيرها من الوسائل المماثلة. والطريف أن مصير مارتن لوثر كان مثل غاندى: الاغتيال. ولكن أيضا نجحت حركته فى القضاء على الكثير من مظاهر التمييز العنصرى، حتى حدث ما لم يكن فى حسبان أحد: أن يكون رئيس الولايات المتحدة عام 2008 من السود!
ويطلق أحيانا على هذا النهج تعبير: (المقاومة السلبية أو العصيان السلبى) فى إشارة إلى عدم الرد على العنف إلا بالصمت، مع مواصلة الإصرار على الاحتجاج السلمى، وهى تسمية غير دقيقة لأن العصيان المدنى منتهى الايجابية, ولكن المقصود به هو الرد السلبى على الإيذاء البدنى وهو شعار الإنجيل: (من ضربك على خدك الأيمن أدر له خدك الأيسر), وهو مبدأ عميق فى دلالته, ويجب عدم أخذه على معناه الحرفى باعتباره نوعا من المذلة أو قلة النخوة. وهو نفس المعنى الذى ورد فى القرآن الكريم: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت: 34)، فأنت إذا سبك إنسان فقلت له: سامحك الله، فهذا أقوى من رد السباب عليه بنفس الفحش.
وجاء فى القرآن الكريم موقف ابن آدم مع أخيه: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ{28} إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ{29}) (المائدة).
فهذه المواقف الصابرة هى التى تصنع الحضارة الإنسانية الأرقى، وليس استسهال سفك الدماء والانتقام ومبادلة العنف بالعنف, إلا فى حدود استثنائية ومحددة, أشرنا إليها من قبل.
ونعود مرة أخرى إلى مصطلح العصيان المدنى، فرغم أنه مصطلح غربى، إلا أنه أشبه ببضاعتنا التى ردت إلينا، وبالتالى لا مشاكل فى المصطلح طالما يتوافق مع الشريعة، فى مضمونه، كما لا يوجد ما يُستنكر فيه كتعبير، فإذا كان العصيان ضد المنكر فهو محمود، وإذا كان سلميا فهو مرغوب أيضا، وقد اخترته كعنوان للدراسة لأنه أصبح المصطلح الأكثر شيوعا فى حياتنا السياسية فى المرحلة الأخيرة فى مصر.
ولكن الموضوع الأكثر أهمية أن يدرك الناس أن العصيان المدنى ليس شيئا مختلفا, بل هو متطابق مع مصطلحات الفقه الإسلامى: الخروج على الحاكم، أو المصطلحات السياسية المعاصرة: الثورة الشعبية - الانتفاضة الشعبية - الإضراب العام السياسى من أجل التغيير. غاية ما هناك أن مصطلح العصيان المدنى قد يستخدم لوصف حركات قد لا تستهدف التغيير الشامل، ولكن لتحقيق انجاز مشروع فى قضية نوعية محددة, كمسألة التمييز العنصرى فى الولايات المتحدة، فى مقابل حركات للسود انتهجت العنف (الفهود السود), ومن الواضح أن النهج السلمى هو الذى انتصر للقضية. ودراستنا هذه تنصب فى جزئيها على مفهوم التغيير السياسى بالوسائل السلمية، نقصد تغيير السلطة السياسية الجائرة التى ألغت إمكانية التغيير عن طريق الانتخابات الحرة النزيهة، ولم تترك لنا سوى طريق العصيان المدنى. ولكن من المهم أن نشير إلى أن اختيار النهج السلمى لا يعنى انتفاء العنف تماما، فسيظل العنف واردا بنسب متفاوتة، لأن هذه من طبائع البشر، وكذلك فإن بعض المواقف قد تستلزم الرد العنيف، فى الهند والولايات بصورة أو بأخرى على بعض الممارسات الجائرة.
وفى التجربتين المشار إليهما لم يسلم الأمر من المواجهات العنيفة، فى الهند والولايات المتحدة، من الجماهير الغاضبة، ولكن القيادة السياسية كانت تدفع الأمور إلى الخط الرئيسى السلمى.
وفى كثير من الثورات السلمية لم يسلم الأمر من أعمال العنف فى اللحظات الأخيرة من الصراع، حدث هذا فى ثورة 1917 الشيوعية فى روسيا، وفى الأيام الأخيرة للثورة الإيرانية ضد الشاه، وفى الانتفاضات الشعبية التى شهدها التاريخ المصرى ضد بعض الحكام فى العهدين العثمانى والمملوكى، ويرجع ذلك إلى سببين: أن تفكك آلة الدولة المستبدة يؤدى إلى انضمام جزء من قوات الشرطة والجيش إلى الشعب الثائر فى المرحلة الأخيرة، وهم ينضمون بأسلحتهم، كذلك فإن الجماهير تقتحم بعض الثكنات ومراكز الشرطة وتستولى على بعض الأسلحة، وكما ذكرت فإن ذلك يحدث فى اليوم الأخير أو الأيام الأخيرة القليلة قبيل السقوط النهائى للنظام، ولكن يبقى الطابع الأساسى للثورة الشعبية السلمية هو الذى يحسم الأمر، وهو الذى أدى إلى تفكيك آلة القمع, وفى هذه الحالة يكون استخدام العنف جد محدود بالمقارنة مع الثورات المسلحة.
أما فى الثورات فى العهدين المملوكى والعثمانى وما قبلهما، فقد كان التسليح الشخصى منتشرا وغير مجرم, وبالتالى فإن الثوار كانوا عادة مسلحين، ولكنهم لم يكونوا يستخدمون هذه الأسلحة، ويحسمون الصراع بالحشد الجماهيرى الذى يحاصر القلعة (مقر الوالى) بقيادة علماء الأزهر وغيرهم من وجهاء الأمة المحترمين وذوى الشعبية.
قبل أن تقرأ:
من البديهى أن وحى السماء كان يوجه ويضبط حركة الدعوة الإسلامية، وأن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم كان لابد أن تنتصر، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يكون الانتصار بإتباع السنن الاجتماعية التى وضعها جل شأنه، لتكون نموذجا قابلا للاقتداء به بعد انقطاع النبوة، وهى السنن التى حكمت حياة البشرية منذ بدء الخليقة, وستظل إلى يوم القيامة. وبالتالى استبعدت المشيئة الإلهية عن حكمة التدخل بالمعجزات (المعجزات بالنسبة للبشر أما الله فقادر على كل شىء).. كالطوفان أو شق البحر بعصا موسى، أو إرسال ريح صرصر عاتية لتدمير المشركين، وكل هذا حق وحدث من قبل، ولكنه لم يحدث فى عهد الرسول عليه الصلاة والسلام. كذلك فإن قدر الله المحتوم لا يعنى الإعفاء من التحليل والتدبر وهو ما أمرنا به الله. كما أن الاقتداء برسول الله يتضمن فهم واستيعاب طرائقه وأساليبه فى العمل السياسى، سواء عندما كان فى موقع المعارضة أو الحكم.. لندخل إذن فى صلب الموضوع..
قوانين التغيير السياسى فى الإسلام:
القانون الأول: تشكيل النواة العقائدية القيادية الصلبة.. من أجل التغيير:

* الأغلبية الساحقة من المسلمين الأوائل كانت تحت الأربعين

* الأنبياء موسى ويوسف ويحيى كانوا شباباً

* عدم تجديد قيادات قوى المعارضة بالشباب آفة الحياة السياسية المصرية

كانت بعثة محمد عليه الصلاة والسلام هى الرسالة الخاتمة، الأخيرة من السماء إلى الأرض إلى يوم الدين، والله سبحانه وتعالى يصطفى أنبياءه ويعدهم، كما أن الدعوة الإسلامية كانت موجهة بالوحى: بالنص القرآنى وبالاتصال المتقطع بين جبريل وسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وهذه الدراسة غير معنية بالأمور الغيبية العديدة التى وردت فى كتب السيرة، فنحن - كمسلمين - ننطلق من التسليم بكل ذلك، ولكن موضوعنا هنا هو التعلم من الدروس السياسية من السيرة، حيث شاء الله عز وجل أن تجرى وقائعها وفق السنن الاجتماعية التى وصفها, والتى حكمت البشرية منذ الخليقة إلى يوم الدين. ولكننا وجدناها متجلية إلى أبعد مدى وأصفى صورة فى السيرة النبوية، وحيث أن وقائعها فضلا عن ثبوتها بتفاصيل عديدة أكثر من أى سيرة لأى رسول أو نبى سابق، والتى حفظها القرآن الكريم لتكون درسا عمليا أخيرا للبشرية. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أمرنا أن نقتدى بمحمد عليه الصلاة والسلام، فيجب أن ندرس ونفهم ما الذى فعله بالتحديد, وأن نحلل مسار جهاده من أجل التغيير الأعظم، بعيدا عن الاكتفاء بالروايات والمقتبسات المتناثرة هنا وهناك.
