وزير الزراعة: خفضنا أسعار البنجر لإنقاذ الفلاحين من كارثة.. وأي تلاعب بالأسمدة سيحول للنيابة    النيابة تكشف سبب حريق شقة بمنشأة القناطر: الحادث محدود ولا إصابات    العربية اتهشمت، تعرض الفنان فادي خفاجة لحادث سير مروع    في فعاليات كايرو اي سي تي.. خبراء عرب: مطلوب التعاون لبناء اقتصاد رقمي عربي    الدكتورة رانيا المشاط: الذكاء الاصطناعي سيساهم في خلق وظائف جديدة    جلسة في Cairo ICT 2025 تناقش التوازن بين الإمكانيات التكنولوجية وترشيد الإنفاق في الحوسبة السحابية    المندوب الروسي يتحفظ على المشروع الامريكي بشأن غزة في مجلس الأمن    موضوع بيراوده منذ 3 أيام، كامل الوزير يكشف كواليس ما قبل بيان السيسي بشأن الانتخابات (فيديو)    حبس المتهم بالتعدي على مسنة بالعجوزة    دون مساعدات مالية، صندوق النقد الدولي يطلق "برنامج تعاون مكثفا" مع سوريا    حازم الشناوي: بدأت من الإذاعة المدرسية ووالدي أول من اكتشف صوتي    ترامب: نشكر مصر والإمارات والسعودية وقطر والدول التي دعمت القرار الأمريكي بمجلس الأمن    مواعيد مباريات منتخب مصر في كأس العرب 2025 والقنوات الناقلة    تعرف على المنتخبات المتوّجة بلقب كأس العالم منذ انطلاقه عام 1930    مستوطنون يطلقون الرصاص على أطراف بلدة سنجل    اليوم.. استئناف محاكمة المتهم بهتك عرض الطفل ياسين داخل مدرسة خاصة بدمنهور    روبيو: قرار مجلس الأمن تاريخي من أجل بناء قطاع غزة يحكمها الفلسطينيون دون حماس    ترامب يستفسر كم ستربح الولايات المتحدة من تنظيم كأس العالم 2026    نجاة الفنان فادي خفاجة من حادث سير    وزارة الداخلية: فيديو شخص مع فرد الشرطة مفبرك وسبق تداوله في 2022    روسيا تنتقد قرار مجلس الأمن بشأن غزة    الهيئة الوطنية للانتخابات تُعلن اليوم نتائج الجولة الأولى لانتخابات مجلس النواب 2025    ممثل الجزائر لدى الأمم المتحدة: دعمنا القرار الذي يهدف إلى وقف إطلاق النار في غزة    إثيوبيا تؤكد تسجيل 3 وفيات بفيروس ماربورج النزفي    ارتفاع تدريجي في درجات الحرارة... حالة الطقس المتوقعة اليوم الثلاثاء 18 نوفمبر 2025    قتلوه في ذكرى ميلاده ال20: تصفية الطالب مصطفى النجار و"الداخلية"تزعم " أنه عنصر شديد الخطورة"    ضبط 400 كجم لحوم غير صالحة للاستخدام الآدمي ضمن حملة رقابية على الأسواق بمدينة أوسيم    اتجاه لإعادة مسرحية الانتخابات لمضاعفة الغلة .. السيسي يُكذّب الداخلية ويؤكد على التزوير والرشاوى ؟!    كامل الوزير: القطار السريع سيغير وجه مصر    عاجل – حماس: تكليف القوة الدولية بنزع سلاح المقاومة يفقدها الحياد ويحوّلها لطرف في الصراع    شاهين يصنع الحلم.. والنبوي يخلده.. قراءة جديدة في "المهاجر"    مديرية صحة الفيوم تنظم تدريبًا متخصصًا في التحول الرقمي والأمن السيبراني للموظفين.. صور    الكنيسة الإنجيلية اللوثرية بالأردن تستقبل وفدًا من قادة كنائس أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة    عبد اللطيف: نهدف لإعداد جيل صانع للتكنولوجيا    أوقاف البحيرة تنظم ندوة حول مخاطر الذكاء الاصطناعي بمدرسة الطحان الثانوية    رئيس حي شرق شبرا الخيمة بعد