سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الإثنين 6 مايو 2024    16 شهيدا من عائلتين في غارات إسرائيلية على رفح    هشام يكن: خسارة سموحة محزنة.. ويجب أن نلعب بشخصية البطل ضد نهضة بركان    مصر وجنوب السودان.. خطوات هامة نحو تعاون مثمر في مجال المياه    «القاهرة الإخبارية»: 20 شهيدا وإصابات إثر قصف إسرائيلي ل11 منزلا برفح الفلسطينية    عاجل.. مقتل امرأة وإصابة 24 في قصف روسي على خاركيف ومحيطها    أول شهادةٍ تاريخية للنور المقدس تعود للقديس غريغوريوس المنير    حملات تموينية على المخابز السياحية في الإسكندرية    طالب ثانوي.. ننشر صورة المتوفى في حادث سباق السيارات بالإسماعيلية    أنغام تتألق ب "فنجان النسيان" في حفلها ب دبي (فيديو)    إلهام الكردوسي تكشف ل«بين السطور» عن أول قصة حب في حياة الدكتور مجدي يعقوب    بسكويت اليانسون.. القرمشة والطعم الشهي    150 جنيهًا متوسط أسعار بيض شم النسيم اليوم الاثنين.. وهذه قيمة الدواجن    محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان    مئات ملايين الدولارات.. واشنطن تزيد ميزانية حماية المعابد اليهودية    تخفيضات على التذاكر وشهادات المعاش بالدولار.. "الهجرة" تعلن مفاجأة سارة للمصريين بالخارج    رضا عبد العال ينتقد جوزيه جوميز بعد خسارة الزمالك أمام سموحة    خالد مرتجي: مريم متولي لن تعود للأهلي نهائياً    مدحت شلبي يكشف تطورات جديدة في أزمة افشة مع كولر في الأهلي    بعد ارتفاعها.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 6 مايو 2024 في المصانع والأسواق    تزامنا مع شم النسيم.. افتتاح ميدان "سينما ريكس" بالمنشية عقب تطويره    من بلد واحدة.. أسماء مصابي حادث سيارة عمال اليومية بالصف    "كانت محملة عمال يومية".. انقلاب سيارة ربع نقل بالصف والحصيلة 13 مصاباً    ما المحذوفات التي أقرتها التعليم لطلاب الثانوية في مادتي التاريخ والجغرافيا؟    برنامج مكثف لقوافل الدعوة المشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء في محافظات الجمهورية    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    وسيم السيسي: الأدلة العلمية لا تدعم رواية انشقاق البحر الأحمر للنبي موسى    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟.. أمين الفتوى يُجيب -(فيديو)    أقباط الأقصر يحتفلون بعيد القيامة المجيد على كورنيش النيل (فيديو)    قادة الدول الإسلامية يدعون العالم لوقف الإبادة ضد الفلسطينيين    أشرف أبو الهول ل«الشاهد»: مصر تكلفت 500 مليون دولار في إعمار غزة عام 2021    كشف ملابسات العثور على جثة مجهولة الهوية بمصرف فى القناطر الخيرية    نقابة أطباء القاهرة: تسجيل 1582 مستشفى خاص ومركز طبي وعيادة بالقاهرة خلال عام    عاجل - انفجار ضخم يهز مخيم نور شمس شمال الضفة الغربية.. ماذا يحدث في فلسطين الآن؟    