الدرس الأول لنجاح عملية التغيير بهدف إقامة الدولة الإسلامية، دولة العدل والمساواة والتكافل، كان تأسيس وتشكيل النواة الصلبة، وهذه النواة لابد أن تبدأ بالقائد نفسه.. (عن أصالة أبيه وأمه أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم فى دمه وأعصابه أصالة الشخصية ووضوحها ونقائها، وكسب على المستوى الاجتماعى احتراما وتقديرا فى بيئة كانت تستهجن مجهولى الأنساب وتحتقر الخلطاء. ومن مرارة اليتم ووحشة العزلة وانقطاع معين العطف والحنان، قبس الرسول صلى الله عليه وسلم الصلابة والاستقلال والقدرة على التحمل، والإرادة النافذة، والتحدى الذى لا ينكسر له قناة.. وبالفقر والحرمان تربى ونما بعيدا عن ترف الغنى وميوعة الدلال واتكالية الوجدان) (دراسة فى السيرة - د. عماد الدين خليل - مؤسسة الرسالة - دار النفائس - بيروت).
بنص القرآن الكريم فإن الرسل والأنبياء من نسل إبراهيم: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) (العنكبوت: 27).
ويجمع النسابون العرب, وهم أساتذة هذا العلم أن نسل محمد صلى الله عليه وسلم متصل بعدنان، ولا خلاف أن عدنان من ولد إسماعيل نبى الله ابن إبراهيم الخليل صلى الله عليهما وسلم.
روى مسلم بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل, واصطفى قريشا من كنانة, واصطفى هاشما من قريش, واصطفانى من بنى هاشم.
وروى الترمذى أنه صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فقال: من أنا؟ فقالوا: أنت رسول الله عليك السلام، فقال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. إن الله خلق الخلق، ثم جمعهم فرقتين فجعلنى فى خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلنى فى خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتا فجعلنى فى خيرهم بيتا وخيرهم نفسا.
وروى البخارى فى صحيحه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل, ومن ولد إسماعيل بنى كنانة، واصطفى من بنى كنانة قريشا, واصطفى من قريش بنى هاشم, واصطفانى من بنى هاشم.. وسنتحدث بتفصيل أكثر عن بنى هاشم وأصالتهم ودورهم فى الدعوة فيما بعد.
وكان محمد صلى الله عليه وسلم قد قام منذ صباه - لمساعدة عمه الفقير كثير العيال - برعى الأغنام لأهله وأهل مكة، ثم كان سفره مرتين للشام للتجارة فرصة لتوسيع مداركه فى عالم أوسع من المجتمع الصحراوى الضيق، موقف صارم من الوثنية والتزام فطرى حازم بحسن الأخلاق وعدم الانغماس فى انحرافات المجتمع الجاهلى، والزواج من أشرف نساء مكة رغم أنها تكبره ب 15 عاما، وهجر المجتمع المكى الجاهلى إلى عالم العزلة فى جوف الصحراء وغار حراء وحيدا متأملا باحثا منقبا عن الحقيقة.. باحثا عن الله.. وتشير الروايات إلى أنه كان يمكث فى غار حراء فى المرة الواحدة مدة شهر متواصل.. وكانت السيدة خديجة ترسل له الزاد بين حين وآخر. وحبب الله إليه الخلوة, فلم يكن شىء أحب إليه من أن يخلو وحده.
ثم كان وحده صلى الله عليه وسلم فى مدرسة القرآن والوحى فترة تقدر بشهور طويلة لم يدخل الإسلام فيها إلا نفر يعد على أصابع اليد الواحدة ثم الاثنتين، فلابد أن يستوعب قائد المسيرة هذه النقلة الكبرى ويعد نفسه للرسالة الكبرى.. وتروى سورتا المزمل والمدثر ملامح هذه المرحلة المزلزلة. حتى أن الوحى انقطع عنه عدة شهور حتى يستوعب محمد عليه الصلاة والسلام هذه النقلة الكبرى.
وإذا عزلنا مسألة النبوة والوحى وهى أمور غير قابلة للتكرار، فإن الدرس الأول المستفاد أن الحركات الكبرى التى غيرت مجرى التاريخ فى مجتمعاتها أو العالم بأسره، بدأت بشخص واحد يتمتع بخصائص خاصة حيث تكون القضية العامة هى الغالبة على كيانه وفكره، وليس همومه الشخصية، بل الرسالة العامة هى همه الشخصى الأول وربما الأخير أيضا، لأنه يحور احتياجاته ومشكلاته وحياته الخاصة لكى تتكيف مع الدور الذى يعد نفسه له. وقادة الحركات الإصلاحية الكبرى التى غيرت مجرى التاريخ مروا بمرحلة إعداد نفسى فردى، ساعدتهم عليه الظروف المحيطة بالنشأة، والاحتياج الملح للإصلاح فى مجتمعاتهم، وإدراكهم لضرورة الإصلاح، وأن لهم دورا أساسيا فيه، وحباهم الله من المواهب والخصائص التى تساعدهم على أداء هذا الدور، وصبروا على أنفسهم، ونموا هذه المواهب وحرصوا على هذه النغمة، وكرسوها فى سبيل خير مجتمعاتهم. فما أكثر الناس الذين حباهم الله بالذكاء والعديد من عناصر القوة فى تكوينهم الشخصى، وكرسوها فى سبيل الشر، أو أهدروها فيما لا ينفع مجتمعاتهم، وعاشوا لأنفسهم ولم يكترثوا للناس حولهم.
وعندما يعد القائد نفسه، بالثقافة والتأمل والبحث، وبصقل الظروف له، وعندما تتضح له معالم رسالته، فإن مهمته الأولى تكون تكوين النواة الأولى المؤمنة بنفس الرسالة، وهى بالضرورة لابد أن تكون ضيقة، وهى أشبه بعملية تكوين الجنين داخل الرحم، وهى تكون بطيئة جدا فى المرحلة الأولى. وهذا ما فعله الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، فإن العشرات الأولى من المؤمنين (30 - 40) صنفهم على عينه، وأمرهم بالتزام البيوت وعدم الصلاة فى أماكن علنية، ودخل هو وجماعة من أصحابه بيت الأرقم بن أبى الأرقم، والذى تحول إلى المقر الرئيسى السرى، وبقى فيه مختفيا مع جماعته لا يخرج إلى أن أذن الله له بالخروج. وكان بعض المسلمين الذين بقوا خارج البيت يراجعون دار الأرقم لتلقى أوامر النبى وتعاليمه وتنفيذ ما يحتاج إليه (د. عماد الدين خليل - مرجع سابق)، ولولا تكوين هذه النواة العقائدية القيادية الصلبة ما كان يمكن أن يحدث التغيير المرجو.
وإذا أرادت أى جماعة إسلامية أن تقيم نفسها, ولماذا هى لم تتقدم أو تحقق النصر، فلتنظر إلى هذه النقطة أولا. النواة الأولى فى هذا النموذج رباها القرآن الكريم على يد المعلم الأمين رسول الله. والعنصران ما يزالان لدينا: القرآن والسنة، ولكن القيادة لابد أن تكون فى أخلاقها وسيرتها أقرب ما تكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21).فى عمق الإيمان والثقة فى الله، فى السيرة الطاهرة، فى التجرد عن مباهج الدنيا، والتحلى بالزهد والتقشف، وفى قول الحق دون الخوف من لومة لائم، وأن تكون القيادة فى مقدمة الصفوف عند التضحية وفى أواخر الصفوف عند المغانم. ومن أهم صفات التجرد والإخلاص: تقديم الأصلح لتولى المواقع القيادية بغض النظر عن السن أو الأقدمية فى التنظيم. كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قراراته، أما فيما يتعلق بالتحلق والتمحور حول القرآن والسنة، سيقال ومن من الجماعات الإسلامية لا يعتمد القرآن والسنة أساسا للتثقيف والتربية، وهنا نشير إلى نقتطتين:
1- أنه حدث تراخ بالفعل فى بعض التنظيمات الإسلامية المعاصرة، بتناقص الأوقات المخصصة لحفظ ودراسة القرآن الكريم، ودراسة السنة، وهذا يمكن ملاحظته على المستوى الثقافى للعديد من أعضائها وقيادتها.
