هل ينبغى على المجلس العسكرى إعادة النظر فى مسألة محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية؟ وإذا كان الغرض من ذلك هو الفصل بسرعة فى قضايا البلطجة وترويع المواطنين وتهديد الأمن العام وهو الأمر الذى قد يحدث فى أى وقت، ألا يكون من الأفضل إصلاح إجراءات التقاضى فى المحاكم المدنية لضمان الأمن ضمانا دائما؟ فمنذ أن قامت ثورة 25 يناير جرى تحويل أعداد كبيرة من الناشطين السياسيين وعدد آخر من البلطجية والخارجين على القانون إلى المحاكم العسكرية، وكان المحامي الحقوقي عادل رمضان من المبادرة المصرية للحقوق الشخصية والذى كان يمثل المدعى عليهم قد صرح للمنظمة الدولية لحقوق الإنسان "هيومن رايتس ووتش" بناء على سجلات المحكمة وأوراق القضايا إن المحاكم العسكرية أصدرت أحكاماً بحق مايقرب من خمسة آلاف شخص في شتى أنحاء البلاد ما بين أول فبراير وأواسط مارس وأن تلك المحاكم العسكرية تتعامل عادة مع مجموعات كبيرة من المدعى عليهم، ما بين خمسة إلى ثلاثين شخص فى الجلسة الواحدة والتي تستغرق عادة ما بين 20 إلى 40 دقيقة وهو الأمر الذى يدعو للتساؤل عن مدى دقة هذه المحاكمات نظراً للسرعة التى تصدر بها الأحكام وهو نفس التخوف الذى عبرت عنه الحكومة حين طالبها الناس بمحاكمات سريعة لرموز النظام السابق معربة عن خوفها من عدم توخى الدقة فيها وأن البطء مقصود لضمان نزاهة المحاكمات وعدالتها حتى لايؤثر ذلك على إستعادة الأموال من الخارج !. ولذلك حين يجتمع مايقرب من مائة ألف ناشط على موقعى التواصل الإجتماعى "فيسبوك" و"تويتر" ليعلنوا رفضهم للمحاكمات العسكرية للمدنيين فإن الأمر يستحق التأمل والتفكير، حتى لو قيل أن مائة ألف شخص لايمثلون الأغلبية الصامتة أو "حزب الكنبة" كما يحلو للبعض الخروج عن نص الحوار وإطلاق هذا اللفظ الغير مقبول على هذا القطاع العريض من الشعب، فالأغلبية الصامتة عادة مايكون صمتها قبولاً لما يحدث أو تريثاً فى إنتظار ماتسفر عنه الأحداث مادام السياق لازال مقبولاً ويسير فيما يرضيهم والدليل على ذلك أن المظاهرات التى نظمها مؤيدوا النظام السابق جاءت شديدة التواضع من ناحية العدد وأيضاً من ناحية الشعارات التى لم تنجح فى جذب المزيد من المؤيدين إليها. وبالنظر فى تاريخ المحاكمات العسكرية نجد أن تاريخها يرجع إلى ثورة يوليو عام 1952 حيث جرت وقائع أهم وأول محاكمة عسكرية عام 1954 وكانت لعدد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين عقب محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية، ألقى وقتها القبض على عدد من عناصر الجماعة فى 9 نوفمبر 1954 وصدرت ضدهم أحكام بالسجن، تراوحت بين عشر سنوات إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، كما صدرت أحكام بالإعدام ضد سبعة من قيادات الجماعة وهم محمود عبد اللطيف ويوسف طلعت وإبراهيم الطيب وهنداوى دوير ومحمد فرغلى وعبد القادر عودة وحسن الهضيبى الذى كان يشغل منصب المرشد العام الثانى والذى خفف عنه الحكم لاحقا إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، وجرى نظر القضية أمام ما سُمى آنذاك "بمحكمة الشعب" ذات