حزب الجبهة الوطنية بالجيزة يستعد بخطة لدعم مرشحيه في جولة الإعادة بانتخابات النواب    رانيا المشاط تبحث مع «أكسيم بنك» تطور تنفيذ المشروعات الجارية في مجالات البنية التحتية المختلفة    الذهب يتجه لتحقيق مكاسب شهرية للمرة الرابعة مع رهان خفض الفائدة الأمريكية    وزير الاتصالات: توفير التدريب لذوي الاضطرابات العصبية ودمجهم في بيئة العمل بقطاع التكنولوجيا    54 ألف طن قمح رصيد صوامع الغلال بميناء دمياط اليوم    الاتصالات: شركة عالمية تدرب ذوى الاضطرابات العصبية على التخصصات التكنولوجية    الخارجية السورية تندد بالقصف الإسرائيلي على بيت جن وتعتبره «جريمة حرب»    الأمم المتحدة تدعو للتحقيق في قتل القوات الإسرائيلية فلسطينيَين رغم استسلامهما    محافظ شمال سيناء من معبر رفح: جاهزون للانتقال للمرحلة الثانية من اتفاق غزة    محاضرة فنية من عبد الرؤوف للاعبي الزمالك استعدادًا لكايزر تشيفز    تراجع ريال مدريد عن تكرار سيناريو صفقة أرنولد مع كوناتي    ضبط 1298 مخالفة مرورية لعدم ارتداء الخوذة    حريق ديكور تصوير مسلسل باستوديو مصر في المريوطية    طقس غد.. مفاجأة بدرجات الحرارة ومناطق تصل صفر وشبورة خطيرة والصغرى بالقاهرة 16    مصرع وإصابة 3 أشخاص إثر سقوط سيارة داخل حفرة بحدائق الأهرام    تعاطى وترويج على السوشيال.. القبض على حائزي المخدرات في الإسماعيلية    تامر حسنى: بعدّى بأيام صعبة وبفضل الله بتحسن ولا صحة لوجود خطأ طبى    تجهيزات خاصة وأجواء فاخرة لحفل زفاف الفنانة أروى جودة    مهرجان شرم الشيخ المسرحى يحتفى بالفائزين بمسابقة عصام السيد للعمل الأول    وزير الخارجية يلتقى رئيسة مؤسسة «آنا ليند» للحوار بين الثقافات    كورونا أم أنفلونزا.. مسئول المصل واللقاح يكشف ترتيب انتشار العدوى التنفسية |فيديو    تحويل طبيب للشئون القانونية لتغيبه عن العمل بوحدة صحية فى قنا    بعد وفاة فتاة في المغرب.. باحث يكشف خطورة «غاز الضحك»    تفريغ كاميرات المراقبة بواقعة دهس سيدة لطفلة بسبب خلاف مع نجلها بالشروق    محافظة الجيزة تعلن غلق كلى ل شارع الهرم لمدة 3 أشهر لهذا السبب    شادية.. أيقونة السينما المصرية الخالدة التي أسرت القلوب صوتاً وتمثيلاً    تحقيق عاجل بعد انتشار فيديو استغاثة معلمة داخل فصل بمدرسة عبد السلام المحجوب    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات والانهيارات الأرضية بإندونيسيا إلى 84 شخصًا    أحمد الشناوي: مواجهة بيرامديز ل باور ديناموز لن تكون سهلة    الصحة: فحص نحو 15 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأورام السرطانية    «السبكي» يلتقي وزير صحة جنوب أفريقيا لبحث تعزيز السياحة العلاجية والاستثمار الصحي    أسعار البيض اليوم الجمعة 28 نوفمبر    استعدادات مكثفة في مساجد المنيا لاستقبال المصلين لصلاة الجمعة اليوم 28نوفمبر 2025 فى المنيا    خشوع وسكينة.. أجواء روحانية تملأ المساجد في صباح الجمعة    انقطاع الكهرباء 5 ساعات غدًا السبت في 3 محافظات    رئيس كوريا الجنوبية يعزي في ضحايا حريق المجمع السكني في هونج كونج    مواقيت الصلاه اليوم الجمعه 28نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا    "من الفرح إلى الفاجعة".. شاب يُنهي حياة زوجته