2- أن القضية ليست تلاوة وحفظ ودراسة بدون تدبر وبدون تنفيذ، فالتمحور حول القرآن الكريم لا يكون بحفظه دون الالتزام بتوجيهاته الصريحة التى لا تحتاج لاجتهاد، فلا يمكن أن يكون حكم الإسلام واضحا قاطعا فى الموقف من الظلم والظالمين والطواغيت - على سبيل المثال - بينما تكون سياسة التنظيم هى المداهنة والمناورة والمداورة، وهو الأمر الذى لا يمكن استنباطه من السيرة النبوية فى المرحلة المكية فهناك مرحلتان وموقفان: إما السرية المطلقة للدعوة، وهى مرحلة تكوين النواة الأولى، وإما الجهر بالحقيقة المطلقة، ولا يوجد احتمال آخر: كالجهر ببعض الحقيقة أو نصفها!!
*******
ومن المهم أن نشير هنا إلى أن معظم النواة الأولى كان من الشباب ومتوسطى الحال من الناحية الاجتماعية، وهنا لابد من التوقف عند هذين البعدين..
دور الشباب فى الدعوة:
وقد لاحظ "مونتجمرى وات"، بشكل ثاقب، أن الإسلام الفتى كان فى الأساس حركة شباب، إذ أن معظم الذين نعرف أعمارهم لم يتجاوزوا الأربعين عند الهجرة, وبعضهم كان أصغر كثيرا. (مونتجمرى وات - محمد فى مكة - ترجمة شعبان بركات - المكتبة العصرية - بيروت).
إن أوائل من دخل فى الإسلام لم يكن منهم أحد من بنى هاشم إلا على بن أبى طالب وكان صبيا..
دعا محمد صلى الله عليه وسلم عشيرته إلى طعام (هذا فى لحظة الجهر بالدعوة) فى بيته, فلما طعموا قال لهم: ما أعلم إنسانا فى العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرنى ربى أن أدعوكم إليه. فأيكم يؤازرنى على هذا الأمر؟ فأعرضوا عنه وهموا بتركه - لكن عليا نهض وهو ما يزال صبيا دون الحلم، وقال: "أنا يارسول الله عونك، أنا حرب على من حاربت، فابتسم بنوا هاشم وقهقه بعضهم، وجعل نظرهم يتنقل من أبى طالب إلى ابنه، ثم انصرفوا مستهزئين.
وهذا مشهد موحى للغاية. يضحك منه السفهاء. ولكن كلمات هذا الصبى الذى كان ثانى من دخل الإسلام بعد السيدة خديجة كانت كفلق الصبح. وعندما كاد أن يتجاوز العشرين من عمره كان يحمل راية القتال فى بدر، الموقعة التى حسمت الصراع وغيرت وجه البشرية، وكان مقاتلا شرسا ومقتدرا وشجاعا، علم سيفه كيف يجندل الطغاة والمشركين ليس فى بدر وحدها بل فى كل الغزوات والمعارك, وحمل الراية وكان قائد فتح خيبر، حين قال النبى صلى الله عليه وسلم: (لأعطين هذه الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه).
وعندما استخلفه رسول الله على المدينة فى غزوة تبوك أصابه ألم شديد، حتى أنه لم يستطيع البقاء فى المدينة، عندما رأى جيش المسلمين يفصل خارج المدينة فى اتجاه تبوك فلحق بهم سائلا الرسول عليه الصلاة والسلام أن يشركه فى الغزوة، ويقول له أتتركنى مع النساء والأطفال؟! فأقنعه رسول الله بالعودة: (ارجع فاخلفنى فى أهلى وأهلك، أفلا ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لانبى بعدى) البخارى، فرجع إلى المدينة.
كان ثلاثة أو أربعة من أول عشرة دخلوا الإسلام تحت العشرين، وبمفاهيم السياسة البالية المعاصرة، فيمكن أن يقال أن التنظيم الإسلامى الأول كان مجموعة من العيال أو الأطفال!
فبالإضافة لعلى تتفق المصادر على أن الزبير بن العوام أسلم وعمره 15 سنة, وأن سعدا بن أبى وقاص أسلم وعمره 17 سنة.. ومن المرجح أن زيد بن الحارثة كان سنه قريبا منهم.
ولا نعلم فى أى سن أسلم عمير أخو سعد بن أبى وقاص, ولكننا نعلم أنه تحايل للمشاركة فى غزوة بدر، واستصغره رسول الله فقال: ارجع. فبكى عمير فأجازه عليه الصلاة والسلام واستشهد فى بدر, وهو ابن ستة عشر سنة, طبقات ابن سعد.
والدفعة الثانية من الداخلين فى الإسلام (بعد العشرة) ضمت صهيب الرومى, وكان فى العشرينيات من عمره، وعمار بن ياسر كان قريبا من هذا السن, ومصعب بن عمير فاتح المدينة (يثرب) بالدعوة السلمية كان فتى مكة المدلل عندما دخل الإسلام فى الدفعات الأولى، وبلال كان فى الثلاثين من عمره, وعمر بن الخطاب أسلم وعمره 28 سنة، وعندما دخل الإسلام المدينة فقد عبر على جسر الشباب، ليس من خلال مصعب بن عمير فحسب, ولكن من خلال أسعد بن زرارة (أبو أمامة) الذى استضافه فى بيته بيثرب، وتحرك معه فى نشر الدعوة, وتحمل مسئولية المواجهة مع الشرك الذى كان غالبا على المدينة. وهو نفسه الذى كان من رجال اللقاءات الثلاثة فى العقبة، وهو الذى اختاره بنى النجار نقيبا لهم، وهو الذى وقف يوضح لقومه خطورة البيعة، حتى يشدد العهد ويوثقه. فهو الذى أخذ بيد رسول الله فقال: رويدا يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف إما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خبيئة فتبينوا ذلك، فهو أعذر لكم، قالوا: أمط عنا يا أسعد فا والله لا ندع هذه البيعة أبدا.
وكان أسعد أصغر الحاضرين (فى العقبة الثانية) سنا، عدا جابر بن عبد الله الذى يقول عن نفسه: (أخرجنى خالاى إلى العقبة وأنا لا أستطيع أن أرمى بحجر! بل إن أبوه - أى أبو جابر - استشهد فى أحد وهو فى السابعة عشرة!
وكان الشباب قرابة النصف فى بيعة العقبة الثانية (قال عروة بن الزبير وموسى بن عقبة: كانوا سبعين رجلا وامرأة واحدة, وقال: منهم أربعون من ذوى أسنانهم وثلاثون من شبابهم) البداية والنهاية لابن كثير. وإن كان الغالب فى الروايات أنهم كانوا 73 رجلا وامرأتان.
وكان من شباب ذلك اليوم التاريخى عبد الله بن رواحة الشاعر والفارس والذى كان من قادة غزوة مؤتة واستشهد فيها.
أما عبادة بن الصامت والذى يعد من ضمن كبار هذه المبايعة فكان فى الثلاثينيات من عمره (حوالى 36 عاما)، وكان قد حضر البيعة الأولى, وقد كان له شأن مهم فى الإسلام, وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له دور فى إخراج يهود بنى قينقاع حلفائه فى الجاهلية من المدينة، وشارك فى حروب الردة بصورة مميزة، وتولى ولاية حمص، وفتح طرطوس، وتولى قضاء فلسطين، وكان رسول الله قد استعمله على الصدقات، وكان له دور حاسم فى فتح مصر، والإسكندرية. (رجال ونساء أنزل الله فيهم قرآنا - د. عبد الرحمن عميرة - المجلد الأول - الجزء الثانى - مكتبة الأسرة - هيئة الكتاب - القاهرة - 2002 ص 15 - 27).
والذين اختارهم الرسول صلى الله عليه وسلم لتنفيذ مخطط الهجرة للمدينة جميعهم من الشباب، وليس فيهم إلا كهل واحد هو أبو بكر وهم: عبد الله بن أبى بكر - أسماء وكانت أصغر من عبد الله ولا تزال فى ميعة الصبا ولم تنجب.