طاقم حكام مباراة بيراميدز وفيوتشر في الدوري    فرج عامر: سموحة استحق الفوز ضد الزمالك والبنا عيشني حالة توتر طوال المباراة    رئيس البنك الأهلي: متمسكون باستمرار طارق مصطفى.. وإيقاف المستحقات لنهاية الموسم    بيج ياسمين: عندى ارتخاء فى صمامات القلب ونفسي أموت وأنا بتمرن    مصطفى عمار: «السرب» عمل فني ضخم يتناول عملية للقوات الجوية    حظك اليوم برج الحوت الاثنين 6-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    بعد عملية نوعية للقسام .. نزيف نتنياهو في "نستاريم" هل يعيد حساباته باجتياح رفح؟    الإفتاء: احترام خصوصيات الناس واجب شرعي وأخلاقي    يمن الحماقي ل قصواء الخلالي: مشروع رأس الحكمة قبلة حياة للاقتصاد المصري    الأوقاف: تعليمات بعدم وضع اي صندوق تبرع بالمساجد دون علم الوزارة    تؤدي إلى الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.. الصحة تحذر من تناول الأسماك المملحة    عضو «المصرية للحساسية»: «الملانة» ترفع المناعة وتقلل من السرطانات    تعزيز صحة الأطفال من خلال تناول الفواكه.. فوائد غذائية لنموهم وتطورهم    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    سعرها صادم.. ريا أبي راشد بإطلالة جريئة في أحدث ظهور    بإمكانيات خارقة حتدهشك تسريبات حول هاتف OnePlus Nord CE 4 Lite    الإسكان: جذبنا 10 ملايين مواطن للمدن الجديدة لهذه الأسباب.. فيديو    وزيرة الهجرة: 1.9 مليار دولار عوائد مبادرة سيارات المصريين بالخارج    إغلاق مناجم ذهب في النيجر بعد نفوق عشرات الحيوانات جراء مخلفات آبار تعدين    أمطار خفيفة على المدن الساحلية بالبحيرة    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من القاهرة
ثم ماذا بعد ؟‏!‏
نشر في الأهرام اليومي يوم 21 - 01 - 2011

لم أكن قد ولدت بعد عندما قامت ثورة‏1919,‏ كما كنت صغيرا جدا عندما قامت حركة الجيش المباركة التي عرفت فيما بعد بثورة يوليو‏1952.‏ ولكن العقود التالية جعلتني أتابع مباشرة ثورات كثيرة‏, وفي عام‏1958‏ شعرت بفرحة غامرة لأن ثورة قامت في السودان تحت قيادة الجنرال عبود‏,‏ عرفت بعدها أنها لم تكن ثورة ولكن انقلابا عسكريا‏.‏
وعلي أية حال جاءت الثورة الحقيقية في اليمن عام‏1963‏ بقيادة الرئيس فيما بعد عبد الله السلال التي أطاحت بحكم الإمامة الرجعي‏,‏ كما أدت إلي تدخل الجيش المصري في اليمن للقيام بمهمة قومية وحضارية‏.‏
وخلال الفترة ما بين الخمسينيات والستينيات جرت ثورات كثيرة خلبت الألباب جري أغلبها في المشرق العربي في لبنان وسوريا والعراق‏,‏ وكانت كلها فائرة بشعارات رائعة تحمسنا لها ولقادتها‏.‏
ولكن سرعان ما ذهبت السكرة وجاءت الفكرة وبهتت الشعارات ثم انطفأت لأن القائمين عليها باتوا منشغلين بأمر آخر هو تأمين الثورة‏,‏ ولأن كل الثوار العرب أصبحوا مهتمين بعد ذلك بمهمة أخري بالغة التعقيد وهي إزالة آثار العدوان التي نتجت عن حرب يونيو‏1967.‏
وعندما قامت ثورة ليبيا عام‏1969‏ جاءت كما لو كانت تأكيدا وسط الموقف الراهن وقتها أن الثورة في العالم العربي بخير‏,‏ وأن هناك من أبناء العرب من هم قادرون ليس فقط علي الإطاحة بالملكية‏,‏ وإنما أيضا تغيير الأوضاع في الدولة وقلبها رأسا علي عقب‏...‏حدث أحيانا أن نشبت ثورات فقط لتصحيح مسار ثورات أخري كانت قبل سنوات قليلة مباركة وملهمة‏,‏ وراق للبعض تسميتها ثورات التصحيح‏,‏ علي نحو ما حدث في مصر وسوريا في السبعينيات‏.‏