بسلاح أبيض قبل الزفاف في سوهاج    جنوب الوادي.. "جامعة الأهلية" تشارك بالمؤتمر الرابع لإدارة الصيدلة بقنا    صديقة الإعلامية هبة الزياد: الراحلة كانت مثقفة وحافظة لكتاب الله    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 28- 11- 2025 والقنوات الناقلة    الجيش الإسرائيلي يقتل فلسطينيا ويصيب طفلة جنوبي غزة    صلاة الجنازة على 4 من أبناء الفيوم ضحايا حادث مروري بالسعودية قبل نقلهم إلى مصر    45 دقيقة تأخير على خط «طنطا - دمياط».. الجمعة 28 نوفمبر 2025    الشرع يدعو السوريين للنزول إلى الشوارع في ذكرى انطلاق معركة ردع العدوان    محمد الدماطي يحتفي بذكرى التتويج التاريخي للأهلي بالنجمة التاسعة ويؤكد: لن تتكرر فرحة "القاضية ممكن"    ستاد المحور: عبد الحفيظ يبلغ ديانج بموعد اجتماع التجديد بعد مباراة الجيش الملكي    رمضان صبحي بين اتهامات المنشطات والتزوير.. وبيراميدز يعلن دعمه للاعب    عبير نعمة تختم حفل مهرجان «صدى الأهرامات» ب«اسلمي يا مصر»    شروط حددها القانون لجمع البيانات ومعالجتها.. تفاصيل    إعلام فلسطيني: الاحتلال يشن غارات جوية على مدينة رفح جنوب قطاع غزة    القانون يحدد ضوابط لمحو الجزاءات التأديبية للموظف.. تعرف عليها    حذر من عودة مرتقبة .. إعلام السيسي يحمل "الإخوان" نتائج فشله بحملة ممنهجة!    دار الإفتاء توضح حكم إخراج الزكاة للأقارب.. اعرف قالت إيه    سيناريست "كارثة طبيعية" يثير الوعي بمشكلة المسلسل في تعليق    بيونجيانج تنتقد المناورات العسكرية الأمريكية-الكورية الجنوبية وتصفها بالتهديد للاستقرار    أبوريدة: بيراميدز ليس له ذنب في غياب لاعبيه عن كأس العرب    الشيخ خالد الجندي يحذر من فعل يقع فيه كثير من الناس أثناء الصلاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هيكل: الكثيرون من أهل الثقة يمكن أن يكونوا أهل خبرة والعكس صحيح
نشر في الدستور الأصلي يوم 09 - 02 - 2010

بعد أن حدد هيكل موقفه في الفصل الثاني من الكتاب وأزال الالتباس حول أزمة المثقفين ينتقل إلي ما يطلق عليه الأزمة الثانية التي قامت بين قوة الدفع الثوري وبين جماعات من المثقفين، هذه الأزمة التي استحكمت في ربيع سنة 1954، بسبب المطالبة بعودة الحياة النيابية وعودة الأحزاب السياسية باعتبار أن ذلك هو المعني الوحيد للديمقراطية. ويقول إن هذه الأزمة، كما لاحظ كثيرون وهم علي صواب هي جزء من الأزمة الأولي، أزمة المطالبة بعودة الجيش إلي ثكناته، وامتداد منطقي لها. ولقد كانت وجهة نظر المطالبين بعودة الحياة النيابية وعودة الأحزاب السياسية هي أنه «الآن وقد تمت الثورة فيجب أن تنتهي مهمة الجيش وأن يعود الحكم إلي أربابه... وإذن ينبغي أن تعود الأحزاب السياسية وينبغي أن تعود الحياة النيابية لكي تستأنف الأمور سيرتها الأولي». ولكنه يرد علي ذلك بطرح سؤال جديد هو هل كان ذلك تعبيراً عن متطلبات النضال الشعبي أو هل كان ذلك تعبيراً عن فكر ثوري؟ بمعني أوضح وأجلي: هل كان ذلك هو أسلم طريق لحماية الثورة وتمكين فاعلياتها؟ ويجيب عن السؤال بالقول :الواقع أن الثورة لم تكن قد تمت بعد وأكاد أقول إنها لم تكن قد بدأت! إن القول بأن يوم 23 يوليو سنة 1952 هو يوم الثورة ينطوي في الحقيقة علي خلط بين معني الانقلاب ومعني الثورة. الانقلاب هو الاستيلاء علي السلطة، والثورة هي تغيير الأوضاع تغييراً شاملاً بحيث تختلف الأمور بعدها اختلافاً أساسياً عما كانت عليه قبلها... لكي تنتقل مما هو كائن فعلاً، إلي ما ينبغي أن يكون أملاً. فإذا وصلنا بعد ذلك إلي القول بأنه في 23 يوليو كان «الانقلاب» الذي قد يمهد للثورة قد تم ولكن الثورة ذاتها لم تكن قد تمت بعد، فإن السؤال الذي يبرز علي الفور هو: - هل كانت الأحزاب السياسية التي جرت المطالبة بعودتها، وهل كانت الحياة النيابية بالصورة التي كانت عليها، قادرة علي إتمام الثورة؟
وبعد أن يتحدث هيكل عن كيفية بناء التراكم الاقتصادي عبر الملكية الزراعية التي مثل كبار ملاكها نخبة الأحزاب يقول : إن الثورة ليست انفعالاً عاطفياً، ليست تصفيقاً يمزق الأكف ولا هتافاً يجرح الحناجر. إنما الثورة تغيير أساسي يعيد إقامة الأوضاع الاقتصادية في الوطن علي أساس جديد من العدل والتكافؤ. وإذن فإن الأحزاب السياسية التي كانت قائمة في مصر قبل الثورة وبصفة عامة الطبقة الحاكمة كلها، لم تكن تريد الثورة، رغم ما بدا من استجابتها العاطفية لها في الأيام الأولي لقيام الانقلاب ولطرد الملك. وإذن فإن النداء بعودة الأحزاب السياسية كان في واقعه نداء بتجميد الثورة وإبقاء كل شيء علي ما كان عليه!
ويضيف هيكل : إن النداء بعودة الأحزاب ليس معناه الحتمي أن تعود نفس الأحزاب القديمة. ألم يكن المجال مفتوحاً لقيام أحزاب جديدة تباشر الحكم وتتولي المسئولية؟ ولست أتصور أن ذلك كان ممكناً بطبيعة الأحوال؟ إذا اتفقنا علي أن الأحزاب السياسية لا تنشأ اعتباطاً، وإنما الأحزاب تنشأ تعبيراً عن المصالح المترابطة، كذلك يحدث في كل بلاد العالم، فما المصالح الجديدة المترابطة التي كان يمكن أن تعبر عنها الأحزاب الجديدة في مصر في تلك الفترة؟ لقد كان التغيير الثوري بعد في بدايته. لم يكن قد استطاع أن يروض المصالح القديمة التي كان لها وحدها الأمر، وأن يضرب قدرتها علي استعادة السيطرة علي الحكم تمهيداً لمواصلة الاستغلال. ولم يكن في الوقت نفسه قد استطاع أن يحمي المصالح الجديدة التي أتاح لها بعض الفرص، وأن يضعها في موضع القدرة علي الحيلولة دون أي انتكاس أو ردة.
ويخلص إلي ثلاث نتائج مهمة هي:
1 أن المطالبة بعودة الأحزاب القديمة كان معناها تجميد الثورة من حيث هي دعوة المصالح القديمة أن تعود إلي الحكم.. بل إلي التحكم.
2 أن المطالبة بتأليف أحزاب جديدة كانت دعوة نظرية باعتبار أن التغيير الثوري الذي وقع حتي ذلك الوقت لم يكن قد سمح بفرصة ظهور مصالح جديدة قوية وقادرة.
3 أن مطالبة الطليعة التي تصدت للثورة بتأليف حزب واحد، كانت تنطوي علي كثير من التجني، فإن هذه الطليعة بسبب بعدها عن مجال العمل السياسي بصورته الطبيعية، لم تكن تملك إلا إرادة التغيير الثوري، ولم تكن قد وصلت بعد إلي عقيدة تقود خطاها إلي هذا التغيير، وإنما هي حتي ذلك الوقت كانت تمارس عملها الثوري بالتجربة والخطأ.
ونصل إلي الفقرة المهمة في هذا الفصل عندما يقول هيكل :إن العمل الوطني المطلوب قد تحدد: تنمية قاعدة الثروة الوطنية والعدل في توزيعها. والظروف التي يجب أن يتم تحتها هذا العمل تحددت: سرعة منطلقة... وإطار من الوحدة الوطنية حول صراع الطبقات يمنع القوي الخارجية من استغلاله لصالح حروبها الباردة.