كذلك أسلم سعد بن معاذ زعيم الأوس وعمره 31 عاما, واستشهد وهو فى السابع والثلاثين من عمره, وقال عنه رسول الله: لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ. وعلى بن أبى طالب وعمره ساعتئذ حوالى 18 عاما نام فى فراش الرسول وعرض حياته للخطر، وظل فى مكة - بعد هجرة الرسول - ثلاثة أيام يوزع الأمانات لأهلها، ويمضى مهاجرا وحيدا إلى الله ورسوله وقد دميت قدماه من أهوال الطريق. وعامر بن فهيرة الذى كان يحمل مسئولية رعى الغنم، واعفاء أثر عبد الله بن أبى بكر، ثم يمضى فى ركاب المصطفى وركاب أبى بكر يخدمهما فى الطريق، كان فى عرامة الشباب وفتوته. (فقه السيرة النبوية - منير محمد الغضبان - دار الوفاء - الطبعة الأولى - 1997 - المنصورة - مصر ص 223 - 225).
ذكر الأستاذ منير الغضبان أن عمر على بن أبى طالب كان عشرين عاما ساعة الهجرة وعدلته إلى 19 عاما على أساس أن ابن كثير ذكر أن عليا شهد موقعة بدر وهو فى العشرين من عمره، وعلى أى حال فالفرق بسيط ولكن لزم التنويه.
ودور الشباب سيظل حاضرا فى دولة المدينة, وبعد فتح مكة وفى تاريخ الخلفاء الراشدين، بمعنى استمرار الدفع بالأجيال الصاعدة إلى مواقع القيادة.
دور الشباب القيادى فى دولة المدينة:
والمقصود بدور الشباب هو دفع الصالح والنبيه والأريب والجاد والمخلص والملتزم إلى صفوف القيادة الأولى، وليس استخدامهم كحطب لإشعال الثورة، أو وقود المعارك، أو أنفار فى المعارك الحربية، وإن كانت الجندية مهمة الشباب، ولا عيب ولا احتقار فى ذلك، ولكن على القائد الصالح أن يسعى لاكتشاف العناصر القيادية من بينهم ودفعهم للصف الأمامى، وليس لإرضائهم، ولكن لأن ذلك هو الأصلح للمجتمع، دون التخلى عن الكبار الصالحين للقيادة بطبيعة الحال، ونكون هكذا أمام عملية تجديد للخلايا والأنسجة فى المجتمع كما تجرى فى جسم الإنسان بالضبط، فالإنسان الذى يسير أمامنا، فى كل لحظة تموت فيه خلايا وتنشأ خلايا جديدة دون أن نشعر، فهذه سنة الحياة، وبدونها يتعفن الجسد والمجتمع على حد سواء!
عندما أسلمت ثقيف - ثانى أكبر قبيلة عربية بعد قريش - أمر الرسول عليهم عثمان بن أبى العاص, وهو أحدثهم سنا لأنه كان أكثرهم فقها وعلما بالقرآن.
وعين الرسول صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد قائدا للجيش المتجه للشام, وكان عمره حوالى 19 عاما (والبعض يهبط به إلى 17 عاما!) وكان هذا آخر قرار سياسى لرسول الله قبل رحيله عن الدنيا, وكأنها توصية بالشباب, وأيضا توصية بفتح الشام, وإجلاء الإمبراطورية الرومانية من أراضيه. وعندما استنكر بعض المنافقين قائلين: أمر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تطعنوا فى إمارة أسامة بن زيد فقد طعنتم فى إمارة أبيه من قبله، وأيم الله إن كان لخليقا بها، وأيم الله إن كان أحب الناس إلىّ، وأيم الله إن هذا لها خليق - يريد أسامة بن زيد - وأيم الله إن كان لأحبهم إلىّ من بعده فأوصيكم به فإنه من صالحيكم، (متفق عليه واللفظ لمسلم) وقد تحامل رسول الله على نفسه وكان مريضا مرض الموت، معصب رأسه وخطب فى المسجد بهذه الكلمات.
ويقول د. البوطى: (كان زيد بن حارثة رقيقا وهو والد أسامة، ومع ذلك فلا الصغر ولا الرق القديم منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يجعله أميرا على عامة الصحابة فى غزوة مهمة كبرى، فما جاء الإسلام إلا ليحطم مقاييس الجاهلية التى كانوا بها يتفاضلون ويتفاوتون. ولعل النبى صلى الله عليه وسلم وجد فى أسامة ميزة جعلته أولى من غيره بقيادة الجيش فى هذه الغزوة.
ولقد رجع أسامة من هذه الغزوة منصورا ظافرا وكان - كما ورد فى الطبرى - فى تسيير ذلك الجيش نفع عظيم للمسلمين). (البوطى - مرجع سابق - ص 355، 356).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر جعفر بن أبى طالب قيادة جيش المسلمين فى مؤتة وعمره 33 عاما، وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن وهو فى العشرينيات من عمره، وكان من أفقه الصحابة حتى وصفه رسول الله بأنه: (أعلم المسلمين بالحلال والحرام), وكان إذا جلس فى أى مجلس للصحابة كان يجلس صامتا ومتواضعا, ولكن الصحابة كانوا هم الذين يسألونه وهو يجيب، ثم تولى إحدى ولايات الشام ومات وعمره 33 عاما.
كذلك استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن حزم على نجران وعمره 17 عاما. (البداية والنهاية لابن كثير).
وبعد فتح مكة ولى عتاب بن أسيد إمرة مكة على أهميتها وهو فى العشرين من عمره. وعقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ عبد الله بن العباس (حبر هذه الأمة) تجميع أحاديث الرسول وأحكام الدين وهو فى الثالثة عشر من عمره، وكان عمر بن الخطاب يحرص على مشورته وعمره - أى عبد الله - من 15 - 25 عاما, وكان يلقبه "فتى الكهول"، والسيدة عائشة التى ينقل عنها الأحاديث والأحكام كان عمرها 18 عاما عند وفاة الرسول، وفيما عدا عثمان بن عفان فقد توفى الخلفاء الراشدين فى حوالى الستين من عمرهم، أى كانت ذروة عطائهم بين الأربعين والستين كرسول الله تقريبا.
والخليفة الحسن بن على بن أبى طالب الذى استمرت خلافته ستة شهور (وكان خليفة المسلمين فى كل مكان عدا الشام) توفى أو قتل وعمره 46 عاما.
وعبد الله بن الزبير كان له دور أساسى فى فتح أفريقيا كقائد للجيش عندما كان عمره 27 عاما.
وعبد الله بن عامر تولى إمارة البصرة فى عهد عثمان بن عفان وعمره 25 عاما، ولعب دورا أساسيا فى القضاء على يزدجرد كسرى الفرس الذى كان يحاول إعادة ملكه. وبطبيعة الحال كل ما أوردناه على سبيل المثال لا الحصر.
الأنبياء أيضا كانوا من الشباب:
وقد لا تلتفت وأنت تقرأ القرآن الكريم إلى أن كثيرا من الأنبياء كانوا شبابا وفق النصوص القاطعة، كانوا فى عنفوان الشباب وعلى أعتاب الكهولة عندما بعثوا إلى الناس.
جاء عن سيدنا موسى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (القصص: 14), كما أنه كلم الله بعد ذلك بقرابة 10 سنوات بعد هروبه إلى مدين وزواجه وعودته، أى أن عمره عند لقاء ربه كان حوالى الثلاثين، وبالتأكيد لم يصل إلى الأربعين (راجع سورة القصص).
وعندما حطم سيدنا إبراهيم الأصنام كان فى ريعان الشباب: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء: 60).
وواضح من قصة سيدنا يوسف أنه كان فى عنفوان الشباب حين راودته امرأة العزيز عن نفسه، وعندما دخل السجن كان قد تجاوز التكليف بالرسالة حيث قال لرفيقيه فى السجن: (لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) (يوسف: 37).
وكانت بداية تبلغيه بالرسالة بعد وصوله إلى مصر ونشأته كصبى فى بيت العزيز: (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) (يوسف: 21).
واستخدم القرآن الكريم نفس الكلمات تقريبا التى وردت عن سيدنا موسى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 22), فى إشارة لتخطيه مرحلة الصبا إلى الشباب.
وعن سيدنا يحيى يقول القرآن: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً) (مريم: 12) صبيا وليس شابا.
والمسيح عليه السلام: رغم أن حديث عيسى بن مريم وهو طفل كان من معجزات الله، ولكن بنص القرآن الكريم فهو لم يتجاوز مرحلة الكهولة إلى الشيخوخة حتى رفعه الله إليه: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران: 46).