أيامها تعلمنا أن هناك فارقا بين الانقلاب والثورة‏,‏ وبينما كان الأول هو مجرد تغيير في القيادة فإن الثانية كانت تعني تغيير المجتمعات مع توقع دائم أن يكون التغيير إلي أفضل‏.‏ ولكن الحال لم تكن دائما علي هذه الصورة وكانت الشكوي دائمة من الحاجة إلي ثورة جديدة حقيقية كما كان يقال من قبل المفكرين الذين كانت لديهم قدرات غير عادية للتفرقة ما بين الثورة الحقيقية والأخري الزائفة‏.‏
علي أية حال لم يكن هناك شك في أن الثورة الإيرانية كانت ثورة حقيقية‏;‏ كنت في الولايات المتحدة للدراسة في ذلك الوقت عام‏1979‏ وكان من الطبيعي أن أعرف عددا غير قليل من الطلبة الإيرانيين المتحمسين للإطاحة بالشاه‏.‏ كان الخميني قد أصبح رمزا للثورة حتي عاد في يوم مشهود إلي طهران‏,‏ وكان التفاؤل عارما بين الصحاب بآمال عظمي في دولة جديدة يذهب فيها الظلم ويحل العدل وتزدهر الحرية في كل مكان‏.‏ بعد ذلك شهدت مناقشات مثيرة بين الزملاء‏,‏ ومرت الأيام وإذا بالثوار يعدمون صادق قطب زادة وزير الخارجية الذي صاحب الخميني‏,‏ وبعد فترة وجيزة هرب الحسن بني صدر رئيس الجمهورية إلي فرنسا‏,‏ وعندما قرأت كتابه لم تكن الثورة فيها رومانسية علي الإطلاق‏.‏
علي مدي ذلك التاريخ أصبحت الثورة والتغيير في المجتمعات علي رأس أولويات الاهتمام‏.‏ وكان أول بحث قمت به في حياتي هو عن الثورة الفرنسية في مادة التاريخ عندما كنت في السنة الثانية من التعليم الثانوي‏.‏ الطلبة في عام‏1964‏ ما زالوا يكتبون التقارير ويقومون بأبحاث صغيرة‏,‏ ولم يكن هناك ما هو أشد إثارة من الثورة الفرنسية خلال نشوبها وسعيها نحو الحرية والإخاء والمساواة ثم تحولها إلي نظام إمبراطوري يقوده نابليون الذي أخذ الدولة‏,‏ والقارة الأوروبية كلها‏,‏ إلي مغامرة كبري انتهت بعودة الأسرة الملكية مرة أخري لكي تحل محل إمبراطور كانت مصر بالمناسبة جزءا من أحلامه العظمي‏.‏
ولكن المعرفة الحقيقية للثورة جاءت بعد ذلك في مادة الفكر السياسي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عندما فاجأت أستاذي الدكتور سمعان بطرس فرج الله‏,‏ الذي يدين له جيلنا بأكمله في دراسات العلاقات الدولية‏,‏ حينما أعددت بحثي عن ديكتاتورية البروليتاريا في الفكر الماركسي اللينيني‏.‏ وهكذا أصبحت وجها لوجه مع الثورة البلشفية بعد أن عدت إلي أصولها لدي ماركس وإنجلز‏,‏ ثم بعد ذلك سافرت إلي نتائجها التراجيدية في التطبيق مع لينين وتروتسكي‏,‏ ثم الوجه النهائي في الثورة لدي ستالين‏.‏ هذا البحث اختفي للأسف من مكتبتي بعد أن استولي عليه إلي غير رجعه زملاء وأصدقاء تبنوا الفكر اليساري‏;‏ ولكن ما تبقي في العقل منه جعلني أنظر بشكل مقارن للثورة الأمريكية التي بدأت بثورة ضد الاستعمار‏,‏ ولكن في النهاية كان لها مشروع لأمريكا‏,‏ وأخيرا للعالم‏.‏ وكان طبيعيا في معرض دراسات العلوم السياسية أن تكون الثورة والتغيير والانقلاب والتحول والإصلاح ضمن مكونات حالة المجتمعات ودراستها‏.‏