الطبيعة العسكرية وكانت برئاسة صلاح سالم وعضوية كل من حسين الشافعى وأنور السادات، وأصدرت أحكامها فى 4 ديسمبر سنة 1954، أى بعد أقل من شهر على بدء القضية التى نال فيها المرشد العام السابق للإخوان محمد مهدى عاكف حكما بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، قضى منها 20 عاما قبل أن يتِم الإفراج عنه عام 1974 فى عهد الرئيس السادات. ثم جرت المحاكمة الثانية فى عهد الرئيس عبد الناصر أيضا، وتحديدًا فى عام 1965، واتهم فيها مئات الإخوان بمُحاولة إعادة إحياء التنظيم، وكان فى مقدمتهم المفكر الإسلامى الشهير سيد قطب، الذى حُكم عليه بالإعدام، هو ويوسف هواش، وعبد الفتاح إسماعيل، وتم تنفيذ الحكم الصادر ضدهم من المحكمة العسكرية عام 1966، كما حكم بالإعدام على سبعة آخرين خفف عنهم الحُكم إلى المؤبد بالإضافة إلى أحكام بحق باقى المتهمين بدأت من عشر سنوات حتى الأشغال الشاقة المؤبدة. وفى يناير عام 1995 جرت وقائع أول قضية عسكرية للإخوان فى عهد الرئيس مبارك، حيث أحيل خلالها تسعة وأربعين عضوا بالجماعة للمحاكمة مرة أخرى وللمرة الثانية بتُهمة محاولة "إعادة إحياء جماعة محظورة"، وحُكم بالسجن على أربعة وثلاثين منهم بمدد تتراوح ما بين 3 إلى 5 سنوات، بينهم القياديان بالجماعة الدكتورعصام العريان وإبراهيم الزعفراني، كما حصل خمسة عشر منهم على البراءة. ثم مرة أخرى فى 23 نوفمبر من عام 1995 جرت المحاكمة الثانية للإخوان فى عهد مبارك ، حيث أحيل ثلاثة وثلاثون عضوا وقياديا بالجماعة للمحاكمة العسكرية وصدر الحكم على عشرين منهم بالسجن لمدد تتراوح ما بين 3 إلى 5 سنوات، بينما برأت المحكمة ثلاثة عشر آخرين، ثم فى نوفمبرعام 1995 جرت المحاكمة الثالثة للإخوان فى عهد مبارك ليصدر الحكم بحق ثلاثة من أعضاء الجماعة، اثنان منهم بالسجن من 3 إلى 5 سنوات، فيما برأت المحكمة المتهم الثالث. و فى عام 1996 تم إعتقال ثلاث عشر عضوا بجماعة الإخوان، فى مقدمتهم المرشد السابق محمد مهدى عاكف، وتم إحالتهم للمحاكمة العسكرية فيما سمى بقضية "حزب الوسط"، وصدرت فيها أحكام ضد ثمانية من المحالين تتراوح مابين 3 إلى 5 سنوات، بينهم مهدى عاكف، بينما أفرج عن الخمسة الباقين. أما"قضية النقابيين" التي جرت فى عام 1999، أحيل فيها عشرين قياديًا نقابيا من أعضاء الجماعة للمحاكمة العسكرية، وصدر الحكم فيها فى نوفمبر عام 2000 على خمسة عشر منهم بالسجن لمدد تتراوح ما بين 3 إلى5 سنوات، و برأت المحكمة خمسة آخرين. بعد محاكمة النقابيين كانت هناك محاكمة أخرى عام 2001 عرفت باسم قضية "أساتذة الجامعات"، أحيِل فيها إثنين وعشرين من قيادات الجماعة، بينهم عدد كبير من أساتذة الجامعات للمحاكمة، وصدر الحكم فى 7 أبريل سنة 2002 بسجن خمسة عشر منهم من بينهم الدكتور محمد على بشر والدكتور محمد بديع المرشد الحالى للإخوان المسلمين ومختار نوح المحامى والنائب البرلمانى الأسبق، فيما برأت المحكمة السبعة الباقين. وأخيراً مابين عامى 2007 و 2008جرت محاكمة هى السابعة للإخوان فى عهد الرئيس مبارك حوكم فيها أربعين من قيادات الجماعة، يتقدمهم نائب المرشد العام المهندس