وتشير الروايات إلى أن تكليفه بالرسالة كان بعد أن بلغ الثلاثين من عمره, ونذكر مريم لاتصالها بالموضوع فهى ليست من الأنبياء، والتى سماها القرآن الكريم سيدة نساء العالمين، فقد كانت شابة بالتأكيد عندما وضعت عيسى, وتقول الروايات أن عمرها كان خمسة عشر عاما عندما وضعته.
احتفال القرآن بالشباب:
وتكفى هذه النصوص الواضحة عن الأنبياء (وهى أيضا ليست على سبيل الحصر) للاحتفال بالشباب، ولكن القرآن أوضح دور الشباب الخاص فى الانتصار لمعركة الإيمان ضد الكفر ولأسباب سنوضحها لاحقا.
ففى قصص سيدنا موسى نقرأ: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ) (يونس: 83), والذرية تطلق أساسا على الشباب. وقصة أهل الكهف المعروفة هى قصة فتية: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (الكهف: 13).
لماذا الشباب؟:
ونحن لا نتحدث عن أهمية الشباب عموما فى المجتمعات, وهو الأمر الذى كثيرا ما تلوكه الألسن فى الحياة السياسية, ولكننا نشير بشكل خاص إلى دور الشباب فى لحظة التحول التاريخى فى المجتمعات، فعندما تشيخ الحضارات والأنظمة السياسية والمجتمعات، فإن الشباب يكون هو الأقدر على قيادة مسيرة التغيير، لأن الأكبر سنا يكون أكثر تأقلما وتكيفا مع الوضع الراهن، ويكون قد قطع شوطا كبيرا فى أطر الأوضاع القائمة, واعتادها, ويكاد يتخيل أنه لا بديل عنها، ويميل إلى الاستقرار حتى على الأسوأ بدلا من الدخول فى مغامرات أشبه ما تكون بالمجهول بالنسبة إليه، وفى حين يرى الشاب الحياة أمامه، يرى الشيخ أن ما بقى من العمر على الأغلب أقل مما ذهب.. ويكون مشغولا بإنهاء حياته على نحو هادىء ورتيب. وبالتالى يكون أقرب نفسيا إلى المقولة الشائعة: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) (الزخرف: 22), أما الشباب فلم تعجنه بعد آلة المجتمع الرهيبة بتقاليدها وعاداتها الراسخة، وبالتالى فهو يكون مهيئا ليكون أكثر تحررا واستعدادا لتقبل رؤية التغيير نحو الأفضل، وكذلك لا يمكن أن نفصل بين الاستعداد للتضحية والبذل والعطاء وبين القوة البدنية والعقلية والنفسية, فهناك علاقة طردية بين الاثنين.
وليس المقصود بذلك الوقوع فى فخ نظرية صراع الأجيال، فالمسألة الجوهرية هى المبادىء والفكر والرؤية النظرية. فليس كل الشباب على حق، وليس كل الشيوخ على باطل أو متخاذلين، ولكن بالتأكيد فإن معظم قادة وأنصار حركة التغيير لابد أن يكونوا شبابا، ونعنى بالشباب الفترة الممتدة من 15 إلى 40 سنة. ونقول ذلك كقاعدة، وإلا فإن قلة من الشيوخ تظل أكثر فتوة من الشباب، وقلة من الشيوخ تنخرط وتقود حركات التغيير، وتعطيها الحكمة والخبرة والعلم دون تعالى أو استئثار بالسلطة. وهذا لا يتعارض مع أن ذروة النضج تكون فى مرحلة الكهولة (من 40 إلى 60 عاما تقريبا) وقد نص القرآن على سن الأربعين باعتباره سن النضج دون ربط ذلك بالنبى صلى الله عليه وسلم: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) (الأحقاف: 15), ولكن بالتأكيد لم يكن من قبيل المصادفة أن يكون اختياره للبعثة فى سن الأربعين.
النشطاء والسياسيون إذا لم يكونوا قد بدأوا انخراطهم فى الحياة العامة فى سن الشباب فإن انخراطهم فى العمل السياسى يكون صعبا, لأن الشباب هو فترة التكوين الأساسية للشخصية واكتساب المهارات العملية والنظرية، ولكن إذا كبر هذا الجيل ووصل إلى مرحلة الكهولة والشيخوخة، وظن أن هذا القانون قد انتهى لأنهم عبروا سن الشباب!! فإنهم يرتكبون أكبر خطأ فى حق حركتهم أو دولتهم إن كانوا قد وصلوا إلى السلطة، وهذا ما تجنبته التجربة الإسلامية فى صدرها الأول، فلا شك أن قادة الدولة فى المدينة كانوا من الكهول الذين تخطوا مرحلة الشباب التى بدأوا فيها الجهاد، ولكنهم لم يحجروا على حراك الأجيال كما أشرنا.
وإن المقام ليضيق هنا برصد وقائع التاريخ الإنسانى التى تؤكد هذا القانون. ولكن لابد من بعض الأمثلة. ونبدأ بالحركة الإسلامية، وربما لا أحتاج أن أؤكد احترامى وتقديرى لحركة الإخوان المسلمين ودورها التاريخى فى الحفاظ على بيضة الإسلام, خاصة بعد سقوط الخلافة عام 1924. ولا أنكر أننى تعلمت ولازلت أتعلم منها، وأى ملاحظات نقدية هنا أو فى أى مكان آخر لا تستهدف إلا تطوير هذه الحركة المباركة، بل لا أفتأ أتمنى أن تتولى هى حركة التغيير فى مصر وغيرها، وبالتالى فإن ملاحظاتى تنبع من الإخوة الصادقة والرغبة فى تحسين الأداء، دون إنكار لسابقة جهاد أو لدور مشهود.
أرى أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أو تنظيم الإخوان المسلمين فى فلسطين, تكاد تكون هى الفرقة الوحيدة فى حركة الإخوان، التى تجاوزت أزمة الحركة، فهى الحركة التى انتقلت بالفعل من المراحل الأولى التى برعت فيها حركة الإخوان المسلمين فى العالم: بناء الفرد المسلم - بناء الأسرة المسلمة - بناء المجتمع المسلم، وانتقلت إلى المرحلة الرابعة: وهى مرحلة الحكومة الإسلامية. ولا أقصد بذلك إقامة حكومة فى الضفة والقطاع فليست هذه بعد الحكومة الإسلامية التى بشر بها الشهيد الإمام حسن البنا رحمة الله عليه، وكما نفهم جميعا جوهر الحكومة الإسلامية. فالجهاد الفلسطينى لا يزال فى مرحلة تحرير الأرض من الاحتلال الصهيونى، وحركة حماس تدرك ذلك، ولكن ما أقصده هو الجانب الجوهرى لهذه المرحلة الرابعة وهو المواجهة الصريحة مع الخصم، وهو فى حالة حماس: الكيان الصهيونى وما يستتبع ذلك من الكفاح المسلح، وأيضا المواجهة السياسية الصريحة مع عملاء الاحتلال. وأذكر أن بعض قادة الإخوان فى مصر لم يكونوا موافقين على خطوة الحسم العسكرى مع عملاء إسرائيل فى غزة، بينما أعلنت فى وقتها تأييدى الكامل لهذه الخطوة باعتبارها ضرورة تفرضها مجريات الصراع.
ليس هنا مجال بحث القضية الفلسطينية, ولكن أريد التركيز على مسألة الشباب. فبغض النظر عن تقييم سياسات حماس فى هذه النقطة أو تلك. فلا شك أن هناك إجماعا داخل حركة الإخوان المسلمين فى مصر والعالم, بل لدى مختلف التيارات الوطنية والقومية، وحركات التحرر فى العالم، أن حركة حماس حركة محترمة وناجحة، اكتسبت احترام وثقة الشعب الفلسطينى ومختلف الشعوب العربية والإسلامية.
