المستشار د. مدحت محمد سعد الدىن منذ ما يزيد علي أربعين سنة تعلمنا وقت أن كنا طلابا دارسين للقانون أن هناك أصولا وقواعد أساسية تحكم نظريات القانون، بوصفها بديهيات ومسلمات، وأن لكل تشريع هدفا وحكمة دعت إلي إصداره أساسها تحقيق الصالح العام للمخاطبين بأحكامه وأن يكون عاما ومجردا، فلا يصدر لينطبق علي أشخاص بعينهم أو وقائع بذاتها وإلا فقد صفة العموم والتجريد، وأن المتهم برئ حتي تثبت إدانته في محاكمة عادلة تكفل له فيها ضمانات الدفاع بالإصالة أو الوكالة، فلاجريمة ولاعقوبة إلا بناء علي قانون كمبدأ عام مستمد من كافة الشرائع السماوية عملا بقوله تعالي " وما كنا معذبين حتي نبعث رسولا"، والعقوبة شخصية ولاعقاب إلا علي الأفعال اللاحقة لصدور القانون فلايطبق القانون بأثر رجعي إلا إذا كان أصلح للمتهم، كأن يصدر قانون ويعتبر الفعل المجرم فعلا مباحا لاجريمة فيه..... وتسير معظم الدول المتحضرة علي تلك المبادئ سواء عند وضع قواعد الدستور أبو القوانين أوعند سن أي قانون آخر، ولايماري في هذه الأصول أو تلك القواعد إلا جاهل بها غير متخصص في علم القانون. بحيث تنظم المجتمعات بقوانين منضبطة تحكم العلاقات المختلفة بين أفرادها وتطبق علي الجميع في حياد ونزاهة، فتتحقق العدالة في صورتها المثلي، ويصبح الجميع أمام القانون سواء، فينصرفون إلي ممارسة شئون حياتهم مطمئنين، طالما أن القوانين تصدر للصالح العام ويتولي أمر إصدارها وسنها إناس متخصصون ذوو خبرة معترف بها في هذا المجال، ويطبقها قضاة محترفون لايخشون في الحق لومة لائم. غيرأنه منذ قيام ثورة 25 يناير صدرت كثير من النصوص الدستورية والقانونية المعيبة التي تخالف أبسط المبادئ المشار إليها بصدر المقال كالنصوص الدستورية الخاصة بتشكيل اللجنة التأسيسية للدستور وطريقة الانتخاب بالقائمة والقانون الأخير المعروف بالعزل السياسي فشابها الكثير من الغموض والإبهام في الصياغة القانونية، وأحدثت لغطا وأثارت بلبلة في الفكر القانوني بين رجال القانون أنفسهم فما بالك بعموم الناس الذين لايعلمون شيئا عن القانون، وتكاد تنحصر اهتماماتهم في السعي للحصول علي لقمة العيش بشق الأنفس في ظل الظروف الأمنية المتردية والاقتصادية المتداعية التي لم تشهدها البلاد من قبل، مما أتاح الفرصة للادعياء والانتهازيين ومحترفي ركوب الأمواج إلي إذكاء روح الفتنة مما يزيد من حالة الفوضي وعدم الاستقرار التي نعاني منها، ولاأبالغ إذا قلت أن مانراه من مظاهرات واضطرابات تهدد استقرار هذا الوطن راجع بالدرجة الأولي إلي صدور مثل هذه القوانين المعيبة، وإذا كان القانون منطق فإنني لاأري أي منطق في القوانين أو التشريعات التي تصدر علي هذا النحو ولايمكن تفسير صدورها علي تلك الصورة إلا لسبب من السببين التاليين: أولا: إن هذه التشريعات الصادرة وقد خلت من أبسط المبادئ الدستورية والقانونية هي تشريعات معيبة بعيوب الانحراف التشريعي، ولن تصمد أمام الإلغاء إذا نظرتها المحكمة الدستورية العليا في حالة الطعن عليها. ثانيا: إذا كانت الصياغة القانونية هي صنعة تعني تحويل الفكرة الجوهرية التي ينتهي إليها العقل في ضوء الظروف الواقعية للمشكلة المطلوب حلها إلي نصوص قانونية صالحة للتطبيق لاتسفر عن لبس أوغموض أو تثير مشاكل أخري يتضح منها أن المقصود بها مخالفة الصفات الأساسية للقانون من تجرد وعموم وتحقيق مصلحة عامة، فإن النصوص القانونية المعيبة التي صدرت مؤخرا لاتكشف سوي عن ضعف في الخبرة القانونية من قبل واضعيها، وعدم الإلمام بالمبادئ الأساسية لصياغة التشريعات القانونية. فهل آن الأوان لوقف هذا النزيف المستمر من القوانين المعيبة التي لاتؤدي إلا لمزيد من المشاكل في التطبيق وتثير نفوس المخاطبين بأحكامها وتوغر الصدور ولاتنطلي علي فطنة أي محترف للقانون، وتؤدي إلي البلبلة والاضطراب وعدم الاستقرار، خاصة وأن حل هذه المشكلة ميسور إذا ما تمت الاستعانة بذوي الخبرات القانونية الحقيقية الموثقة بدراسات أثرت الفكر القانوني، فضلا عن ضرورة عرض مشروعات القوانين علي مجلس الدولة لمراجعتها بمعرفة قسمي الفتوي والتشريع والجهات القانونية الأخري التي تنص عليها القوانين المعطلة عن التطبيق حتي الآن.