قالها فولتير من قبل ورددها بعده صوت الزمن إن التاريخ ليس إلا كتالوجا لأخطاء البشرية وحماقاتها, وحين فاجأ الكاتب الأمريكي الشهير فوكوياما جميع الأوساط الثقافية والفكرية والسياسية العالمية بأطروحته عن نهاية التاريخ معلنا وبشكل سافر أن حركة التاريخ قد توقفت بالفعل عند باب أمريكا, أحدث ذلك ضجيجا هائلا خلق حالة من التمرد والغليان والاستفزاز غير تلك التي كان ينتظرها صناع الشر من الشعوب التي يراد لها الاستسلام والخنوع والإحباط, كذلك حين عدل فوكوياما أخيرا عن آرائه وأفكاره تلك أحدث زلزالا مروعا كانت وطأته علي العقول بمنزلة بارقة أمل لاحت في الأفق فأخذت علي آثارها كل الكوادر الثقافية والفكرية مسارا خاصا يصل بها إلي وقفه للمراجعة والتصويب والرؤية المتجهة نحو البحث في البدايات وغض الطرف عن المقولات الدعائية عن نهاية التاريخ. بعد ذلك كانت الصيحة المدوية التي أطلقها البروفيسور روبرت يانج من جامعة أوكسفورد والحائز أخيرا علي جائزة الأكاديمية البريطانية, وفي لقائي العابر به والذي لم يستغرق وقتا قدر ما استوعب حديثا ممتدا روي لي من فيض خواطره بعضا مما سجله بكتابه الأخير أساطير بيضاء كتابة التاريخ والغرب وإن ألحت علي تساؤلات عدة وددت استكشاف أصدائها لديه علي غرار طبيعة العلاقة الشائكة المعاصرة بين الشرق والغرب, والانطباعات الخاصة عن ظاهرة العولمة وجذور الثقافة الأمريكية والمأزق الآني للحضارة الغربية باعتبارها قد افتقدت إلي حد بعيد للطابع الإنساني العام, والذي كان يمكن أن يحافظ علي توازنها.. لكن يانج أثر أن يخوض في تصوراته وأفكاره جملة وبعيدا عن أي حوارية فاسترسل معي مرددا: إن حصاد الصراع المحتدم الآن وطيلة تاريخه بين ذلك الدور الأسطوري والخطير الذي لعبته ولاتزال- الثقافة الغربية بكل آلياتهاالمتعددة ومضمونها الهادف نحو تقوية الذات وإضعاف الآخر في اتجاه تبرير استعمارية الشعوب وما تضمنه ذلك من تكريس واستساغة لمعاني القمع والقهر وأيضا بين ذلك الدور القتالي الذي مارسته الثقافات المحلية للشعوب كان هو النتيجة المنطقية لذلك المناخ الفكري والثقافي الذي يعايشه العالم الآن ولعله كان من أبعاد ذلك الصراع بين العالم الأول والعالم الثالث هي الأحداث المفزعة في الحادي عشر من سبتمبر والتي غلفت العالم بطابع آخر هو الخوف من الحاضر علي المستقبل وأدت بدورها إلي تغيير بعض المفاهيم السياسية والثقافية والاستراتيجية فأصبحت خريطة العالم في السيناريو الأمريكي موزعة علي مستويين هما: أمريكا وأعداء أمريكا الذين هم بالضرورة ليسوا فقط أولئك الذين يفكرون مستقبلا في التواجه المباشر معها, بل هم بالقطع كل من لا يتحالف أو يتعاطف معها أو يهادنها وحدها, وأعتبر ذلك الاستعلاء وغطرسة القوة وجنونها هو المقدمة للإعلان الحقيقي عن موت الغرب ونهايته, لذلك ومن هذا المنطلق فقد توجه بفكره تلقائيا نحو إعادة قراءة تاريخ الاستعمار الغربي من خلال كتابه الأساطير البيضاء والذي يمثل بحد ذاته أحد المداخلات القاطعة للوقوف علي علاقة التاريخ بالعديد من المتغيرات, ورغم ذلك فهو لا يزعم أنه ربان السفينة في هذا الميدان وإنما كانت هناك محاولات جادة لمفكرين كبار من أمثال أدوارد سعيد وهومي بابا وغيرهما. والذين يقرأون تاريخ الإرهاب الفكري الغربي لا يستنكرون ما يحدث الآن علي مختلف الأصعدة لاسيما إذا اعتبروا المفكر الفرنسي روجيه جارودي هو أحد المرجعيات السياسية في ذلك خلال كتاباته المطولة عن الإرهاب الغربي بكل معانيه ودلالاته وانعكاساته وقد ختم يانج كلماته قائلا: إن كان لي أن أقول شيئا آخر فهو أنني قد حاولت أن أقدم مشروعا جديدا للتاريخ.