كفر الشيخ: حمدين بدوى كانت الكلمة الأخيرة التي قالتها صاحبة ال10 سنوات، قبل أن تفارق الحياة: «احضنيني يا عمتي»، لتلفظ أنفاسها الأخيرة بين ذراعي المرأة التي ربّتها، بعد شهر كامل من الصراع الصامت مع الموت، بسبب ضرب وتعذيب والدها لها، في واحدة من أكثر الوقائع إيلامًا التي شهدتها محافظة كفر الشيخ، واقعة أعادت إلى الواجهة أسئلة موجعة حول العنف الأسري، وحدود «التأديب»، ومسئولية المجتمع في حماية أضعف أفراده. الطفلة ماجدة محمد حسونة، طالبة بالصف السادس الابتدائي، لم تتجاوز العاشرة من عمرها، لكنها عاشت ما لا تتحمله أعمارًا فوق سنها، لتنتهي حياتها نهاية مأساوية بعد تعرضها لاعتداء وحشي من والدها، الذي خرج حديثًا من السجن بعد قضاء ثماني سنوات في قضايا جنائية ، ضرب طفلته الضربة تلو أخرى، أنهت طفولة لم تكتمل، وحوّلت بيتًا صغيرًا إلى مسرح جريمة، وأسرة كاملة إلى ضحايا. عودة الأب خرج الأب، محمد حسونة، البالغ من العمر 40 عامًا، من السجن منذ نحو ثلاثة أشهر، بعد غياب طويل عن أسرته، خلال تلك السنوات، نشأت ماجدة في كنف عمتها نادية، شقيقة الأب، التي تكفلت بتربيتها ورعايتها منذ كانت رضيعة، بعد أن طلق الأب زوجته ورفض أن ترى الطفلة أمها، ومن وقتها، كانت العمة لها الأم والأب، والحضن والأمان، والمدرسة والبيت، لم تكل ولم تمل، وارتبطت الطفلة بها ارتباطًا روحيًا عميقًا. عودة الأب لم تكن سهلة، ف بحسب روايات الأسرة وشهادة العمّة، بدت العلاقة بينه وابنته متوترة وباردة، يغلب عليها الحذر والخوف، الطفلة التي لم تعرف أباها إلا من زيارات السجن، وجدت نفسها فجأة أمام سلطة غريبة عنها، محمّلة بتاريخ من العنف والانحراف والإدمان. يوم الجريمة في يوم مشئوم، نشب خلاف بسيط بين الأب وابنته بسبب رفضها تنفيذ أمر عادي، خلاف كان يمكن أن ينتهي بكلمة أو توبيخ، لكنه تحوّل في لحظة إلى انفجار غضب عارم، أمسك الأب عصا خشبية، وانهال على الطفلة ضربًا بلا رحمة، وفقًا لشهادة العمّة والتحقيقات الأولية، حتى سقطت على الأرض فاقدة الوعي. تحاول العمّة التدخل، تصرخ، تستغيث، تحمل الطفلة بين ذراعيها، لكن الإصابات كانت أشد من أن تُحتمل، نُقلت ماجدة إلى مستشفى كفر الشيخ العام، حيث كشفت الفحوصات عن كسور متعددة، ونزيف حاد، وتلف في خلايا المخ نتيجة شدة الضرب. دخلت الطفلة العناية المركزة، وبقيت قرابة شهر كامل لا تتحرك ولا تتكلم، غائبة عن الوعي، كأنها في عالم آخر لا يعلمه إلا الله، كانت العمّة تجلس إلى جوارها ليلًا ونهارًا، تهمس باسمها، تمسك بيدها الصغيرة، وتنتظر معجزة لم تأتِ. وفي لحظة خاطفة، فتحت ماجدة عينيها، رأت وجه عمتها الغارق في الدموع، همست لها بكلمات قليلة بعد أن مدت يدها الصغيرة ممسكة بيد عمتها، لكنها كانت كلمات أثقل من الجبال: «احضنيني يا عمتي». كان هذا الحضن هو الأخير. بعد دقائق، فارقت الطفلة الحياة بين ذراعي من ربّتها، لتنتهي قصة حب وتضحية بمشهد إنساني مروّع. شاهدة على الجريمة العمة نادية، التي تحولت من أم بديلة إلى شاهدة على جريمة، لم تستطع إخفاء تناقض مشاعرها، تقول في حديثها ل»أخبار الحوادث» بصوت مكسور: «أخويا حرمني منها... نفسي أشوفه بيتعدم قدام عيني. أنا اللي ربّتها وكبرتها، وآخر كلمة قالتها لي احضنيني يا عمتي». ثم تعود لتقول في حيرة تعكس الصدمة: «كان بيحبها... مش عارفة إزاي عمل فيها كده». بين الحب والغضب، تقف العمّة أمام مأساة نفسية قاسية، بين فقدان ابنة الروح، ورؤية أخيها متهمًا بقتل طفلته. أما جدتها التى لم تتمالك اعصابها فقالت وسط بحر من دموعها: ماجدة فى عقلى وقلبى هى حبيبتى وروحى التى لا تنسى ابدا، ربنا ينتقم منه ذنبها ايه؟ هى اتربت بعيدا عن امها وهو كان بالسجن محبوس وعمتها هي التى ربتها، يعنى هو لا يعرف عنها حاجة تركها طفلة عند اخته رجع لقاها بالصف السادس الابتدائى ماله ومالها ياخلق، اتمنى ان يشنق فى ميدان عام لانه حرمنا من أغلى وأحن طفله. وقالت خالتها، وهى فى قمة الحزن والمأساة على فقدان ماجدة، لم نعلم بمرضها إلا بعدما نقلناها للمستشفى التى أكدت أنها فقدت الوعي نتيجة شدة الضرب الذى وقع عليها من والدها الذى لا رحمة عنده، احنا بنبكى عليها ولن ننساها ابدا، لم يتق ربنا فيها، ليه عمل كدا فى طفله غلبانه لا حول ولا قوة لها؟ باجرامه وإدمانه للمخدرات قتل بنته الوحيدة. انهيار الأم على الجانب الآخر، تقف الأم، التي حُرمت من ابنتها لسنوات، أمام مشرحة المستشفى، منهارة، تبكي حلمًا لم يكتمل. تقول في حديثها ل»أخبار الحوادث»: «كان نفسي تكبر، تدخل الجامعة، وأشوفها عروسة، شفتها ميتة بس، أنا حاولت كتير أخليها تيجي تعيش معايا، وهما رفضوا، فضلت سبع سنين بحاول أشوفها ومعرفتش، وكنت على أمل لما تكبر وتبلغ السن القانوني أجيبها، لكن راحت حتى من قبل ما أودعها». وأضافت؛ أن ابنتها كانت تتصل بها سرًا وتقول: «نفسي أشوفك يا ماما»، لكن الأب كان يمنعها، ويوم ما طلع من السجن قتّلها... أنا عايزة حق بنتي». الأب يعترف بدأت الواقعة عندما تلقت مديرية أمن كفر الشيخ إخطارًا بالواقعة من المستشفى، وباشرت الأجهزة الأمنية التحقيق، وأمام جهات التحقيق، أقر الأب بالاعتداء، لكنه قال: «لم أقصد قتلها، كنت أؤدبها»، وعليه، قررت النيابة العامة حبسه 15 يومًا على ذمة القضية، على أن تستكمل التحقيقات، وسط مطالبات بتوقيع أقصى عقوبة عليه. آثار نفسية الحادثة فجّرت تساؤلًا صادمًا: كيف يتحول أب إلى جلاد؟ في حديثه ل»أخبار الحوادث»، كشف الدكتور وليد هندي، استشاري الصحة النفسية؛ أن تصرف الأب كان بسبب عدة عوامل متداخلة، كآثار نفسية مدمّرة للسجن الطويل، إدمان المخدرات، صعوبة الاندماج في الأسرة، وفقدان السيطرة والسلطة الأبوية. وأشار إلى أن كل هذه العوامل، قد تصنع قنبلة غضب تنفجر في أبسط المواقف، لكن الضحية دائمًا تكون الأضعف، لكن لا يمكن اعتباره مريض نفسي بل مجرم يستحق العقاب. شُيّع الأهالي جثمان ماجدة في جنازة مهيبة، خيّم عليها الصمت والذهول. بكاها أهل الحي، وزميلاتها في المدرسة، وكل من عرف براءتها وأخلاقها، قالوا إنها كانت هادئة، محبوبة، حافظة لكتاب الله، تبتسم رغم الحرمان. رحلت ماجدة، وبقيت قصتها جرحًا مفتوحًا، وصرخة مدوية تطالب بالقصاص، وبمواجهة العنف الأسري، وبحماية الأطفال من أن يدفعوا ثمن أخطاء الكبار. فما حدث ليس حادثًا عابرًا، بل مأساة إنسانية تستدعي وقفة جادة، قبل أن تتحول بيوت أخرى إلى ساحات جديدة للألم والخراب. اقرأ أيضا: دفع حياته ثمنًا لوقوفه بجوار زوج ابنته أمام أشقائه بسبب خلافات