رصد الأدب بعد نكسة يونيو الخلل الذي أصاب المجتمع, وأبان عن تأثير الهزيمة في النفوس والسلوك, وصور حالات الاغتراب, وقمع السلطة, وانكسار الحلم الذي تحمل المواطن من أجله كثيرا من العذابات وتحسس الأدب حالة المقاتل وهو يخوض الحرب وهو يشعر أيضا بألم حقيقي وهو يري الحياة المدنية تتسم بلامبالاة توحي بافتقاد الأمل, وكذا نظرة الإدانة التي تبدو في العيون للمقاتلين الذين تسببوا في سقوط الحلم واكتشاف الحقيقة.. ولقد تنوعت وسائل التنبيه إلي هذا الخلل في مساحة ضيقة أحيانا وفي جرأة متمردة أحيانا أخري, وسجل المسرح رؤيته الجريئة حول قيم العدل والمساواة والصدق الأخلاقي, ودفع الاستبداد ومظاهره وندد بكل ما يئد حق المواطن في المعرفة. ولم يبتعد الأدب عن الجندي المقاتل الذي شعر بأنه ينشط نصفين وهو يحيا في مكابدة هائلة وتدريب قاس ومتواصل في جبهاته الميدانية المتعددة كي يستعيد الأمل المفقود.. وهو نفسه الذي يري الشطر الآخر الذي يتبدي في اللامبالاة التي احتوت الناس.. ووقوعهم في زيف الحياة وتهالكها اليومي ورضوخهم للألم النفسي الذي سببته النكسة .. ولعلنا نتذكر( إبراهيم) في رواية( الحب تحت المطر) لنجيب محفوظ وهو يعيش تجربة الموت لحظة بلحظة في جبهة القتال, ويحيا علي أمل أن يرد اعتباره أمام ذاته وأهله ووطنه, حتي يلتئم ما انشطر منه.. وفي الوقت الذي سادت فيه روح التشاؤم كان مقتنعا بأن القتال الحقيقي من أجل النصر آت لا ريب فيه وأن نسمة الحرية ستملأ الصدر وتدفع بحياة عارمة. وفي الجانب الآخر فقد صورت الرواية نماذج من الشباب الضائعين سياسيا واجتماعيا.. ويتساءل( إبراهيم) وهو يري الانكسار في العيون.. كيف يأتي يوم نحلم فيه بالنصر والشباب ضائع وغير منتم! .. وعبر الأدب في هذه المرحلة عن بطولات نادرة حجبتها ظلال الهزيمة. وقدم الأدباء المقاتلون نصوصا ترصد روح الجندي المصري الذي لم يقدر له في خطفة الهزيمة أن تختبر كفاءته في مواجهة العدو, وكشفوا عن قدرة الجندي في احتواء الحصار, والتمسك بقيم إنسانية كالرحمة والجلد واحترام الحق الإنساني وسط النيران. كما أشاروا إلي عجز العدو عن الاحتواء والسيطرة, والتراسل النفسي بين الجندي وآلته, وتوقفوا أمام ردود الأفعال للهزيمة, وعكس الأدب الشعور بالتمزق والانكسار والغربة. صور حسن البنداري في قصته( متواليات..) هذا الشعور علي لسان الجندي( يوم أن عدت من صحرائك في أول اجازة.. لم ترحب بك عيون ساكني المدينة كأنك قادم من الفضاء. أنكرتك عيونهم). وكانت النكسة فرصة لإعادة النظر في مجريات الحياة في مصر, وكشف الخلل الذي أصاب المجتمع. وبرز عدد من المبدعين قدموا رؤيتهم, وشوقهم إلي العدل, والحرية.. عبر آليات فنية تعيش علي توصيل الدلالة وتوضيح الرمز كما في روايات: الأسوار لمحمد جبريل, والزيني بركات للغيطاني, والحداد ليوسف القعيد, والكرنك لنجيب محفوظ, وحكاية توتو لفتحي غانم.. وكشفت هذه الأعمال وغيرها مظاهر العنف السياسي والقهر البدني والنفسي, وزيف الشعارات. .. وأبرزت بعض الأعمال الأدبية فيما بعد اتجاها رافضا لإسرائيل إلي أن يحصل الفلسطينيون علي حقوقهم. وأصبح التطبيع سوءة لا تصيب صاحبها فقط بل تطول بإساءة هؤلاء الذين قدموا دماءهم للوطن.. برصاص العدو.. وأشارت رواية( شيكاغو) لعلاء الأسواني إلي هذا المعني, وأبانت عن أن العلاقة السوية بين مصري ويهودية أمر صعب تحقيقه, ولاح البعد الذاتي الذي هو رمز للصراع مع الآخر الإسرائيلي والذي كانت النكسة إحدي مراحله المريرة. لقد أدرك ناجي عبد الصمد, الباحث في جامعة شيكاغو أن الهوية تقف حائلا بينه وبين حبيبته اليهودية( ويندي) ويكشف الحوار التالي هذا الصراع الكامن في أغوار الذات.( علاقتنا رائعة لكنها بلا مستقبل). لماذا؟ لأننا من عالمين مختلفين ويندي لقد أخطأت وجئت لأعتذر. ليس في الأمر خطأ.. أنا في النهاية أنتمي إلي أعداء بلادك.. مهما أحببتني فلن تنسي أبدا أنني يهودية.. الخ] وكان الشاعر أمل دنقل أحد هؤلاء الرافضين. امتد رفضه من الهزيمة وحتي الموت, وظل ينتقد ما حدث من تجاوزات أثرت في الانتماء, ويحذر من التقارب ويؤكد مساحة الاختلاف, يقول في قصيدته( البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) ( أيتها النبيلة المقدسة لا تسكت فقد سكت سنة فسنة/ لكي أنال فضلة الأمان/ قيل اخرس/ فخرست وعميت وائتممت بالخصيان/... تكلمي... تكلمي/ فها أنا علي التراب سائل دمي.. الخ) المزيد من مقالات محمد قطب