إن نهج حماس يتسم بثورية لا يستطيع أحد أن يشكك فيها، وكلما شك بعض المخلصين فى بعض مواقفها التكتيكية (كالتهدئة أو دخول الانتخابات)، تأتى الأيام لتثبت أصالة هذه الحركة. كما رأينا فى التصدى البطولى للعدوان الدموى المستمر على غزة ورفض الاعتراف بإسرائيل أو إنهاء المقاومة. تتسم حركة حماس بالكفاءة السياسية العالية، والجمع الخلاق بين ثوابت العقيدة ومشكلات الواقع الفلسطينى المعقد. من أهم أسباب ذلك هو عملية الإحلال العبقرية التى تمت فى قيادة حركة الإخوان المسلمين فى فلسطين. وأقر هنا أنه لم تتح لى رغم لقاءاتى المتقطعة مع مجاهدى حماس من مختلف المواقع والأجيال معرفة الخبرة التفصيلية لذلك الانتقال السلمى للسلطة، وهى تجربة لابد أن تكتب وتدرس لتتعلم منها الحركات الإسلامية الأخرى، خاصة تنظيمات الإخوان المسلمين فى العالم. المهم لقد كان قادة الإخوان المسلمين فى فلسطين كغيرها من الشيوخ والطاعنين فى السن، ولكن الإعلان عن قيام حركة المقاومة الإسلامية حماس فى الانتفاضة الأولى، كان إيذانا على ما يبدو بمرحلة جديدة. وأصبح التركيب القيادى للحركة من شباب فى الثلاثينيات والأربعينيات، بينما ظل شيوخ الحركة يظلونها بخبرتهم وثقافتهم الإسلامية وروحهم الجهادية المخلصة. فرموز حركة الإخوان المسلمين من الشيوخ فى فلسطين لا يتوقفون عن عطائهم وبذلهم فى المجالات التى برعوا فيها: التربية - إدارة العمل الخيرى - التأليف.. الخ. المهم أنك تلحظ أن عملية الإحلال فى القيادة تمت بسلاسة دون صراعات أو انشقاقات، وأن الشيوخ كان لهم من الحكمة والإخلاص والتقوى، بحيث دفعوا الشباب إلى المقدمة، وارتضوا بدور الظل، وأن الشباب لم يتوقفوا عن النهل من معين الشيوخ واحترامهم والاستفادة من خبراتهم، ولا شك عندى أن الشيخ الشهيد أحمد ياسين كان له الدور الأساسى فى هذا التحول, وكان همزة الوصل بين جيلين. أما فى حركة الإخوان المسلمين فى مصر وفى غيرها فإن القاعدة الراسخة هى احتفاظ الشيوخ بموقع وسلطة اتخاذ القرار بالأغلبية، وكل التقدير لهؤلاء الشيوخ المجاهدين, ولا غنى عنهم للإخوان أو للحركة الإسلامية، ولكن ليس هكذا تورد الإبل.
لكل الاعتبارات السابقة المشار إليها، فيمكن استحداث مجلس حكماء استشارى، كذلك فإن الثقافة الإسلامية لهؤلاء الشيوخ الأجلاء لا غنى عنها فى التأليف والمحاضرات والوعظ والإرشاد، والقضية ليست قضية انتخابات كما يقال، لأن الانتخابات فى التنظيمات - خاصة غير العلنية - يمكن ترتيبها بشكل أو بآخر، وخذوا الحكمة ولو من الصين. هناك خلاف حول صحة هذا الحديث لرسول الله. ولكن مضمونه صحيح، يشمله حديث آخر: (الحكمة ضالة المؤمن أنَ وجدها فهو أحق بها). والمناسبة أننى أشير إلى حكمة الصين. فهذا الذظام الذى يوصف بالشمولى وبأنه نظام الحزب الواحد، والذى يحكم أكبر شعب فى العالم (مليار ونصف المليار)، وأن تحكم هذا البلد كأنك تحكم ربع العالم، ورغم هذا الإغراء الدنيوى لأناس لا يؤمنون بالله ولا اليوم الآخر، إلا أن الحزب القائد الذى يوصف بالشيوعى (وفى رأيى أنه لم يعد شيوعيا بالتأكيد ولكنه نظام قومى صينى فريد من نوعه) قام فى الربع قرن الأخير بعملية إحلال سلسة للقيادة العليا للدولة والحزب مرتين وليس مرة واحدة! ولم يكن ذلك على أساس خلاف سياسى أو فكرى أو عقائدى. ولكن على أساس اعتزال الشيوخ وما بعد الشيوخ لصالح الكهول أو الشيوخ الأصغر سنا. والإحلال الثانى كان مع مجيىء الرئيس الصينى الحالى الذى تولى الرئاسة وعمره 59 أو 60 عاما. ولم نسمع بأن ذلك جرى بالانتخابات أو عبر صراعات تنظيمية عنيفة، ولم يتم اعتقال أحد أو تحديد محل إقامته. ولا بشن حملة على المعزولين أو التقليل من شأنهم. ولست ضد مبدأ الانتخابات الحرة داخل التنظيمات السياسية بالتأكيد, ولكن شريطة ضمانات النزاهة. والأهم من الانتخابات أن يتنازل الأكبر للأصغر طواعية إذا كان فى ذلك المصلحة العليا للبلاد أو للحركة.
هذه أحد - ولا أقول كل - أبعاد هذا الانجاز التاريخى للنهضة الصينية المعاصرة التى أذهلت العالمين. والصين تتربع الآن على كافة دول العالم بعدد من المؤشرات الحضارية أهمها معدل النمو الاقتصادى الذى يتراوح سنويا بين 8 - 12 %. بينما تدور معظم الدول الصناعية حول معدل 1 أو 2 % وبعضها وصل إلى نمو سالب حتى قبل الأزمة الاقتصادية العالمية الطاحنة الآن.
وحتى فى الدول الغربية فإن القادة الشيوخ ظاهرة شهدت اضمحلالا كبيرا: فى أمريكا نجد الرئيس بيل كلينتون تولى الحكم وهو فى الأربعينيات، وكذلك أوباما الآن. بل إن أهم صانعى القرارات وكاتبى التقارير وخطب الرؤساء الأمريكيين تجدهم فى الثلاثينيات من العمر. وأهم شخصية فى الظل يلتقى بها الرئيس الأمريكى كل صباح ليستمع لأهم تقرير استخبارى من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية يكون شابا فى الثلاثينيات يصحب رئيس وكالة المخابرات فى هذا اللقاء اليومى، وهذا الشاب يقوم بعمل يومى رهيب لأنه يتعين عليه أن يستخلص من آلاف المعلومات اليومية تقريرا مركزا يضم أهم ما فى هذه المعلومات ويعرضها بشكل يمكن أن يفيد فى اتخاذ أهم القرارات. إن المجهود الذى يقوم به هذا الشاب من الضخامة والثقل بحيث أنه هو نفسه لا يستطيع أن يواصله لمدة طويلة، ويتم استبداله بشخص آخر، على طريقة النحلة الشغالة التى لا تعمر طويلا من شدة المجهود الذى تبذله (راجع مذكرات جورج تينت - رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية الأسبق) وتجد كثيرا من العاملين فى البيت الأبيض ومساعدى الرئيس أيضا فى الثلاثينيات من العمر.
ولا مانع من الإشارة إلى الأعداء الصهاينة لندرك السنن العاملة بغض النظر عن الدين أو الموقف السياسى، فبنيامين نتنياهو عندما تولى رئاسة الحكومة لأول مرة كان فى الأربعينيات، كذلك الأمر فيما يتعلق بتونى بلير.
أستطرد فى الأمثلة والخبرات التاريخية فى هذه النقطة لأنى أعتقد جازما أن أحد أبرز مشكلات الحياة السياسية فى مصر ترجع إلى هذا المرض. فنحن أمام شيخوخة نظام بالمعنى الحرفى للكلمة, وهذه أحد مظاهر موته الإكلينيكى، مبارك تجاوز الثمانين ويستعد لخوض انتخابات رئاسية (وهمية بالطبع) عام 2011، وربما 2017، و2023 وقد أعلن أنه سيحكمنا (طالما فى صدره نفس يتحرك) وهذا يحدث فى غرفة الإنعاش. ولولا اغتيال د. رفعت المحجوب لكان استمر رئيسا لمجلس الشعب حتى الآن, ود. فتحى سرور رئيسا لمجلس الشعب منذ 17 عاما، وصفوت الشريف فى المناصب العليا منذ عشرات السنين ود. مصطفى كمال حلمى استمر رئيسا لمجلس الشورى حتى فقد السمع والبصر، ووزير الثقافة شاخ فى موقعه الذى يحتله منذ عشرين عاما، أما التجديد الشبابى الذى حدث فى السلطة فكان مثيرا للسخرية، إذ تم من خلال فرض ابن الحاكم وثلته وأصحابه، وهو أشبه بتجديد الجسم بخلايا ميتة أو أكثر فسادا. فالمسألة كما نؤكد ليست مجرد انحياز للسن الأصغر حتى وإن كان فى نفس الطريق الفاسد, فهذا يؤدى إلى فساد أكبر، لأن هذا الصنف من الشباب الفاسد يكون أكثر نهما وشراهة فى السلب والنهب وخرق القوانين تحقيقا لمصالح شخصية.