نقل مكتبه بالشارع: أفضل التواجد الميداني    نتيجة وملخص أهداف مباراة ألمانيا ضد سلوفاكيا في تصفيات كأس العالم 2026    مصرع شاب وإصابة 2 آخرين بطلق ناري في ظروف غامضة بقنا    ضبط التيك توكر دانا بتهمة نشر الفسق والفجور في القاهرة الجديدة    هولندا تضرب ليتوانيا برباعية وتتأهل إلى كأس العالم للمرة ال 12    رئيس منطقة بني سويف عن أزمة ناشئي بيراميدز: قيد اللاعبين مسؤولية الأندية    أكرم توفيق: الأهلي بيتي.. وقضيت بداخله أفضل 10 سنوات    فرنسا تواجه كولومبيا وديا قبل مواجهة البرازيل    الصحة ل ستوديو إكسترا: تنظيم المسئولية الطبية يخلق بيئة آمنة للفريق الصحي    شاهد.. برومو جديد ل ميد تيرم قبل عرضه على ON    صدور ديوان "طيور الغياب" للشاعر رجب الصاوي ضمن أحدث إصدارات المجلس الأعلى للثقافة    اليوم عيد ميلاد الثلاثي أحمد زكى وحلمى ومنى زكى.. قصة صورة جمعتهم معاً    ندوة البحوث الإسلامية تسلط الضوء على مفهوم الحُرية ودورها في بناء الحضارة    مستشفى الشروق المركزي ينجح في عمليتين دقيقتين لإنقاذ مريض وفتاة من الإصابة والعجز    أفضل أطعمة لمحاربة الأنيميا والوقاية منها وبدون مكملات    توقيع الكشف الطبى على 1563 مريضا فى 6 قوافل طبية مجانية بالإسكندرية    توقيع الكشف الطبي على 1563 مريضًا خلال 6 قوافل طبية بمديرية الصحة في الإسكندرية    غيرت عملة لشخص ما بالسوق السوداء ثم حاسبته بسعر البنك؟ أمين الفتوى يوضح    موعد شهر رمضان 2026 فلكيًا .. تفاصيل    دار الإفتاء: فوائد البنوك "حلال" ولا علاقة بها بالربا    بث مباشر.. مصر الثاني يواجه الجزائر للمرة الثانية اليوم في ودية قوية استعدادًا لكأس العرب    لكل من يحرص على المواظبة على أداء صلاة الفجر.. إليك بعض النصائح    الفجر 4:52 مواقيت الصلاه اليوم الإثنين 17نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحوار الأخير:
تخطيت السبعين خروجا علي تقاليد الموت في العائلة!
نشر في أخبار الأدب يوم 03 - 07 - 2010

»مطر« واحد من جيل الستينيات من الشعراء المصريين ولا يبرح قريته رملة الأنجب بمحافظة المنوفية منذ ولد عام 1935 وحتي الآن، ويرتبط عفيفي مطر بالأرض ارتباطًا وثيقًا لدرجة أن أشعاره لا تخلو من ذكر كل مفردات الأرض وارتباطها بالإنسان والكون، لكنه يضفر عالمه الصغير باطلاع وقراءات متعمقة في كل المجالات، فهو عاشق للفلسفة بحكم دراسته لها في جامعة عين شمس، بالإضافة إلي اطلاعه العميق علي الحضارة المصرية القديمة وكتب الدراسات والشعر العربي القديم والحديث والمعاصر.. كما أنه متذوق رفيع المستوي للفنون التشكيلية والموسيقي.. وقد عمل عفيفي مطر مدرسًا بوزارة التربية والتعليم في مقتبل حياته، ثم سافر إلي العراق فترة طويلة عاد بعدها إلي مصر متفرغًا للإبداع والمشاركة في الحياة الثقافية.. صدر له: رباعية الفرح، ومكابدة الصوت الأولي، وشهادة البكاء في زمن الضحك، والنهر يلبس الأقنعة، والاحتفال بالمومياء المتوحشة.. ثم كتابه للأطفال "مسامرات الأولاد كي لا يناموا"، وكتاب سيرته الذاتية الذي توقف أمامه النقاد كثيرًا لما يحمله من صدق ومعاناة وجمال أسلوب "أوائل زيارات الدهشة".