ولذلك كله‏,‏ فإنني لم أشعر بتلك الخضة أو النشوة عندما جرت أحداث تونس الأخيرة‏,‏ وما جري لها من ملامح ثورية تمت فيها الإطاحة برئيس بعد سقوط الضحايا‏,‏ ووقف الثوار بعدها لا يعرفون حقا ماذا سوف يفعلون بعدها‏.‏ وببساطة كانت حالتي مثل الطبيب الذي مر عليه عشرات أو مئات المرضي‏,‏ وبعد ذلك لم يعد هناك ما يدهشه أو يجذبه إلي حالة جديدة إلا واجب المهنة الذي يستدعي الفحص والتمحيص والبحث عن علاج‏.‏
لم يكن الحدث التونسي منفصلا كثيرا عن السياق المصري‏,‏ وكان طبيعيا أن تجري فورا أنواع كثيرة من المقارنة‏,‏ وأن تحاول قوي سياسية أن تضع ما جري في تونس ضمن قصة طرحتها منذ العام الماضي عندما صرح الدكتور محمد البرادعي بأنه لن ينتهي العام الراهن 2010‏ دون تغيير للنظام الحاكم في مصر‏.‏ وانتهي العام دون أن تتحقق النبوءة ولكن أحدا لم يتذكرها علي أية حال‏;‏ وعلي العكس من ذلك رفض التيار الرئيسي للسياسة المصرية فكرة المقاطعة للانتخابات التي حاولت القوي الثورية علي الهامش أن تفرضها علي الدولة المصرية كلها‏.‏ ورغم ما جري من خلافات حول نتائج الانتخابات فإن الخيوط لم تتقطع ما بين الحكومة والمعارضة وحزب الأغلبية وأحزاب الأقلية وبقي الحوار قائما رغم ما فيه من صعوبات‏.‏ ولكنها في النهاية كانت السياسة كما تجري في بلدان كثيرة حتي لو بقيت قوي سياسية هامشية تحاول أن تنفخ في النار لعل بعضا من الشرر ينطلق هنا أو هناك أو حتي يعطي الصحافة الأجنبية خاصة الأمريكية ما كانت تبحث عنه من دلائل‏.‏
الفكرة في أصولها تعود إلي تصور حدوث انتقال ل النموذج التونسي إلي الدول العربية‏,‏ لاسيما وأن الانتشار الجغرافي للأثر الاحتجاجي في الداخل التونسي يؤكد ذلك‏,‏ حيث انتقل من ولاية سيدي بوزيد بوسط البلاد‏,‏ إلي المناطق المجاورة قبل أن يشمل المدن التونسية الداخلية والساحلية كافة‏,‏ بما في ذلك تونس العاصمة‏,‏ فيما يعرف ب نظرية الدومينو علي المستوي الإقليمي‏,‏ وعلي نحو ما عرفته دول أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق وكذلك ما شهدته دول أمريكا اللاتينية في تسعينيات القرن الماضي‏.‏ ولكن العبرة في المقارنة بين نوبات التغيير المختلفة لا تكون فقط بإثبات حدوث العدوي‏,‏ وإلا أصبحنا كمن يرجع ظهور الفجر لصياح الديكة‏,‏ خاصة وقد جري التجاهل التام لكل ما يجري علي صعيد التيار الرئيسي للسياسة المصرية كما أسلفنا‏.‏
والحقيقة أنه يمكن إرجاع عدم تكرار السيناريو التونسي في مصر لعدة اعتبارات‏.‏ أولها ديموغرافية‏,‏ فعدد سكان تونس‏10‏ ملايين نسمة في حين أن عدد سكان مصر‏84‏ مليون نسمة‏,‏ قد تشعر شريحة منهم بالغضب تجاه النظام السياسي‏,‏ ولكن الغالبية لأسباب شتي تشعر أن هذا النظام يحميها من المغامرات الخارجية المنتشرة بين تيارات المعارضة‏,‏ كما أنه يقدم معادلة مقبولة ما بين توجهات النمو‏,‏ واتجاهات التوزيع لمن هم أقل حظا في المجتمع يظهر في الدعم الواسع والبطاقات التموينية والتعليم المجاني وغيره مما لم يكن متوافرا لا في تونس ولا في كثير من الدول العربية الأخري‏.‏
وثانيها جغرافية‏,‏ تتعلق باتساع الرقعة الجغرافية لمصر بعكس تونس‏,‏ مما فرض تنوعا موازيا في مدي التأييد أو المعارضة للحكومة حسب ما حصلت عليه أقاليم مختلفة من أنصبة في عملية التنمية‏.‏