من الطبيعى أن يحدث ذلك فى سلطة شاخت فى مواقعها، وفى نظام انتهى عمره الافتراضى، لأن من علامات موت الأنظمة والبشر هو العمل ضد قوانين الطبيعة وسنن الله فى خلقه.
ولكن ليس من الطبيعى أن يكون ذلك ديدن حركات وأحزاب سياسية فى المعارضة, تريد أن تصلح المجتمع، وهذا لا ينطبق على الحركة الإسلامية فى مصر وحدها، بل على شتى الأحزاب السياسية. وليس سبب موت هذه الأحزاب هو القمع البوليسى أساسا، بل التكوين الداخلى لهذه الأحزاب نفسها، ولا أقصد ما يسمى بأحزاب الأنابيب التى صنعها أمن مبارك على عينه، وهى مثيرة للسخرية ولا تشغل بال أحد، ولكن أقصد الأحزاب الرئيسية، فحزب الوفد كان لديه فرصة كبيرة ليكون حزبا فعالا كحزب ليبرالى، ولكنه عجز أو رفض إعداد وتقديم جيل جديد من الشباب الليبرالى، حتى ماتت رموز حزب الوفد التاريخى بالمعنى الحرفى للكلمة بحكم السن، وأصبح الحزب أثرا بعد عين، وهذا هو السبب الرئيسى فى خروج مجموعة من الشباب الليبرالى أو طردهم من الحزب وتأسيس حزب الغد، الذى أصبح الحزب الليبرالى الأكثر حيوية. ونفس الشىء حدث لحزب التجمع الديمقراطى الوحدوى اليسارى، فالحرس القديم يهيمن على مفاتيح السلطة بإحكام، ولذلك تطورت حركة اليسار الشابة خارجه، والسيناريو يتكرر بإحكام فى الحزب الناصرى الرسمى وهو ما أدى إلى خروج أو طرد التيار الشبابى النشط والديناميكى الذى أسس حزب الكرامة غير المعترف به حتى الآن.
ولإكمال المشهد العجيب فى مصر الآن لا تفوتنا الإشارة إلى رأس الكنيسة الأرثوذكسية، ورغم أنه منصب دينى تحكمه تقاليد الكنيسة ببقاء البابا مدى الحياة.. إلا أننا نرصده كرئيس حزب المسيحيين المصريين، فالواقع أن البابا شنودة أجرى انقلابا فى حياة أقدم كنيسة فى العالم، وحولها إلى حزب سياسى، وجعل أكثر من 90 % من مسيحيى مصر أعضاء فى هذا الحزب, يأتمرون بأمره فى الشئون السياسية, وفى التصويت الانتخابى فى النقابات والانتخابات العامة، وهو فيما أعتقد قد تجاوز الثمانين، ويمضى معظم وقته فى العلاج بالولايات المتحدة. وقد ساهمت هيمنته الطويلة - برؤيته الخاصة - على أوضاع الكنيسة والمسيحيين فى نشوء أسوأ وضع طائفى فى البلاد, وبوادر ذلك واضحة تماما من الآن، وما يهمنا الآن، أن عواقب هذه الهيمنة الفردية الطويلة أدت إلى تحطيم الطابع المؤسسى للكنيسة، والجماعة المسيحية تعانى من فراغ رهيب من القيادات الشابة سواء على المستوى الكنسى أو على المستوى المدنى, أو ما يسميه الأخوة المسيحيون العلمانيين أى غير رجال الدين، وذلك بتدمير استقلالية وشخصية المجلس الملى الذى كان يتولى شئون المسيحيين غير الدينية. كذلك فإن منع المسيحيين من الانخراط فى الأحزاب السياسية - بقرار غير معلن من شنودة إلا لأفراد قلائل وبموافقته - مع الفشل المعروف لهذه الأحزاب، أوقف النمو الطبيعى لقيادات سياسية شابة مسيحية، كما كان الحال قبل 1952.
المهم هكذا تبدو مصر فى مطلع القرن الحادى والعشرين يتحكم فى مصائرها حكومة وشعبا طبقة سياسية تجاوزت سن المعاش والشيخوخة بأكثر من 20 عاما!! أى أنها تحكم بأناس نشأوا فى عصر آخر، وأقدامهم أقرب إلى القبر منها إلى الحياة، وهؤلاء لا يملكون أى إمكانية أو رغبة فى التجديد بحكم سنة الحياة.
(ملحوظة: أكتب هذا الكلام بمنتهى الصراحة، وبدون إحراج، وبدون عداء للشيوخ، فكاتب هذه السطور سيدخل رسميا مرحلة الشيخوخة خلال شهور!!).
******
أيضا فى الاتحاد السوفيتى، كان من مظاهر انهياره سيطرة مجموعة ضيقة من الحكام الذين تجاوزوا السبعين والثمانين، وظلوا يصلبون فى الرئيس "بريجينيف" استناذا لتقدم الطب السوفيتى!! ولكنه كان يسقط فى المناسبات العامة، وظل رئيسا حتى مات، ومن المشاهد الغريبة أن الاتحاد السوفيتى حكمه 3 رؤساء فى مدة قصيرة جدا لا تتجاوز عامين بسبب وفاة الرئيس لكبر سنه، وأذكر أن جروميكو ظل وزيرا للخارجية لأكثر من ربع قرن.
كان الاتحاد السوفيتى فى حالة مخيفة من التيبس، ولذلك كان انكساره سهلا، ولم يعتدل وضع روسيا إلا فى ظل رئيسها السابق بوتين ورئيسها الحالى ميدفيديف وكلاهما كان قريبا من الستين عند استلام منصبه (وهو المستوى الصينى!).
فى أمريكا اللاتينية، يمكن الإشارة إلى جماعة كاسترو التى قادت الثورة الكوبية, فقد كانت مجموعة من الشباب، ونشير أيضا إلى ثورة الساندينستا الأولى فى نيكاراجوا، قادها شباب فى الثلاثينيات من عمرهم، وأطاحت بهم الولايات المتحدة من الحكم، ولكنهم وصلوا (أى حركة السانديتستا) إلى الحكم من جديد مؤخرا عبر الانتخابات.
وحيثما تجد الحيوية فى العالم الإسلامى.. تجد دور الشباب والكهول، فرئيس إيران أحمدى نجاد لم يكن فى الأصل إلا أحد شباب الثورة الإيرانية وتم انتخابه وهو أقل من ستين عاما وربما أقل من خمسين، وكذلك الوضع بالنسبة لحكام تركيا: حزب العدالة والتنمية.
وإذا عدنا إلى فلسطين من جديد نرى أن كافة منظمات المقاومة أنشأها الشباب، وأن تنظيم الجهاد أسسه فتحى الشقاقى الشاب والمفكر اللامع، أما التنظيمات الأخرى فقد تراجعت لأن ما يسمى القيادات التاريخية أو الأكبر سنا مصرة على التمسك بالقيادة، وفتح هى النموذج الأشهر.
فى المقابل نجد تجربة حزب الله فى لبنان تحاكى نفس مسار حماس، فعندما تولى السيد حسن نصر الله القيادة كان فى أواخر الثلاثينيات من عمره، والمجلس السياسى لحزب الله من نفس جيل نصر الله، ويمكن القول أن قيادات حماس وحزب الله هى أصغر القيادات السياسية فى الوطن العربى، وأنهم لو كانوا فى أحزاب عربية أخرى، لما تولوا إلا مواقع فى الاتحادات الشبابية التابعة لهذه الأحزاب العتيدة، ولا غرو أن حزب الله وحماس هما أنجح حركتين فى الوطن العربى!!
نعود لمصر ونشير سريعا إلى زعامة مصطفى كامل لمصر بينما لم يصل أصلا لسن الكهولة، حتى وافته المنية. وجمال عبد الناصر والضباط الأحرار كان معظمهم فى الثلاثينيات.
أما حسن البنا فقد أسس حركة الإخوان المسلمين وهو فى الثانى والعشرين من عمره، وأحمد حسين أسس مشروع القرش وحركة مصر الفتاة وعمره 19 سنة.
طبعا كل الشباب لن يكونوا حسن البنا أو أحمد حسين، ولكن من المحتم أن يتولى جيل شاب عملية التغيير فى مصر أو فى أى مكان فى الدنيا!
