عندما اختار الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس أن يجسد آثار نكسة يونيو 1967 لم يجد سوى المرأة كتعبير مكتمل للهزيمة الاجتماعية قبل الهزيمة السياسية والعسكرية، فكتب قصة اختار لها عنوان «الهزيمة كان اسمها فاطمة».. عارضا نماذج مجتمعية من المجتمع المهزوم فى جميع أشكاله وعلاقاته.. نحاول هنا التحقيق فيما تخلفه الهزائم من تحولات فى بنية المجتمع، مثلما حدث بعد نكسة يونيو من تحولات داخل الأسرة المصرية وخارجها، وكيف أن النكسة التى خلفتها هزيمة يونيو قد زالت مرارتها وتبخرت تحولاتها بعد نصر أكتوبر العسكرى، أما النكسة التى سببتها ردة السبعينيات وما تبعها من فساد اقتصادى وسياسى فلايزال يعانى منها المصريون حتى اليوم.. وتقول الكاتبة سكينة فؤاد: هزيمة يونيو أحيت بعض السلوكيات الحسنة داخل البيت المصرى، فى محاولة للحصول على الدعم النفسى للتغلب على الشعور بالهزيمة، فزاد الشعور بالتماسك الأسرى، والعودة إلى التمسك بالصفات الإنسانية الجيدة، والاقتراب من الله، ومراجعة الذات وأخطاء الماضى، لإصلاح ما يمكن إصلاحه، وإن كانت هناك مظاهر للتدين الظاهرى، مثل ارتداء الحجاب بعد النكسة، فقد كان ذلك تأثرا بالمجتمع العربى، ودول الخليج، فالشعب المصرى بطبعه يميل إلى التدين الوسطى. هزت الهزيمة كل المصريين على اختلاف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية، فجعلتهم يعيشون حالة من الشجن والحزن، والمرارة، تبعها العديد من التفسيرات لحدوثها، مثل الغفلة السياسية، والبعد عن الله، وغيرها من الأسباب التى أثرت على الواقع المصرى، لكنها سرعان ما تلاشت مع تحول الرغبة فى النصر إلى مشروع قومى». وترى الكاتبة فريدة الشوباشى، التى كانت شاهدة على النكسة، أن التحول الاجتماعى الذى طرأ على الأسر المصرية بعد النكسة لم يكن تحولا منطقيا، بل كان مدفوعا من بعض الدول، التى أرادت إجهاض المشروع المصرى الخاص بالتنمية، وتحويلها إلى ما هى عليه الآن من شعب مفرغ داخليا من الطموح، يفكر فى الدين بأسلوب وهابى، دون البحث فى صحيح الإسلام، الذى يدعو إلى إعمال العقل والتفكير. ويقول الكاتب يوسف القعيد فى تأثير النكسة على البيت المصرى: «ساهمت النكسة فى تغيير واقع الأسرة المصرية، وحثها على النبش فى تراثها القديم، من أدب وشعر وملاحم شعبية، وتراث أدبى وفكرى، فى محاولة لاكتشاف الذات، والعمل على الخروج من الهزيمة، بعد أن كان هذا التراث مهملا بعد ثورة يوليو. كنت مجندا فى الجيش وقت النكسة، لكننى شهدت التحول المجتمعى فى أسرتى القروية، وباقى الأسر المصرية، التى أصبحت بحاجة ماسة إلى الأمل، وتسببت النكسة فى تحول مجتمعى بسيط، لكنه كان خطوة نحو تحول اجتماعى كبير رسخته مرحلة ما بعد نصر أكتوبر، حيث «تأسلمت» مصر فى عهد السادات، خاصة مع ترديد المقولات التى تزعم أن محاربى 73 كانوا جنود الله وليس الجنود الحقيقيين، إضافة إلى انتشار الجماعات الإسلامية، التى كان لها دور كبير فى تغيير شكل الأسرة المصرية. ويقول الدكتور أحمد شوقى العقباوى، أستاذ الطب النفسى بجامعة الأزهر: إذا كان الحجاب قد بدأ ظهوره عقب النكسة إلا أنه استشرى فى السبعينيات، بعد هجرة البسطاء للخليج من منطلق أن التقوى تفتح أبواب الرزق، وبهذا ساد هذا الفكر الوهابى وأصبح التدين الشكلى أمرا سائدا وساعد فى ذلك حالة الإحباط التى تتزايد من وقتها وحتى الآن، التى دفعت الناس للهروب من ضغوط الدنيا إلى التنفيس الدينى الشكلى والتشدق بعبارات شراء الآخرة وغيرها، والدليل اتخاذ البعض للحجاب كموضة وقيام البعض الآخر بارتدائه بدافع الضغوط الأسرية، دون اقتناع حقيقى، وهناك فئة أخرى ارتدته بعد أن فاتها قطار الزواج.. من هنا تحول الحجاب لدى الأغلبية إلى مظهر ووسيلة حماية مجتمعية، بدليل تخفى المنحرفات خلفه هو والنقاب، كما أكدت إحدى الدراسات الحديثة. فقد الحجاب هيمنته وقوته فى الشارع بدليل التحرش بالمحجبات والمنتقبات وذلك لأن نفسية الشعب ذاتها مستقرة على أن الأمر مجرد شكليات دون إيمان حقيقى، حتى لو أظهروا غير ذلك، والدليل تزايد الفساد والانحرافات بنفس معدل زيادة التدين الشكلى. وتقول الفنانة عفاف شعيب: ما يحزننى هو ما رصدته بعد 18 عاما من الحجاب، حيث وجدت أن القاعدة العظمى للأسف تتخذه كمنظرة وموضة، وقد حدث أكثر من مرة أن جمعتنى الظروف بهذه الفئة وعندما يحين وقت الصلاة أجدهن يتهربن منها وهو ما يصيبنى بالذهول، فأين العبادة من ارتداء الحجاب، وما يصدمنى أيضا هو ما يحدث من تحرش بالمحجبات فى الشارع، وهنا تقع اللائمة عليهن، فلا يصلح أن ترتدى إنسانة محجبة ملابس لا تليق بحجابها كما نرى مع الأغلبية، فهؤلاء حجابهن مواكبة للمظهر الاجتماعى ليس أكثر». ويقول أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة د. عاطف العراقى: الحزن الذى خلفته النكسة فى النفوس انمحى مع الزمن، ورغم ذلك ظل الانهزام معلما رئيسيا للشخصية المصرية حتى هذه اللحظة ليس كإحدى تبعات الهزيمة، ولكن لأن المناخ الحالى يحمل داخله مسببات انكسار أكبر، فالفروق الطبقية والاقتصادية شاسعة بين أبناء الشعب الواحد، البعض يصرف بالملايين والبعض الآخر لا يجد قوت يومه، والبطالة فى أعلى معدلاتها، والفساد والشللية والوساطة، تحكم المجتمع، وإذا كان انهزامنا فى 67 كان سببه وجود رجال غير مناسبين فى مواقع خطيرة، فاليوم أيضا هناك أشخاص كثيرون غير مناسبين فى مواقع حساسة، مما أثر على نفسية جيل الشباب وتفكيرهم وجعلهم يعتبرون الوساطة سلما سحريا للمجد والسلطة والثروة، كما أن المد الأصولى الذى نشاهده اليوم هو نتيجة نفسية أخرى للهزيمة السياسية والاقتصادية التى نعيشها.