وسط كل ما نراه من سفه وقبح على الشاشات، وفى زمن تموج فيه القنوات بعشرات البرامج الترفيهية والمسابقات الغنائية، ووسط ما يتكرر أمامنا يوميا من مشاهد بلطجة وتحرش وإسفاف، يبرز برنامج «دولة التلاوة» كأحد أهم المشاريع الإعلامية التى أعادت الاعتبار لصوت القرآن الكريم وللمقرئ المصري تحديدا. جاء البرنامج ليؤكد أن مدرسة التلاوة المصرية ليست تاريخا يروى، بل نهرا لا ينضب، وأن إرث عظماء القراء محمد رفعت، وعبد الباسط عبد الصمد، مصطفى إسماعيل، الطبلاوى، الحصرى لم يكن فصلا انتهى، بل بابا مفتوحا تصدر منه مواهب جديدة تبهر وتستحق التكريم والاحتفاء. ما يفعله البرنامج أعمق من كشف مواهب شابة؛ إنه يثبت أن غياب الأصوات الأصيلة لم يكن نتيجة ندرة، بل نتيجة انسداد المشهد الثقافى والإعلامى لسنوات طويلة. ومع ظهور هذه البراعم، ندرك أن مصر لم تفقد وهجها، بل كانت تحتاج إلى من يفتح الباب لتتدفق الأنوار من جديد. ولم يكشف فقط عن أصوات صغيرة تحمل جمال الأداء وروح الخشوع، بل قدم برهانا حيا على أن مستقبل التلاوة فى مصر بخير، وأن الريادة المصرية لهذا الفن راسخة لا تهتز. ما سمعناه من براعم لم يكن مجرد أداء متقن، بل شهادة تؤكد أن أرض مصر ما زالت ولّادة، تنجب المواهب كما تنجب التاريخ. ليس غريبا أن يزعج البرنامج البعض، فالهجوم على مقدمة البرنامج لأنها امرأة يكشف عقلية لا تزال أسيرة أفكار بالية، هؤلاء تربوا على أصوات فرضت لسنوات طويلة بأموال طائلة بهدف تغيير ذائقة المصريين، وأُحيطت بشرائط وخطباء وشروحات تزدرى المرأة وتنتقص من دورها. الهجوم المفتعل على مقدمة البرنامج لأنها امرأة، يثبت العمل أن الروح لا تعرف جنسا، وأن الجمال حين يستدعى فى خدمة القرآن يتجاوز الضيق الذى يسكن بعض العقول، إن هذا البرنامج يقدّم درسًا عميقًا فى استعادة الذائقة لكن «دولة التلاوة» لا يعيد فقط الذائقة الأصيلة للقرآن بل يبنى نظرة جديدة للمرأة، نظرة تليق بدورها ومكانتها واحترامها. إن هذا البرنامج يقدم درسا عميقا فى استعادة الذائقة، وفى إعادة تعريف علاقتنا بالصوت الذى كان يوما نسيج البيت المصرى وطمأنينته. وهو قبل ذلك وبعده دعوة لأن ننصت، لأن نعيد ترتيب أفكارنا، ولأن نمنح أبناءنا ما يعيدهم إلى الجمال حين يتجلى فى آيات تتردد كنبض لا يشيخ.. فى لحظة يشوبها الاضطراب الأخلاقى وضياع البوصلة القيمية، فلنعد أبناءنا إلى الأصوات التى تشبه بيوتنا إلى صورة مصر التى كبرنا فيها، حيث كان صوت القرآن مصدر الأمان والسكينة والبركة.