وثالثها مجتمعية‏,‏ فما حدث في تونس من انتفاضة ضد رئيس الدولة قادتها الطبقة الوسطي التي تعرضت أحوالها للتدهور بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية‏,‏ ولم تكن ثورة للجوعي كما برز في وسائل الإعلام‏,‏ في حين أن الطبقة الوسطي في مصر مازالت هي رمانة الميزان وتمثل حوالي‏62%‏ من المجتمع المصري‏,‏ ومن ثم فليس لديها مبررات قوية للخروج علي النظام العام‏.‏
ورابعها سياسية‏,‏ فعلي مدار ربع قرن لم تشهد تونس وسائل للتعبير الحر من صحافة وقنوات فضائية ومحطات إذاعية‏,‏ أو استخدام لشبكة المعلومات الدولية الإنترنت أو بروز للمدونات الشخصية والجماعية‏,‏ لدرجة وصلت إلي أن منظمة مراسلون بلا حدود وضعتها من بين الدول الأكثر عداء للإنترنت في العالم في تقريرها الصادر عام‏2009,‏ فضلا عن غياب حركات سياسية واجتماعية منذ سنوات طويلة‏,‏ بحيث وصل الأمر إلي ذروته في الحركة الاحتجاجية الأخيرة التي أطاحت برأس النظام‏,‏ في حين أن مصر تشهد منذ سبع سنوات حركات احتجاجية كثيرة بعضها ذات طابع سياسي وبعضها الآخر ذات طابع فئوي يغلب عليه المطلب الاقتصادي الاجتماعي‏.‏ فضلا عن ذلك‏,‏ تشهد مصر حرية واسعة في الإعلام من خلال قنوات خاصة وصحف معارضة ومدونات إلكترونية‏,‏ ويتم التطرق إلي قضايا كانت تعد في مراحل سابقة نوعا من التابو الذي لا يمكن الاقتراب منه‏.‏ كما أن القرارات التي تتخذها الحكومة تتسم بطبيعة تدرجية‏,‏ يتم التمهيد لها للتعرف علي اتجاهات الرأي العام إزاءها‏,‏ وهو درس تعلمته الحكومات المصرية المتعاقبة بعد أحداث‏18‏ و‏19‏ يناير‏1977,‏ في حين كانت قرارات الحكومة التونسية فجائية‏,‏ زاد عليها انخفاض مستوي الثقة بين الدولة والمجتمع‏.‏
وخامسها أن الشعب المصري يعرف تماما الخبرة التاريخية للثورة والتغيير التي تعرفت عليها بالمتابعة والدراسة والمراجعة‏,‏ ومن ثم فإن الدرس الأكيد لها هو أن القضية ليست فقط حدوث التغيير الكامل أو الثورة وإنما ما الذي يأتي بعدها‏,‏ والمشروع الذي يتمخض عنها سواء علي المدي القصير أو البعيد‏.‏ بمعني آخر فإن أحدا في مصر أو غيرها ليس لديه شغف بالجمود أو السكون أو بقاء الحال علي ما هي عليه‏,‏ وإنما السؤال الملح هو كيف يتم الانتقال من حالة لا يوجد رضاء عنها إلي حالة أخري تأخذ البلاد إلي آماد بعيدة من التقدم‏.‏ وإذا كان لدي الدولة المصرية‏,‏ والنظام السياسي الراهن مشروعه الخاص بالتغيير من خلال رفع معدلات النمو إلي‏8%;‏ ونشر الاستثمار القومي علي سبعة أقاليم تنموية‏,‏ وطرح موجات للإصلاح الاقتصادي والسياسي علي النخبة المصرية من خلال الحوار والأخذ والعطاء‏,‏ فإن عمليات التغيير داخل مصر تسير وفق معطياتها الخاصة‏.‏
