بعد عمر بلغ التاسعة والتسعين بالتقويم الشمسي وزاد علي المائة بثلاث سنوات بالتقويم القمري رحل عن عالمنا في 15 يونيو 2012م أحد فلاسفة القرن العشرين, المفكر العالمي رجاء جارودي, 1331 1433ه 1913 2012م] ولد جارودي في سورمارق ببلدية شينفير بمرسيليا جنوبي فرنسا في 17 يوليو 1913م في عائلة بروتستانتية, ثم تحول إلي الكاثوليكية.. ثم انضم إلي الحزب الشيوعي الفرنسي سنة 1933م.. وانخرط في صفوف المقاومة الفرنسية كتائب الأنصار ضد الاحتلال النازي لفرنسا إبان الحرب العالمية الثانية.. وتم القبض عليه وسجنه سنة 1940م لمدة ثلاثين شهرا قضاها في معسكر اعتقال بالجزائر في أثناء حكم حكومة فيشي, 19401945م] العميلة للاحتلال النازي التي رأسها الجنرال بيننان,18561951م]. وفي 1945م, انضم جارودي إلي اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي.. وفي 1956م انتخب عضوا بالمكتب السياسي للحزب.. كما انتخب نائبا بالجمعية الوطنية الفرنسية 1954م.. ثم أعيد انتخابه, 19561958م].. ثم أصبح عضوا بمجلس الشيوخ الفرنسي, 19591962م]. ولقد نال جارودي درجة الدكتوراه من جامعة السوربون 1935م برسالة عن النظرية المادية في المعرفة..ثم حصل علي دكتوراه ثانية, من جامعة موسكو 1954م برسالة عن الحرية.. وتولي تدريس الفلسفة بجامعة إلبي بالجنوب الفرنسي.. وبالجزائر العاصمة.. وبباريس 19581959 م, حيث أصبح أستاذا بالجامعة.. وبرزت مواهبه الفكرية كفيلسوف ومنظر ماركسي في الأوساط الفكرية خارج نطاق الجامعة. وفي سنة 1968, وإبان الغزو السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا انتقد جارودي هذا الغزو, الذي قمع الحركة الديمقراطية التشيكية ربيع براغ فتم فصله من الحزب الشيوعي الفرنسي 1970م.. فقام في العام نفسه بتأسيس مركز الدراسات والبحوث الماركسية باحثا عن شيوعية ذات وجه إنساني وأصدر حينئذ كتابه, اشتراكية بوجه إنساني]. وظل مديرا لهذا المركز البحثي مدة عشر سنوات. وعندما اجتاح الجيش الصهيوني لبنان 1982م, ووقعت مجزرة صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين بضواحي بيروت أصدر جارودي بيانا أدان فيه الغزو والمجزرة, ونشره إعلانا في صفحة كاملة بصحيفة اللوموند الفرنسية بتاريخ 7 يونيو 1982م.. ووقعه معه عدد من المفكرين ورجال الدين الفرنسيين منهم الأب ميشيل لولون والقس إينان ماتيو وبهذا البيان بدأت الحرب بين الصهيونية وبين جارودي, وهي الحرب التي بلغت ذروتها بكتابه, الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية] سنة 1996م, والذي أعقبت صدوره محاكمته الشهيرة بتهمة العداء للسامية, والمراجعة لوقائع الهلوكوست, إبان الحكم النازي.. ولقد حكم عليه بغرامة كبيرة, أدتها عنه دولة الإمارات العربية المتحدة, فأنقذته من السجن. وفي 2 يوليو سنة 1982م أعلن جارودي إسلامه, وأشهر ذلك بالمركز الإسلامي بجنيف, بادئا بذلك التحول الفكري الذي استقر علي ضفافه, والذي شهد عطاءه الفكري الأكثر خصوبة, في إطار مسيرته الفكرية التي شهدت الكثير من المعاناة الفكرية والعديد من الاجتهادات.. ويومها