ويضيف :يبقي سؤال مهم هو: - علي من تقع مسئولية العمل الوطني؟ والرد الوحيد الذي أؤمن به هو: - علي الشعب بالقطع.. لا علي فرد.. فإن كل فرد إلي زوال، ولا علي نظام.. فإن كل النظم مراحل في تاريخ الأمة. وإنما الشعب هو القوة الوحيدة الأزلية الخالدة.. وبه العمل.. ومن أجله العمل. معني ذلك في رأيي أن قضية الثورة لا تنفصل عن قضية الديمقراطية. وإذا ما الذي يبقي؟ يبقي الأسلوب..الأسلوب المناسب للعمل.. المناسب لأهداف العمل.. المناسب لظروف العمل..
ويتساءل هيكل هل كانت المطالبة بعودة الأحزاب القديمة.. أو المطالبة بإنشاء أحزاب جديدة... أو حتي المطالبة بإنشاء حزب واحد.. هي المواجهة الحقيقية من ناحية الأسلوب للتحدي الذي يواجهنا من ناحية العمل؟ويجيب : لا أظن! ولقد حاولت قوة الدفع الثوري أن تجيب عن هذا التحدي من ناحية الأسلوب بفكرة «الاتحاد القومي». ولست أقول إن فكرة الاتحاد القومي لابد أن تكون هي القدر الذي لا يناقش. لست أقول بذلك علي الإطلاق. وإنما الذي أقوله هو أن فكرة الاتحاد القومي هي محاولة للإجابة عن السؤال الحقيقي. هي محاولة الرد، علي التحدي الفعلي، لمتطلبات العمل الوطني، والظروف التي يجري تحتها هذا العمل. ولقد تكون الإجابة في حد ذاتها تحتمل الصواب أو الخطأ وقد تم التراجع بعد ذلك عن فكرة الاتحاد القومي تم تأسيس الاتحاد الاشتراكي بديلاً عنه.
ثم ينتقل هيكل إلي الأزمة الثالثة، في العلاقات ما بين ما يطلق عليه «قوة الدفع الثوري» «المثقفين» وهي المفاضلة بين أهل الثقة وأهل الخبرة. ويقول في البداية إنه يريد في بداية هذه المناقشة أن يضع بعض النقط علي حروفها.
أولاً أن أسلم بأنه في عدد من الظروف كانت لأهل الثقة أفضلية معينة
و ثانياً : أن أوضح أن المفاضلة بين أهل الثقة وأهل الخبرة ليست مفاضلة بين العسكريين والمدنيين
و ثالثاً : أن أقول إنه ليست هناك خطوط فاصلة قاطعة نهائية بين أهل الخبرة فإن الكثيرين من أهل الثقة يمكن أن يكونوا أهل خبرة كما أن الكثيرين من أهل الخبرة يمكن في الوقت نفسه أن يكونوا أهل ثقة.
ويري هيكل أنه لكي نستطيع العودة إلي جذور حكاية المفاضلة بين أهل الثقة وأهل الخبرة ونماشيها حتي فروعها، فإن عليه تقسيم الطريق إلي مراحل تيسر أمر البحث والتقصي من ناحية، ومن ناحية أخري، فإن هذه المراحل يمكن أن تكون محطات وقوف، نستريح عندها لحظات نلتقط فيها أنفاسنا من عناء التطلع والمسير. المرحلة الأولي: مرحلة الحيرة بعد 23 يوليو، حتي اكتشفت الطليعة التي تصدت لتنفيذ الانقلاب أنها مضطرة لأن تتصدي أيضاً لمسئولية الثورة.
المرحلة الثانية: مرحلة البحث عن طريق للعمل الثوري وسط الضباب الفكري وبين الشد والجذب. المرحلة الثالثة: مرحلة العثور علي نقطة البداية اتجاهاً إلي الثورة، ثم التصدي للآمال الكبري علي هدي خطوط عقائدية واضحة، لم تكن قد استطاعت بعد أن تصنع نظرية شاملة لإحداث التغيير الثوري ولكنها بالقطع كانت تسير علي الطريق الصحيح في ذلك الاتجاه.