خيرت الشاطر، ووجهت إليهم تهم "غسيل الأموال" والانتماء إلى والتمويل والعمل على إحياء "جماعة محظورة"، ليصدر الحكم فيها بعد أكثر من عام و73 جلسة فى أبريل 2008 بالسجن على خمس وعشرين منهم بمدد تتراوح ما بين 3 إلى 10 سنوات، فيما قضت المحكمة ببراءة الخمسة عشر الآخرين. واللافت للنظر مما سبق أن جميع هذه المحاكمات إصطبغت بصبغة سياسية حيث تم فيها محاكمة الخصم المعارض الأقوى للنظام فيما بدا كخطة لتقويض هذا الخصم والقضاء عليه باستخدام قانون الطوارئ المصري المطبق منذ عام 1981 وقانون الأحكام العسكرية الذين يصرحان للرئيس بإحالة المدنيين إلى المحاكمات العسكرية، وصحيح أن المحاكمات الأخيرة التى جرت بعد الثورة لايمكن الجزم بأنها ذات صبغة سياسية نظراً لأن غالبية المتهمين جرى إتهامهم بوقائع بلطجة وترويع للآمنين نتيجة لوجودهم فى أحداث شغب أثناء الثورة وبعدها ضمن بعض الإضطرابات التى حدثت، لكن نتيجة لضخامة العدد لايمكن الجزم أيضاً بعدم وجود أفراد تم إلقاء القبض عليهم بطريق الخطأ أثناء تلك الوقائع لتواجدهم فى المكان إما بطريق الصدفة وإما لكونهم من الناشطين السياسيين الذين إعتادوا التواجد فى مكان الأحداث منذ بداية الثورة. هذا الأمر يستتبع بالضرورة طرح سؤالين فى غاية الأهمية وهما، أليس من الأفضل أن تنأى المؤسسة العسكرية بنفسها عن الدخول فى هذه المسألة مهما اتفقنا على نزاهة إجراءات التقاضى فى المحاكم العسكرية ؟، وأن يمثل المتهمون المدنيون أمام قاضيهم الطبيعى مع ضمان سرعة إجراءات التقاضى للحصول على نفس النتيجة بإنهاء القضايا فى أسرع وقت؟، خاصة وأن المؤسسة العسكرية قامت بتعديل قانون العقوبات في 1 مارس ، بموجب الصلاحيات التشريعية الممنوحة لها بحسب الإعلان الدستوري الذى صدر بتاريخ 13 فبراير ، فأضيفت جريمة "البلطجة" إلى المادة 375 مكرر ومادة 375 مكرر(أ) تحت مسمى الترويع والتخويف والمساس بالطمأنينة". حيث عُرفت البلطجة على أنها "استعراض القوة أو التلويح بالعنف ضد المجنى عليه بقصد ترويعه أو التخويف بإلحاق أى أذى مادى أو معنوى به أو الإضرار بممتلكاته" وهو الأمر الذى يسمح بمحاكمة البلطجية بقانون الإجراءات الجنائية مباشرة. مما لاشك فيه أن المرحلة القادمة تتطلب أن يتم إعادة صياغة القوانين والنظم وممارسات أجهزة الدولة صياغة دقيقة طبقاً لقواعد وآليات صارمة لا تسمح بالتداخل أو التضارب أو التعارض بينها، وأن تصبح سيادة القانون هى الضمانة الأكيدة لاستقرار البلد وأن لايُسمح أبداً بالإستثناءات فى أى شئ ولا أى قطاع كضمان للتطور والتنمية المستقرة تماماً كما تتطلب تلك المرحلة إعادة صياغة لأساليب الحوار بين قطاعات الشعب بحيث لايخرج فيها الناس على النص ويعود الرقى والحوار المستنير هو السائد فى الدولة وهو دور خطير ينبغى على الإعلام أن يتصدى للقيام به بمهارة وأمانة مما يتطلب بالضرورة العمل على إصلاح الإعلام فى أسرع وقت ممكن ليتمكن من القيام بمهمته على أكمل وجه حتى تعبر مصر بأمان إلى مرحلة جديدة يسود فيها الأمن والاستقرار ويشيع فيها العدل والترابط بين قطاعات المجتمع كافة.. المزيد من مقالات أحمد محمود