الثورات في العادة تذكر بالخير في التاريخ; وتميل الشعوب والحكومات إلي تمجيدها لأنها بحكم التعريف نقلت البلاد نقلة كيفية إلي الأمام, أو غيرتها جذريا علي أحسن تقدير سواء كان هذا التغيير إلي الأفضل أو الأسوأ. ومن ناحية أخري فإن للثورات وظيفة في صنع هوية الأمم أو إضافة أبعاد جديدة لها لم تكن مكتشفة من قبل. ومنذ الخامس والعشرين من يناير2011 جرت في مصر ثورة بالفعل, وضعت فيها نهاية للدولة الفرعونية التي يظل فيها رئيس الدولة علي قيادة الدولة حتي نهاية حياته, ولأنها وضعت مصر علي أول بدايات صياغة حياة ديمقراطية حقيقية في مصر. وسواء كانت الثورة مستندة إلي جماهير طالبت بالديمقراطية ومحاربة أشياء كثيرة كريهة مثل الاستبداد والفساد, أو أنها كانت مستندة إلي كل ذلك مضافا إليه الشرعية التي تقنن الثورة وهي تهدم ما فسد, وتبني ما صلح, وتضعها في إطار شرعي تقبله وتعيش معه أجيال قادمة. وفي كل الأحوال فإن خروج الملايين من المصريين إلي الشارع من أجل تغيير سياسي بشكل أو آخر كان في ذاته عملية ثورية جرت فيها اتجاهات كثيرة ومعقدة ظلت علي تواصلها من أجل التغيير, وعملت معا علي اختلاف الأصول والأفكار علي تأمين البلاد في لحظات ثورية تكون في العادة مهددة للأمن العام والشخصي. كان ذلك ثورة بكل المقاييس شملت كل أنحاء البلاد, واحتوت علي كل الموضوعات التي تمتم المصريون بها أحيانا وصرحوا في أحيان أخري; وبينما كانت هناك موضوعات مركبة قد جري تبسيطها, فإن موضوعات أخري لا تقل حرجا جري وضعها تحت البساط لأنها تفرق ولا تجمع, أو لأنها ببساطة لا توجد لها إجابات علي أسئلتها المعقدة. ولكن للثورات أيضا مشاهد عدة ربما لن يزيد ما تحصل عليه في كتب التاريخ أكثر من سطر; ولكنها خلال الثورة تأخذ ما تحتاجه من بريق. الثورة المصرية الديمقراطية لم تكن استثناء من هذه القاعدة حيث كثرت فيها لجان الحكماء المتعددة, والتي لم تنجح حكمتها في توحيد جهود الحكمة, وكانت جل جهودها أن تنقل مطالب الثوار للسلطة لعلها تستمع فينقذون الوطن والثورة معا. ولكنهم لا يطلبون من الثوار شيئا لأن ذلك سوف يكون محبطا لمشاعر الراديكاليين من الثوار وأعصابهم الحساسة والفائرة. مثل هذا المشهد سوف يحتاج معالجة خاصة في يوم من الأيام, وربما كانت أعقد المشاهد ساعة الثورة كيف تتغير جماعات وأفراد بعد أيام عصيبة نقلت بلدا بأكمله من عهد بات بائدا, إلي عصر جديد لا يوجد فيه إلا النور وفجر أيام دائما جديدة وتاريخية. ولفت نظري السهولة التي جري بها التغيير في مصر عام1952 حينما تقدم مثقفون وفقهاء وفنانون لكي ينتقل عالمهم السياسي والاجتماعي والثقافي من الزمن الملكي إلي الدنيا الجمهورية. كان السنهوري وفتحي رضوان وغيرهما علي استعداد لكي يحللوا أمورا دستورية كثيرة للثوار لكي يصير كل شيء ثوريا وعصريا وشرعيا في نفس الوقت. وفجأة أصبحت أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهما علي استعداد للاحتفاء بجماعة الضباط الأحرار, وبدلا من جلالة الملك فاروق جاء الزعيم الملهم جمال عبدالناصر. تغير الزمن أيامها, وها هو يتغير الآن, ونسي الجمهور في ميدان التحرير كل ما يعرفونه عن السيد عمرو موسي(75 عاما) الأمين العام لجامعة الدول العربية وهم يصفقون له ويدعونه لكي يكون مرشحا لرياسة الجمهورية. كان الرجل دائما من المشاهيرCelebrity والشخصيات القومية التي تصاعدت انتقاداتها الدبلوماسية للنظام المصري خلال العام الأخير. كانت أكثر عبارات الأمين العام والدبلوماسي الماهر راديكالية أن الأمور لا ينبغي أن تبقي علي حالها, أو أن التغيير أصبح فريضة الآن, أو عبارات من هذا القبيل والتي لا تزيد علي القول إن الأمور ليست علي ما يرام, وإن أمرا لا ينبغي أن يبقي علي حاله. ولكن لا هذا ولا ذاك أبدا تم شرحه, أو وضع اقتراح أو تفاصيل لتوضيحه. كانت المسألة دائما غائمة وعائمة وتعطي مسافة كافية