ونصل إلي نقطة مهمة في حديث هيكل عندما يقول : وقبل أن أمضي من هنا أشعر أنه لابد لي أن أضيف، أن جذور الحكاية بمراحلها الثلاث المتوالية تتصل بشكل أو بآخر بأزمة المثقفين وبصميمها. تتصل بحقيقة أن الذي تصدي للعمل الثوري، طليعة لم يكن العمل السياسي في مجال نشاطها الطبيعي، ولكنها وجدت نفسها مشدودة إليه، تحت ضغط إحساسها بمطالب الجماهير، وتحت إلحاح الفراغ الذي نشأ من سقوط القيادات السياسية الطبيعية أو من قصورها عن مواجهة التحدي الذي فرضته الحوادث. وكانت هذه الطليعة تملك إرادة التغيير الثوري، ولكنها كانت بحكم طبيعة الأشياء لا تملك نظرية التغيير الثوري وعقيدته.
ويضيف عدة نقاط أخري في هذا السياق هي :
: 1 إن الطليعة التي تصدت للعمل يوم 23 يوليو، لم تكن هي نفسها تدرك حدود دورها، ولم تكن تري بوضوح مدي الفراغ السياسي الذي تحركت فيه، ولم تكن تتصور أنها ستحكم، ولم تكن تقدر أن بقاءها خارج ثكناتها سوف يطول عن ساعات، وربما من هنا كان الإصرار في تلك الأيام علي إحاطة أسماء قادة الطليعة بأسوار من الصمت والكتمان.
2 لم تكن هناك نظرية أو شبه نظرية للتغيير الثوري. كانت هناك إرادة التغيير الثوري لدي الطليعة، ولكن إرادة الثورة هي التطلع للمثل الأعلي الذي يستهدفه التغيير، أما العقيدة أو النظرية فهي تحديد الطريق والأساليب وصولاً إلي المثل الأعلي. وما من شك أن «الأشياع المتفرقة، والفلول المتناثرة» التي وصفها جمال عبدالناصر في صورته الحية، إنما هي من نتائج الضباب العقائدي، الذي هو نفسه من نتائج أزمة المثقفين. ذلك أن الحماسة قادرة علي أن تجمع الصفوف وترصها لحظات، ولكن العقيدة هي وحدها القادرة علي إبقاء الصفوف متراصة وتنظيم زحفها علي طريق المثل الأعلي.
3 إن صراع الطبقات والتناقضات القائمة بين مصالحها، كان بوضوح هو الرمز الذي عناه جمال عبدالناصر حين رسم صورة «الرجل الذي لم يكن يهدف إلا إلي قتل رجل آخر، والفكرة التي لم تكن تهدف إلا إلي هدم فكرة أخري، وطلبات الانتقام التي أرادت للتغيير أن يكون سلاحاً في يد الأحقاد!». ماذا كان من أثر هذه الصورة؟ من أثر هذه الصورة نتيجتان: الأولي: أن الطليعة وجدت نفسها مرغمة علي البقاء داخل الفراغ الذي اندفعت إليه، فإن انسحابها منه علي نحو أو آخر لم يكن يعني غير انهيار كامل للكيان الوطني، ومع نظرة الطليعة لمهمتها الجديدة، وأبعادها السياسية المترامية.
والنتيجة الثانية من أثر هذه الصورة: أن ظلالاً من الشك راحت تتجمع في أفق العلاقات ما بين قوة الدفع الثوري، وما بين عدد ممن يمكن حسابهم في نطاق أهل الخبرة. بعضهم يحكم ارتباطاته الطبقية كأن يقف ضد التغيير الثوري الذي كان الإحساس به غالباً، وإن كان البحث عن طريق إليه مازال مستمراً. والبعض الآخر لم يكن في استطاعته أن يري الحاجة إلي التغيير الثوري، وأن يساهم بعلمه وخبرته في تحويل الإحساس به إلي أسلوب أو شبه أسلوب للعمل الثوري العلمي. في هذه الظروف بدأ الكلام لأول مرة عن أهل الثقة وأهل الخبرة!.
وفي الفصل الخامس من كتابه يقول هيكل إنه ليست هناك الآن، قضية أحق بعناية المثقفين ولا أجدر من قضية التوضيح الثوري. إن التوضيح، عن طريق النظرية، أصبح الآن بعد ما يقرب من 9 سنوات من يوم التغيير الكبير في 23 يوليو 1952 ضرورة حيوية لنجاح الثورة. وليس معني ذلك أنني أريد للثورة أن تتوه في بحار الجدل الفلسفي، ولكني أتصور أنه قد حان الوقت الذي نستطيع فيه بناء إطار فكري واضح لاتجاهاتنا الثورية، بحيث يستطيع هذا الإطار بالممارسة العملية أن يتحول في المستقبل إلي عقيدة كاملة.
