التقارير الصادرة عن منظمات دولية, حكومية أو غير حكومية, تلعب دورا مهما في نشر المعرفة وتنوير الرأي العام وصناع السياسة. غير أن الانتشار الواسع النطاق للمنظمات غير الحكومية فتح المجال لظهور تقارير لا تقف وراءها مؤسسات قوية وباحثون مخضرمون. وبينما يجب أخذ نتائج هذه التقارير بروية حتي يتم التأكد من سلامة المناهج المتبعة في كتابتها وجدارة الباحثين القائمين عليها, فإن شيئا من هذا لا يحدث, خاصة عندما يكون للتقرير موضوع أو عنوان جذاب, الأمر الذي يغري وسائل الإعلام الاسراع بنشر نتائجه, كما يغري الخصوم السياسيين بتوظيفه سياسيا. شيء من هذا صادف التقرير الصادر عن الصندوق الدولي للسلام عن الدول الفاشلة, والذي نشرته دورية فورين بوليسي الأمريكية مؤخرا. طبيعة المؤسسة التي تقف وراء التقرير, خاصة كونها مؤسسة أمريكية, والأهم من ذلك تبني التقرير من جانب مجلة فورين بوليسي المحترمة وواسعة الانتشار, أسبغ علي التقرير درجة من المصداقية لدي شكوك في جدارته بها. يقسم التقرير بلاد العالم إلي خمس مجموعات يسميها: الحرجة, والخطرة, والواقفة علي الحافة, والمستقرة, وشديدة الاستقرار. مجموعة الدول شديدة الاستقرار صغيرة جدا لا يزيد عددها عن ثماني دول, هي الدول الاسكندنافية الأربع وسويسرا وأيرلندا واستراليا ونيوزيلندا, وهي دول لا يمكن الاختلاف بشأنها. مجموعة الدول الأسوأ حالا, أو الدول الحرجة, هي مجموعة صغيرة أيضا وتضم اثنتي عشرة دولة هي بورما وباكستان وأفغانستان والعراق والسودان وتشاد وأفريقيا الوسطي والكونجو وزيمبابوي وكينيا والصومال وساحل العاج, وأيضا لا يوجد خلاف مهم حول أن الوضع في هذه الدول هو الأكثر حراجة, ربما باستثناء حالات محدودة مثل كينيا, التي يصعب تفهم وضعها في نفس الفئة مع دول مثل الصومال وأفغانستان والكونجو التي تئن تحت وطأة الحروب الأهلية والغياب التام لآليات فرض الأمن والنظام العام. الدرجة العالية من الدقة التي يتسم بها تقرير الدول الفاشلة في تناوله لأوضاع الدول الأكثر استقرارا والدول ذات الوضع شديد الحرج تغيب عند تناوله لأوضاع الدول الطبيعية, وهو العدد الأكبر من دول العالم, الواقعة في المنطقة الوسطي بين الأكثر فشلا والأكثر نجاحا. فنجد التقرير, علي سبيل المثال, يضع سلطنة عمان مع دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة وكندا في قائمة الدول المستقرة, كما يصنف ليبيا ضمن فئة الدول' الواقفة علي الحافة', وهي القائمة التي تضم دولا مثل البرازيل وجنوب أفريقيا والمكسيك. العدد الأكبر من الدول المائة والسبعة والسبعين التي يغطيها التقرير ينتمي لفئة الدول ذات الوضع الخطر, وهي الفئة التي تضم كل الدول العربية باستثناء ليبيا وعمان والعراق, وتشمل أيضا تركيا وإيران وإسرائيل والصين والهند وروسيا وكل دول جنوب شرق آسيا باستثناء ماليزيا وكذلك كل دول آسيا الوسطي باستثناء كازاخستان. لا أظن أن جمع كل هذه الدول في فئة واحدة له قيمة تحليلية مهمة. الأكثر من هذا هو أن الترتيب الذي منحه التقرير للدول المصنفة داخل الفئات المختلفة يثير الكثير من علامات الاستفهام. فبينما يتم تصنيف سوريا في المرتبة48 ومصر في المرتبة49, فإننا نجد الصين في المرتبة62, متأخرة عن دول مثل جيبوتي التي جاءت في المرتبة66, بحيث أن الدول الثلاثة علي ما بينها من اختلافات عميقة تقع جميعها ضمن الثلث الأدني بين دول العالم المختلفة. وربما يلفت النظر في هذا الترتيب تقييمات تتعارض مع الحس السليم, مثل تصنيف وضع روسيا في المكانة رقم79 متقدمة18 مركزا علي الصين الصاعدة بسرعة الصاروخ, وهناك أمثلة كثيرة لهذه التناقضات. التناقضات التي ينطوي عليها التقرير تنبع من المؤشرات التي يستخدمها لقياس نجاح وفشل الدول, ومن الطريقة التي يقيس بها هذه المؤشرات. يستخدم معدو التقرير اثني عشر مؤشرا لقياس نجاح وفشل الدول, هي الضغوط السكانية, واللاجئون, وحقوق الإنسان, وتماسك الجهاز الأمني, والتدخل الخارجي, وحالة الأقليات, وتماسك النخبة, والوضع الاقتصادي, والتنمية المتكافئة للأقاليم, وشرعية الدولة, والخدمات العامة, وأخيرا, الهجرة للخارج أو نزيف العقول. وعلي قدر أهمية هذه المؤشرات, إلا أنها تتجاهل مؤشرات أكثر أهمية بكثير في رسم صورة أكثر دقة لنجاح وفشل الدولة, مثل وجود ميلشيات وجماعات مسلحة خارج إطار الدولة, وعدد ضحايا العنف ذي