للتراجع; ولكن بعد أن جاءت الثورة كانت المسافة للأمام بالذهاب إلي الثوار الجدد في ميدان التحرير والحصول علي تصفيقهم. وربما كانت هذه هي المرة الأولي في التاريخ التي يكون لدي الأمين العام لأي منظمة دولية الشجاعة لكي يسير ويحيي ويؤيد ثوار دولة عضوة من أعضاء المنظمة التي يمثل أعضاءها. ولكن عمرو موسي فعلها, وفي الدولة القائدة التي رشحته حكومتها وسلطتها السياسية لكي يكون الأمين العام لجامعة الدول العربية. وفي الأيام العادية فربما كان علي الرجل أن يستقيل من منصبه لينضم إلي مواكب الثوار ويعلن استعداده للترشيح لرئاسة الجمهورية إذا طلبه الشعب بالطبع; ولكن الرجل لم يفعلها لأنها أيام الثورة علي أي حال حيث لن يتذكر أحد أبدا أن صاحبنا كان وزير خارجية النظام المطلوب سقوطه حسب الشعار الذي قال إن الشعب يريد إسقاط النظام, لمدة عشر سنوات لا ندري فيها كم عدد المرات التي طالب فيها بالإصلاح والتغيير, وعلي أي حال إذا كان قد فعل فهو لم يخرج بها إلي العلن أبدا. حالة السيد عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية التي تتمتع مصر بعضويتها حتي الآن, ووزير الخارجية المصري الأسبق, لم تكن هي الحالة الوحيدة للعجب في ميدان التحرير. فربما كانت حالة الزميل والصديق أيضا أسامة الغزالي حرب(63 عاما), رئيس تحرير السياسة الدولية السابق, ولكن الأهم عضو مجلس الشوري لدورتين 12 عاما جديرة بالتسجيل. فخلال تاريخه السياسي كان من القريبين من النظام إلي الدرجة التي كان فيها من المصطفين لكتابة تاريخ الرئيس مبارك وتسجيله من أجل الأجيال القادمة, وبينما فعل ذلك كان من البارزين في الحوار الوطني(1994) الذي قاده إلي مجلس الشوري حيث ظل فيه لدستة كاملة من الأعوام حتي خرج منه بعد أن اكتشف فجأة أن المجلس يقوم علي انتخابات مزورة وينبغي, للمجلس الوحيد الذي لم يكن عضوا فيه, أن يحل. الرجل مضي قدما علي أي حال وأصبح جزءا من المعارضة, ولكنه أيضا أصبح من أكثر الثوار تطرفا إلي جانب الدكتور محمد البرادعي مطالبا ليس بالتغيير الدستوري ولكن بتنحي رئيس الجمهورية أيا كانت الاعتبارات الدستورية التي أقسم علي احترامها مرتين من قبل. الغريب أن التطرف في المطالب الثورية جاء بعد أن فقد حزب الجبهة الديمقراطية الذي يترأسه معظم أعضائه, ولكنه بين يدي الثوار أصبح ممثلا للشعب المصري كله ضد نظام استبدادي دون مناوأة من مارجريت عازر أو حتي الدكتور يحيي الجمل اللذين تركا الحزب الذي اشتركا في تأسيسه. وعلي أي الأحوال فقد كان أستاذنا الدكتور يحيي الجمل ممن كانوا وزراء في عهد الرئيس أنور السادات حيث لم يكن هناك أيامها تعددية حزبية, ولا ديمقراطية مؤسسية, ولا تداول للسلطة, ولا أي من الأمور التي يطالب بها أستاذنا الآن. ولكن للحق والحقيقة لم يكن رجلنا وحده الذي كان في ذات السلطة السياسية, ولكن كان هناك آخرون عاشوا لحظة الوزارة حيث كانت السلطة السياسية بشكلها الذي ولدته ثورة يوليو المباركة, وربما كانوا يحلمون منذ ذلك الوقت بتلك اللحظة التي يهبطون فيها في ميدان التحرير بين صفوف الثورة وجماعات الثوار. ولكن المدهش دائما هو ما يفعله الفنانون والأدباء من شعراء وكتاب في مرحلة الثورة. صحيح أن من بينهم من كان مناديا بها, واقفا في صفوف المعارضة ومناديا بالثورة والفورة منذ وقت طويل, ولكن جزءا كبيرا جدا من الجماعة الثقافية كان دائما من حبايب النظام القائم, ومشاركا في مهرجاناته وداعيا إليه بطول العمر والمكانة السياسية. فجأة ظهر هؤلاء جميعا للحصول علي البركة الثورية, وانطلقوا في الخطابة التي تزلزل الجبال ضد الاستبداد والديكتاتورية والطغيان ببلاغة مذهلة. الأسماء كثيرة وكثرتها غزيرة, وكلها تمثل نمطا تاريخيا للنفاق السياسي لا ضرر منه دائما فهكذا تكون غريزة التكيف لدي الأفراد فكيف تكون الحال مع أصحاب الشهرة والذيوع. وسبحان مغير الأحوال. [email protected]