ويضيف لسنا في الواقع نبدأ هذه المحاولة الآن من فراغ، وإنما نحن نملك ثروة ضخمة من الشعور الثوري الذي تعبر عنه شعاراتنا، ومن الإجراءات الثورية التي صدرت عن إرادة التغيير لدي قوة الدفع الثوري. وإذا ما استطعنا أن نمزج شعورنا، الذي تعبر عنه شعاراتنا مع الإجراءات الثورية التي فرضت نفسها في مجتمعنا، ووضعنا ذلك كله في جو التجربة الوطنية، فإننا عن طريق هذا المزيج نستطيع الوصول إلي إطار فكري واضح، يقود علي الطريق الصحيح خُطانا، ويجنبنا الانحراف أو الضياع أو الجمود! والتوضيح الثوري، لا يقل أهمية، بل يزيد علي التخطيط الاقتصادي وإذا كان التخطيط هو حشد الموارد الاقتصادية في اتجاه التنمية، بغية الوصول إلي الكفاية والعدل.، فإن التوضيح هو حشد الموارد الفكرية الإنسانية علي أساس من الاقتناع والحماسة بفتح الطريق أمام الأفراد لكي يستطيع كل منهم أن يجد مكانه ومن ثم يجد دوره الذي يستطيع فيه أن يعطي للمجتمع طاقة إبداعه وخلقه. والوسيلة الوحيدة إلي التوضيح في تصوري هي الحرية، ومزيد من الحرية، خصوصاً في إبداء الرأي والمناقشة. حرية لا قيد عليها يعوق انطلاقها ويصد وصولها إلي الهدف، حرية لا عقد تحكمها وتبدد طاقتها وتجعلها حين تصل في النهاية إلي مكان الهدف، باهتة اللون.. شاحبة!.. حرية تتسع بقدر المسئولية التي نتحملها اليوم تجاه الفكر الثوري في عالمنا خصوصاً فيما يتعلق بدول آسيا وأفريقيا التي تقف الآن علي أبواب التجربة الكبري لصنع مجتمع جديد. حرية مستنيرة قادرة علي الحياة في عالم لا تستطيع أن تنفصل عنه، وأن تعتزل حركته الشاملة، وتقبع في ركن منه وتظن أن «النظريات» يمكن أن تنشأ في أحواض الزجاج المغلق التي يزرعون فيها عند القطب، زهور خط الاستواء، في جو من التدفئة الصناعية! حرية قادرة علي الأخذ والعطاء، علي الفعل والفاعل، تستطيع أن تختلط بغير وساوس، وتستطيع أن تناقش بغير عناد، حتي تصل إلي الحقيقة وتحلق في أفقها.
من هنا لا ينبغي لنا أن ننظر إلي الماركسية مثلاً نظرة خائفة مترددة. في الماركسية كثير نتفق معه، وفيها كثير نختلف في أمره.
ليس من شك مثلاً أننا مع ماركس في أن الظروف الاقتصادية للمجتمع تصنع سلوكه الاجتماعي، ولكننا بالقطع لا نسير مع ماركس إلي نهاية الطريق. إن الظروف الاقتصادية لها أثرها الضخم في السلوك الاجتماعي، ولكن الإنسان ليس في النهاية حصيلة عملية طرح أرقام أو جمعها، إن الإنسان نتيجة للتاريخ.. هذا صحيح. ولكن الإنسان في الوقت نفسه صانع للتاريخ.. ذلك نؤمن به، ولقد كانت الصيحة التي أطلقها الكاتب السوفيتي العظيم «دوينتسيف» بعد أربعين سنة من ثورة أكتوبر الشيوعية هي ليس بالخبز وحده، أطلقها عنواناً علي قصته الأخيرة.. صدي لصوت قديم... قديم... تردد في الإنجيل يقول: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان».
وليس من شك مثلاً أننا نتفق مع ماركس في أن الصراع بين الطبقات يصنع حركة التاريخ ولكننا نختلف مع التفسير اللينيني للماركسية في هذه النقطة ونؤمن بأن الصراع بين الطبقات لا ينبغي بالضرورة أن يكون صراعاً دموياً، وإنما نحن نؤمن بأن المتناقضات بين الطبقات يمكن إزالتها تماماً داخل إطار من الوحدة الوطنية.
