نحن هنا أمام عمل موسوعي يتصدي لتاريخ الأمة العربية في مختلف مراحله وعلي جميع أصعدته. نحن هنا أمام كتاب مرجعي عظيم الشأن, يحق للمكتبة العربية أن تشعر بالفخر والزهو تجاهه.. نحن هنا أمام كتاب موضوعي يفتش في أوراق الماضي بأسلوب علمي بعيدا عن لغة المزايدة والمباهاة التي دأبنا علي الترويج لها حينما نتحدث عن الماضي وحضارة الأجداد. نعم.. إن كتاب( المرجع في تاريخ الأمة العربية) يعرض عبر مجلداته المختلفة لتاريخنا القديم والحديث معا, مقدما في صفحاته مادة علمية وفكرية مركزة تصدي لها مجموعة من الخبراء والمتخصصين في مختلف العلوم والدراسات. هذا عمل جماعي يحسب بالتأكيد للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التي تبنته ورعته وأشرفت عليه منذ أن كان حلما بعيد المنال حتي صار واقعا ملموسا بين أيدينا. حينما التقيت الدكتور محمد العزيز بن عاشور المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم( الالسكو) بدا لي سعيدا وفخورا بهذا الانجاز العظيم الضخم.. قال لي في نبرات هادئة ورصينة: إننا يجب دائما أن ننظر الي الماضي.. الي التاريخ بعيون ترصد معها المستقبل.. فالماضي مرتبط بالحاضر والمستقبل معا.. ينبغي أن نتوجه دوما الي الغد.. ومن ثم البحث في أوراق التاريخ يتحقق هنا عبر كتاب مرجعي موضوعي وعلمي يحوي مادة علمية وفكرية مركزة وصيغة تحليلية, تعرض للأسباب وتخلص الي النتائج بموضوعية علمية, بحيث يكون كتابا مرجعيا شاملا للتاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للأمة العربية.. يلبي احتياجات الدارس المتخصص والقارئ العام معا, ويسهم كذلك في التعريف بتاريخ الأمة العربية لدي الباحثين من خارج الوطن العربي. كانت السعادة تطل من ملامح الدكتور محمد العزيز بن عاشور وهو يقلب في صفحات المجلد الضخم بأجزائه السبعة.. لقد أكمل لتوه مهمة كبيرة, وحقق عملا عظيما.. فلماذا لا يشعر بالفخر؟ هذا الرجل التونسي يحمل علي كتفيه هموما ثقافية كبيرة.. يعمل بجد ومثابرة.. يحتضن في قلبه أحلاما وآمالا هائلة.. يحدثني بحماسة عن مشاريع ثقافية وفكرية عديدة وعيناه ترنو دائما نحو المستقبل.. فهو يري أننا لابد أن نتخلص من تلك( الآفات) التقليدية التي تفسد عقولنا وتعمي عيوننا معا حينما نتصدي لأي مشروع فكري وحضاري.. لابد أن نتابع حركة تطور اللغة التي تواكبها لغتنا العربية.. فلا نرفضها, بل نقبلها ونحافظ في الوقت نفسه علي قوام لغتنا العربية الأصيلة. لابد أن نتمتع بقدر من المرونة واللياقة حينما نعرض ونتصدي للمشاريع الثقافية ونتخلي عن تلك النظرة الاحادية التي لا تقبل التطور وترفض عن عمد التطلع للآخر.. ربما أكثر ما يلفت الأنظار في هذه المجلدات السبعة ذات الطباعة الفاخرة الأنيقة أننا أمام تناول تاريخي انساني رفيع للحضارة العربية.. فالباحثون ركزوا بصفة خاصة علي الجانب الإنساني واسهامات العرب في مجال الحضارة الإنسانية بعيدا عن التفاصيل السياسية الكثيرة التي لا تعنينا هنا.. فالكتاب المرجعي كما أكد لي الدكتور ابن عاشور يعرض عبر فصوله وصفحاته لأحداث حضارية واجتماعية وفكرية واقتصادية وفنية عايشتها الحضارة العربية.. فلا يتحدث كثيرا عن دور الأفراد في التاريخ أو ربما الحكام وانما يحفل بصفة خاصة بدور الشعوب.. فالشعوب هي التي تكتب التاريخ وتروي الأحداث.. فنحن نتحدث هنا عن تطور مجتمعات انسانية ولا نتحدث عن تاريخ حياة أفراد وأشخاص. نحن إزاء قصة حضارية عايشت مراحل وفصولا تاريخية مختلفة وواكبت صعودا وهبوطا عبر التاريخ والزمان.. فلماذا إذن نغرق في بحور التفاصيل الصغيرة التي لا طائل منها ونحن نرسم صورة رحبة شاملة لتاريخ وحضارة الأمة العربية؟ هذه النظرة الإيجابية التي تحفل بدور الشعوب ولا تنظر للتاريخ عبر ثقب ابرة تحسب بالتأكيد لهذا العمل الموسوعي الكبير.. ونشير كذلك لدور فريق البحث الذي ضم في جنباته نحو ثلاثمائة من الخبراء والباحثين وأساتذة الجامعة ومراكز البحوث المتخصصة في البلدان العربية الذين قاموا بجهد عظيم ومثابرة هائلة حتي يخرج هذا العمل الي النور.. وبقدر فخري وسعادتي بهذا العمل العظيم الرائد, بقدر حزني وألمي.. فهذا النوع من الأعمال لا يلقي في العادة تسليطا إعلاميا, ولا يكاد يحظي بالأضواء في صحفنا ووسائل الإعلام المختلفة التي لا تحفل للأسف الشديد سوي بالسطحي والهابط ولا تلتفت الي هذه النوعية الجادة العميقة من الانجازات.. واجبنا هنا المساندة والتأييد وإلقاء الضوء وهذا أضعف الإيمان.. يذكر أن( الكتاب المرجع في تاريخ الأمة العربية) قد صدر في طبعته الأولي( المتميزة) في سبعة مجلدات من الحجم الكبير, تناولت: الجذور والبدايات, الإسلام وبناء الدولة العربية, الأمة العربية في مرحلة الأوج والازدهار, الأمة العربية والعثمانيون, الأمة العربية: التحديث والأخطار الخارجية, وأخيرا الأمة العربية خلال القرن العشرين وقد صدر الكتاب المرجع أخيرا في طبعة شعبية رخيصة.. ليصبح متاحا للقارئ العادي بسعر زهيد.. تحية لهذا الجهد العظيم.. وتحية للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التي تعمل بدأب وصمت وتحقق الانجازات الكبيرة التي سيذكرها التاريخ بالتأكيد..