ومع ذلك فإن آثار الثورات لا يمكن تجاهلها بشكل كامل‏,‏ ويصبح من قبيل الصمم تصور أن كم الإعلام عن الثورة التونسية سوف يمر دون تأثير ظهر بالفعل في مصر‏,‏ وأنتج الفارق بينها وبين تونس في نفس الوقت‏.‏ فقد ظهر بالفعل ما يسمي بعدوي الحرق التي ظهرت في قيام عدد من الأشخاص في مصر والجزائر وموريتانيا بحرق أنفسهم علي غرار ما فعله محمد بوعزيزي في تونس‏;‏ ومع ذلك لم يكن لمثل هذه الأحداث التي جرت لأسباب شخصية تأثير علي السياسة في مصر ما عدا الحزن علي حال أصحابها‏.‏ ولكن الأثر الآخر لما جري في تونس قد كان اهتزاز الثقة لدي قطاع من الرأي العام في مصر مما أدي إلي تراجع المؤشر الرئيسي للبورصة المصرية وهبوط سعر العملة المحلية أي الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي إلي أدني مستوياته منذ ستة أعوام‏.‏ فمن الملاحظ أن ثمة اتجاها اتخذه الأجانب ببيع أسهم وسندات وأذون خزانة علي مدار الأسبوع الماضي‏,‏ وشراء الدولار بحصيلة البيع‏.‏ ويرجع السبب في ذلك إلي التخوف من امتداد تداعيات الأوضاع الداخلية في تونس إلي دول عربية أخري ومنها مصر‏.‏ أثر ثالث محتمل هو أن تكون أحداث تونس سببا في تواضع توجهات التنمية تخوفا من نتائج سلبية تدفع الجماهير في اتجاهات غاضبة‏,‏ ومن ثم تأجيل إجراءات للإصلاح آن أوانها وهو ما سوف يكون له ثمن مدفوع في المستقبل‏.‏
هذه الآثار الفرعية للحالة التونسية لا ينبغي لها أن تقعد المخطط المصري للتغيير الذي يجعل المضي قدما ممكنا ومجنبا مصر لكثير من النتائج السلبية‏.‏ وإذا كان التاريخ يعلمنا شيئا فهو أن الثورات التي نجحت في العالم كانت نوعين من الثورات‏:‏ الأولي هي تلك التي كان لها مشروعها في البناء والتغيير استنادا إلي قيم حديثة كما جري للثورة الأمريكية وإلي حد ما الثورة الصينية‏.‏ والثانية هي تلك الثورة التي تجري بإصلاح هياكل الفكر والبنية الأساسية للبلاد بحيث تتم تعبئة مواردها وأصولها في اتجاه التقدم المادي والمعنوي‏.‏ وكانت تلك الثورة هي التي غيرت العديد من دول العالم وكان آخرها في الهند والدول الآسيوية ودول أمريكا الجنوبية‏.‏ وما زال أمام المثال التونسي الكثير حتي يتضح ماذا بعد الثورة‏,‏ ولكن الأمثلة الماليزية والبرازيلية والهندية والتركية والأوروبية الشرقية بعد انتهاء الحرب الباردة أظهرت بالفعل ما بعد قراراتها الشجاعة في التغيير والبناء والعمل‏,‏ وبقي أن تكون لدينا الشجاعة المماثلة للسير علي الطرق التي ساروا عليها‏.‏
مثل ذلك لن يحدث دون معالجة الآثار الجانبية للثورة التونسية التي جاء معظمها من خلال هوجات إعلامية‏,‏ وهو ما يطرح ضرورة حدوث مناقشة جادة مع وسائل الإعلام المختلفة‏,‏ في تناولها للقضايا استنادها أولا إلي المعلومات الصحيحة والبيانات الدقيقة والإحصاءات المتوافرة بدلا من التحليل علي أساس الرغبة والتمني والعشوائية‏,‏ فضلا عن التعامل مع الوضع سواء السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي في بلد ما في بعض الأحيان بمنطق خصوصية الحالة‏.‏ ثمة ضرورة لاشتباك حقيقي مع مراكز الأبحاث والدراسات الغربية وجهات التفكير الدولية التي خضعت لأسلوب التفكير الجماعي ورضخت لمنطق الأفكار المتسلطة‏,‏ وهو ما تعبر عنه السيناريوهات التي تطرحها تلك الجهات علي صفحات الصحف الخاصة في مصر‏,‏ وهي سيناريوهات بالغة السوء أبرزها الفوضي المزعومة والثورة الشعبية المكتومة التي سيطول انتظارها في مصر‏.‏

[email protected]
المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.