وبالطبع فإن هيكل بهذا الكلام يعطي طابعا نظريا لما سيصبح الخطاب الرسمي للدولة فيما بعد مثل إزالة التناقض بين الطبقات، وتحالف قوي الشعب العامل كذلك فهو يؤكد أن مثقفي اليسار كانوا هم المستهدفون من الحديث عن أزمة المثقفين بهدف جذبهم للعمل في أطار دولة تسعي لتطبيق الاشتراكية.
وبعد أن يفرد هيكل فصلين كاملين للحديث عن القطاع العام والاتحاد القومي، فيما يشبه الإيحاء لليساريين بأن الدولة تنفذ برنامجهم، ينهي كتابه بالقول : لقد سئلت آلاف المرات:
- لماذا أكتب هذه المقالات الآن؟
وقلت ومازلت أقول:
لقد كنت أريدها مناقشة حرة مفتوحة طليقة في مشاكلنا الداخلية، وكنت أريدها فرصة أضع فيها علي الورق رأيي كشاهد عاش تاريخنا المعاصر وحاول أن يري مشاكله بقدر ما أتيح له من ضوء.
ولقد كانت المناقشة التي تمنيتها...
لقد تلقيت أكثر قليلاً من خمسين ألف خطاب.
كذلك وضعت شهادتي علي الورق، لا أدعي أنها تمثل الحق كله، ولكنني أقول إنها تمثل كل ما رأيته منه... بقدر ما أتيح لعيني من ضوء وبالطبع لدينا العديد من النقاط التي ينبغي لنا الإشارة إليها في نهاية عرضنا لهذا الكتاب المهم والنادر للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أولها:
أننا لا نحاكم هيكل بأثر رجعي علي آرائه، ولكننا حاولنا بقدر الإمكان أن نضع ما كتبه في سياقة السياسي والتاريخي. وهنا لابد من التأكيد أن فتح الحوار حول أزمة المثقفين في حد ذاته، وطرح قضايا مهمة منها الانتقادات التي توجه إلي رجال الثورة وبرنامجها يشهد علي أنه كانت هناك مساحة ما من مساحات حرية التعبير، وهو ما يحسب لهيكل بالتأكيد، لأن كل ذلك تم علي صفحات جريدة الأهرام التي كان يرأس تحريرها. أما النقطة الثانية: فهي أن هيكل بحديثه ومقالاته التي تضمنها الكتاب كان يسعي إلي إيجاد مساحة من الاقتراب بين طموحات المثقفين وبرنامج الثورة. وأن يدفع المثقفين إلي التعاون مع الثورة أو الاندماج في برنامجها.
والنقطة الثالثة: هي أن هيكل نفسه احتضن العديد من المثقفين في الأهرام، وسعي لأن يجعل من الجريدة التي يرأس تحريرها منارة للثقافة والتنوير، حيث استكتب فيها كل من نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف جوهر، والدكتور حسين فوزي، ولويس عوض، وغيرهم من عمالقة الفكر والأدب، بل إن المتابع لمسيرة هيكل الصحفية سيجد أنه كان عنصر أمان لهولاء في مواجهة صراعات الأجهزة والأجنحة، وهوأمر فصله في حواره الموسع الذي أجراه مع يوسف القعيد في كتاب صدر عن دار الشروق منذ سنوات.
أما النقطة الرابعة فهي أننا ونحن نطالع ما كتبه هيكل علينا أن نرجع إلي صحف وكتابات هذا الزمن وسنجد أن هيكل كان متفوقاً علي أقرانه علي أصعدة الأسلوب والأفكار والتحليل.
والنقطة الخامسة والأخيرة: هي أن هذه الفترة كانت تشهد صراعات بين أجنحة السلطة وكان هيكل موضع هجوم من عناصر في تنظيمات الثورة؛ بسبب قربه من الرئيس عبد الناصر. ومن يريد التوسع في هذا الأمر عليه أن يرجع إلي كتاب أمير إسكندر صراع اليمين واليسار في الثقافة المصرية وإلي سلسلة المقالات التي كتبها الدكتور لويس عوض في مجلة المصور تحت عنوان الثورة والثقافة ثم ضمها إلي كتابه دراسات أدبية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.