قال جارودي: لقد وجدت أن الحضارة الغربية قد بنيت علي فهم خاطئ للإنسان.. ولقد كنت عبر حياتي أبحث عن المعني الحقيقي للإنسان, فلم أجده إلا في الإسلام.. لقد أظهر الإسلام شمولية كبري استوعبت سائر الشعوب ذات الديانات المختلفة, فكان أكثر الأديان شمولية في استقباله الناس الذين يؤمنون بالتوحيد, وكان في قبوله لأتباع هذه الديانات في داره, منفتحا علي ثقافتهم وحضارتهم, والمثير للدهشة أنه في إطار توجيهات الإسلام استطاع العرب آنذاك ليس فقط إعطاء إمكانية تعايش وتمازج لهذه الحضارات, بل أيضا إعطاء زخم قوي للإيمان الجديد. وبهذا الاعلان أكد جارودي أن إسلامه قد تجاوز مجرد اعتناق دين جديد, إلي الانتماء إلي حضارة الإسلام أيضا.. لقد وجد في الإسلام وفي الحضارة التي بناها هذا الدين المعني الانساني للإنسان.. ووجد التجسيد الحقيقي للعالمية الإنسانية.. بعد أن اكتشف إبان مسيرته الفكرية السابقة عنصرية ومادية الحضارة الغربية, التي قتلت إنسانية هذا الإنسان.. فالحضارة التي أفرزت الرأسمالية المتوحشة, والإمبريالية التي امتصت دماء شعوب الجنوب, وأعادت عبودية الرق القديم وفرضته علي مئات الملايين, هي ذاتها الحضارة التي أفرزت النازية والفاشية, والتي أشعلت الحروب الكونية التي أبادت فيها عشرات الملايين من البشر.. ولقد لخص جارودي رأيه في هذه الحضارة التي تحول عنها إلي الحضارة الإسلامية في عنوان كتابه:, الحضارة التي تحفر للإنسانية قبرها]!. وإذا كان إسلام جارودي وهو واحد من صفوة النخبة الثقافية الفرنسية والأوروبية, وأحد فلاسفة القرن العشرين قد مثل في الأوساط الثقافية الفرنسية هذا التحول الذي تجاوز الدين إلي الحضارة فلقد مثل ما يشبه الزلزال الثقافي والحضاري.. حتي لقد انزعج منه المستشرق الفرنسي الكبير جاك بيرك, 19101995م] فقال: هذا يوم أسود!. ومنذ أن التقي جارودي بالاسلام الدين والحضارة تضاعفت جهوده الفكرية وإبداعاته الثقافية.. فكان المحامي الغربي القدير للتعريف بالإسلاموحضارته, والعامل علي تصحيح الفكرة الكاريكاتيرية التي تقدمها الصحافة الغربية عن الإسلام علي حد تعبيره ... وعندما أغمض جارودي عينيه عن عالمنا بعد أن لازم الفراش منذ 2004م بسبب إصابته بجلطة دماغية وهو في الحادية والتسعين من عمره لم تشر الصحافة الفرنسية إلي مكانته, ولا إلي عطائه الفكري الذي تجسد في أكثر من ستين كتابا.. وإنما عرفته فقط بالمشكك في الهلوكوست!.. فالرجل الذي عاش عمرا طويلا ملء السمع والبصر, والذي شغل الحياة الفكرية علي امتداد عقود طويلة, نجحت الصهيونية التي استبعدت الغرب في أن تجعل كبريات دور النشر الفرنسية والغربية, وحتي المكتبات تقاطع كتبه.. فعندما أصدر كتابه, نداء إلي الأحياء] باعت منه دار النشر 190 ألف نسخة.. وعندما أصدر كتابه عن, الإرهاب الغربي] قاطعته دور النشر والمكتبات, حتي باعه سرا, ووزع منه 30 ألف نسخة!.. لكن الإنسانية, التي دافع عنها جارودي تعلقت بإبداعاته الفكرية, فترجمت العديد من كتبه إلي عشرات اللغات الشرقيةوالغربية علي حد سواء. المزيد من مقالات د. محمد عمارة