والوضع الأمثل هو المزيج بين حكمة الشيوخ وفتوة الشباب وتجدده الفكرى، ولكن شريطة أن تكون القيادة للشباب أو لا يعزلوا عنها (من العجيب ما يتردد أن د. عصام العريان ليس عضوا بمكتب الإرشاد حتى الآن رغم أنه من ألمع شخصيات الإخوان، والأكثر عجبا أنه لم يعد شابا فهو مثلى يتجه إلى الشيخوخة بخطى حثيثة)!
وكذلك نريد أن ننفى فكرة أن الشباب حركة دون فكر، فحتى فى عالم الفكر نجد أن كثيرا من كبار المبدعين من الفقهاء والمفكرين والفلاسفة والشعراء برعوا فى سن الشباب، ومن لم يبدع وهو فى العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من عمره لن يبدع بعد ذلك. وسنجد بعض هؤلاء العظماء ماتوا صغارا أو قبل الوصول لسن الشيخوخة، وبعضهم عاش وعمر وواصل إبداعه، ولكن ما يجمعهم جميعا أنهم بدأوا إبداعهم فى سن الشباب. ولا شك أن الذى عمر أكثر قدم إنتاجا أغزر وازداد حكمة مع الأيام، ولكننا نتحدث عن نقطة البدء. وعندما نضع فى وقت لاحق قائمة بأسماء وأعمار القادة والفقهاء والمفكرين سيذهل كثيرون من عدد الذين قضوا نحبهم مبكرين رغم إنتاجهم الفكرى العميق والثرى، ولكن يمكن أن نشير سريعا إلى بعض الأمثلة، فالإمام الشافعى الذى ينسب إليه تأسيس أصول الفقه فى العالم الإسلامى، غادر عالمنا وعمره 51 عاما، فقد بدأ مبكرا فى طفولته وصباه بحفظ القرآن, وتربى فى أحضان قبيلة عربية تتقن اللغة العربية، ولكن ليس هذا هو الأهم، الأهم هو استعداده ونباهته ومواهبه التى أدركها الإمام مالك، وكل أساتذته من بعده، حتى لقد عرض عليه شيخه فى بغداد أن يستقل بالفتوى، ورفض الإمام الشافعى وهو صغير السن تهيبا من هذا الأمر الجلل. ولكن لا شك أنه أصبح إماما وفقيها عظيما قبل وفاته بعشرين سنة على الأقل، أى كان فى مطلع الثلاثينيات. وأشرنا من قبل إلى حسن البنا وهو فقيه ومفكر وليس مجرد ناشط سياسى، وأحمد حسين، كتب كتابات معمقة فى الفقه الإسلامى وتتسم بالاجتهاد وهو فى الثلاثينيات من عمره (كتاب الإسلام والمرأة - الحرب - الإيمان والإسلام - العلم والمال فى الإسلام) وعندما وصل إلى حوالى السبعين من عمره، كان يعيد قراءة هذه الكتب لإعادة نشرها ويقول: "لا أجد ما أضيفه عليها"، رغم طول تبحره فى الفقه الإسلامى فى الربع قرن الأخير من حياته, والذى وصل إلى حد تفسير القرآن الكريم والكتابة فى السيرة النبوية الشريفة.
ومن الشعراء يحضرنى الشاعر التونسى اللامع "قاسم الشابى" الذى رحل عن عالمنا وعمره 25 سنة, ويعد من رموز الشعر العربى المعاصر, والعالمة النووية المصرية "سميرة موسى" توصلت إلى فكرة القنبلة النووية، قبل تفجير هيروشيما بثلاث سنوات، وكان عمرها كالشابى 25 عاما! ونعود إلى السيرة فى نهاية حديثنا للإشارة إلى زاوية مهمة، فقد لوحظ (إن أول من أسلم كان من أحداث الرجال أو من لدات الرسول عليه الصلاة والسلام أو ممن لا يكبره فى السن كثيرا، أما الشيوخ المسنون فلم يستجيبوا لدعوته استكبارا وأنفة، فللسن عند العرب منزلة، والعرف أعمق جذورا فى نفوس المسنين. وكان من العار على المسن تغيير ما هو عليه وما ورثه عن آباءه وأجداده.) (صالح أحمد العلى - محاضرات فى تاريخ العرب - الجزء الأول - الطبعة الثالثة - بغداد - مطبعة الإرشاد - 1964).
وقد أشرنا لهذا المعنى من قبل، ولكن الجديد وهو ما نتصور أنه غير قاصر على العرب، بل قانون شائع بين البشر، أن الأكبر سنا يأنف عادة من أن يعمل تحت قيادة من هو أصغر سنا، فى أجهزة الدولة الإدارية والبيروقراطية يتم كبت هذه الأحاسيس بقوة الأمر الواقع والانضباط الإدارى، مع الحرص على مصدر الرزق، ولكن فى المنظمات التطوعية ومنها المنظمات السياسية، فإن هذه المشاعر تكون ظاهرة، وكقاعدة عامة فإن الأكبر سنا لا يقبل بسهولة قيادة الأصغر منه سنا, حتى وإن كان هذا الأصغر أكثر جدارة بالقيادة، إلا إذا كان الأكبر سنا متجردا لله، ومخلصا للرسالة التى تجمع الجماعة، ويتمتع بأخلاق سامية ورفيعة، وأيضا برجاجة عقل وحكمة، وإيثار للنفس.
طبعا كان ذلك مع افتراض حكمة الطرف الأكثر شبابا، وأنه لا يتجاوز أخلاقيات احترام الكبير، وأنه أيضا يعرف قدره ويستفيد منه لا مداراة ولكن عن اقتناع حقيقى، فعموما لا يوجد إنسان أفضل من إنسان بصورة مطلقة, ولكنها مسألة الأنسب والأصلح عموما لموقع معين، وبغض النظر عن اعتبار السن. وكل إنسان خطاء وخير الخطائين التوابون، كل إنسان له مزاياه وعيوبه، والجماعة تحتاج إلى الجميع، والعمل الجماعى من المفترض أن يلتزم بالشورى ويستفيد من قدرات وأفكار كافة الأعضاء، وبالتالى فإن فكرة الاستعلاء مرفوضة فى كل الأحوال وهى تدخل تحت بند "الكبر" بكسر الكاف, وهذا أخطر ما يمكن أن يصيب مؤمنا لأنه سيورده مورد التهلكة فى الدنيا، لأنه سيكون محطا لكراهية الجميع وأيضا فى الآخرة: (لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر) حديث شريف.
وهذه المشكلة قد تحدث أيضا بين الأقران فى الجماعة السياسية، فالذين هم من سن واحد أو جيل واحد تقريبا تصيبهم مشكلة التنافس، ويرى كل منهم أن الآخر لا يقل عنه، بل لماذا لا يكون هو الأفضل منه، وما ذكرناه فى النقطة السابقة يسرى على تلك أيضا. فالإخلاص والتقوى والتجرد لله والقضية العامة هو الذى يمكن أن يحاصر هذه الأحاسيس المرضية ويعالجها على أساس الموضوعية، واختيار الأصلح للجماعة فى مختلف المواقع، مع التأكيد أن الشورى والعمل الجماعى المتفانى هما اللذان يعصمان الجميع من الذلل.
وتتمتع الجماعات الإسلامية والسياسية بالاستقرار عندما يكون لها شيخ أو قائد كبير متفق عليه، وأكبر سنا من الجميع أو أغلب الأعضاء، وله من المكانة والخبرة والدراية والثقافة ما يؤهله لذلك، ولكن فقدان هذا الشيخ أو القائد يعرض الجماعة أو الحزب لبعض الاضطراب، ولا تتغلب عليه إلا بالالتزام المحكم بالشورى والقيادة الجماعية.
أما فى السيرة النبوية فلم تنشأ بين المؤمنين مثل هذه المشكلات، فالأمر العقائدى لا لبس فيه، وهم أمام رسول موحى إليه، مهيبة ومقنعة - بدون تكلف - ولها احترامها الكبير ومصداقيتها حتى قبل النبوة. وهو يقودهم بالقرآن الذى تخشع له الأرض والجبال، كما أن الأمر كان فصلا وما هو بالهزل، فالدخول فى الإسلام يعنى تعريض حياتك للخطر، وفى هذا المناخ "الحربى" لا تنبت أصلا هذه المشاعر المرضية، ولكن ما ننتهى إليه هو الإشارة إلى إحجام معظم أكابر المجتمع ومسنيه أصلا عن الدخول فى هذا الدين الجديد، رغم وضوح رقيه عما هو سائد من عقائد بالية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.