الطبيعة السياسية, وقدرة الدولة علي إعمال القانون, وهي العوامل الأكثر أثرا علي فشل أو نجاح الدولة, خاصة علي المديين القصير والمتوسط. تنبع التناقضات التي ينطوي عليها تقرير الدول الفاشلة من طبيعة المنهج المستخدم في إعداده, والذي يقوم علي جمع المعلومات من تقارير دولية, وإن ظلت وسائل الإعلام هي المصدر الأهم للمعلومات التي يعتمد عليها معدو التقرير, ولهذا مشكلاته. فالمنشور في وسائل الإعلام يزيد وترتفع حدته الانتقادية كلما زاد مستوي حريات التعبير في المجتمع. أما في المجتمعات المغلقة التي تحرم وسائل الإعلام حرية التعبير فإن فرصة ظهور آراء نقدية تقل بدرجة كبيرة جدا. وبينما يعتبر مستوي حرية التعبير في بلد من البلاد علامة إيجابية ودليل نضج المجتمع السياسي والمدني, فإن الأسلوب المتبع في إعداد تقرير الدول الفاشلة يحول هذه الميزة إلي نقيصة, وكأنه يعاقب المجتمعات الأكثر انفتاحا وضمانا لحرية التعبير. وبينما يقل الأثر السلبي لاستخدام وسائل الإعلام كمصدر لمادة التقرير في حالة الدول الأحسن والأسوأ حالا, فإن هذا الأثر السلبي يرتفع جدا في حالة الدول الواقعة في مرتبة متوسطة, ومن بينها مصر. الأخطاء في قياس الأوضاع في مصر, وبالتأكيد في غيرها من البلدان, تظهر في عدد من المؤشرات مثل مؤشر اللاجئين الذي حصلت فيه مصر علي6.7 نقطة, وهو نفس المؤشر الذي حصل فيه السودان والصومال علي10 درجات كاملة. لا أدري بالضبط ما هو حجم أو طبيعة مشكلة اللاجئين التي يمكن أن تعطي لمصر هذا العدد من النقاط, فلا يوجد بين أهل مصر من أجبرته الظروف علي النزوح في داخل البلاد أو خارجها, أما العدد المحدود من اللاجئين الأجانب الموجودين في مصر فلا أظن أن أوضاعهم تبرر هذه الدرجة المرتفعة. ما ينطبق علي اللاجئين ينطبق أيضا علي مؤشر التمييز العرقي والطائفي, حيث حصلت مصر علي8.2 درجة علي نفس المؤشر الذي حصل فيه السودان الذي يعاني من مشكلات عرقية في الجنوب ودارفور علي9.9 نقطة, ولا ظن أن حجم مشكلة الأقليات في مصر يقترب بنا إلي هذا الحد من السودان, أو حتي من العراق الذي حصل علي هذا المؤشر علي9.2 درجة. لن أطيل في مناقشة مدي منطقية الدرجات التي حصلت عليها مصر في عدد إضافي من المؤشرات, لكن المؤكد أن الدقة في جمع المعلومات كان يمكن لها أن تضع مصر في مرتبة أفضل من تلك التي خصصها لها واضعو التقرير, ويكفي أن أشير إلي أن تحسنا بمقدار خمس درجات موزعة علي المؤشرات الإثني عشر كان له أن يضع مصر في المرتبة رقم64, بتقدم خمسة عشر مركزا مقارنة بالمرتبة الراهنة التي وضعها فيها أصحاب التقرير. ورغم هذا فإن التقرير رغم عيوبه المنهجية لاحظ عبر سنواته المتتالية تحسن الأوضاع في مصر, فقد تقدم وضع مصر بين عامي2007 و2010 من المرتبة36 إلي المرتبة49 في التقرير الأخير. فحتي المنهاجية المعيبة التي يتسم بها التقرير كانت قادرة علي رصد التحسن الذي حدث في مصر في عدد من الجوانب, وإن كنا لا نري أثرا لهذا التحسن في الحوار العام الدائر في مصر, بما في ذلك بعض مشكلات ونواقص الحوار العام في مصر. وفي كل الأحوال فإنه من المهم لفت الأنظار إلي أنه من الخطأ الاعتماد علي هذا التقرير وتقارير كثيرة مشابهة في التنبؤ بما قد يحدث في مقبل الأيام في بلد من البلدان. وفي هذا السياق أشير إلي أن التقرير الأحدث الصادر عام2010, والمعتمد علي معلومات تم جمعها في عام2009, أعطي لقرغيزستان المكانة45, ولكن قبل أن ينتهي عام2010 كانت الفوضي تطيح بهذا البلد فتتسبب في إسقاط الحكومة بعد أعمال عنف وشغب, ونشبت صراعات عرقية عنيفة سقط فيها المئات, وأجبر عشرات الألوف علي اللجوء لدول الجوار. أما اليونان التي احتلت المرتبة146 وفقا لمعلومات2009 فقد دخلت في العام اللاحق في أزمة اقتصادية عميقة, أسفرت عن صدامات فقد خلالها عدد من الناس حياتهم. ولعل الحالة الأكثر فجاجة في كل هذا هي حالة تايلاند التي وضعتها معلومات2009 في المرتبة80, لكن عام2010 كان هو الأسوأ بالنسبة لهذا البلد, فانهار الأمن والنظام العام بعد أن انفجرت المظاهرات المعارضة وسيطر المحتجون علي العاصمة لعدة أسابيع لم تنته إلا عبر التدخل العنيف لقوات الجيش, وكل هذه الحالات تدعو للتعامل مع نتائج هذه التقارير بشكل موضوعي هادئ قبل التسرع في نشرها والتعامل معها كما لو كانت حقائق لا يأتيها الباطل. المزيد من مقالات د. جمال عبد الجواد