يقول: "من أنت.. وماذا يكتب البرق علي وجه القراءات!!
انتظر.. حجر يفتح بيتًا ودم تأخذه الرعدة
أهدابي عليها من رماد المطر الغامض
ثلج من يدي اساقط
لست بالقارئ: أغفو في كوابيس الكتابات
انتظر.. وأحمل علي كفك شمسًا للقراءة"
لو رجعنا إلي الوراء لتذكرنا قصيدتك الأولي "فردوس بائعة المانجو" عام 1957، كيف كانت بدايتك مع الشعر، وما حكاية فردوس؟
لم تكن هذه القصيدة أقدم أو أولي قصائدي، بل سبقتها سنوات من القصائد الأولي التي كانت تنضج ببطء وتكتمل مع الزمن، نشرت عددًا منها في مختلف الصحف والمجلات منذ عام 1954، وقد اخترت من هذا الركام القديم قصائد الديوان الأول الذي جعلت عنوانه: "من مجمرة البدايات" وكان للعجب من أواخر ما نشرت من دواوين. أما فردوس، فقد كانت بائعة سرِّيحةً للفواكه والمشروبات في القطارات التي تذهب بنا أو تعود من المدينة القريبة "منوف"، حيث كنا نتلقي تعليمنا في الصبا، وكانت آية من آيات الجمال الأخاذ والمرح المشاكس والجرأة غير المبتذلة، يتوهج وجهها الخمري المنمنم وبهاء الكحل وسنَّتها الذهبية وضفائرها الطويلة في هالة عجيبة من الفتنة وحنان الأخوات وحزن الجواري الكسيرات، وبعد أن انقطعت عن رؤيتها بحكم انتقالي إلي مكان بعيد لمدة طويلة، هالني أن أراها وقد انطفأت وتبدلت أحوالها وتهدل جسدها حتي غدت أطلالا وبقايا علي أعتاب شيخوخة مبكرة عاصفة، فكانت القصيدة.
أطلقت علي فترة العمر ما بين الستين والسبعين تعبير "دقاقة الرقاب" ماذا قصدت بهذا التعبير، وما شعورك عندما بلغت السبعين؟
هذا تعبير عربي قديم يومئ إلي أفاعيل الزمن في الأجساد والقلوب من ضعف وهزال وتكاثر علل وانقطاع أمل، وقد شغلني لأن أبي كان يكرر علي مسامعي أننا فرع من العائلة يموت رجاله في الثامنة والستين من العمر، وأيقنت أنني لن أفلت من هذا الحكم المقدور علينا، فأخذت أقرأ وأكتب وأتخبط بين الأفكار وتواريخ الصراعات العقلية والعقائدية والمذهبية، تطحنني رغبتي وعطشي المعرفي، وتهرسني ظروف حياتي فأشتعل وأتأجج بالإرادة وشجاعة المصاولة كي أكون جديرًا بعمر مبارك بالكدح مغسول بالعرق، وأعتبر أن بلوغي السبعين إنما هو نسيئة أو "بقشيش" مقدم لإنجاز بعض ما أتمني إنجازه، وأشعر بالشكر والامتنان لهذا البقشيش الجميل، راجيا أن أمتلئ بإرادة امتداده إلي الثمانين، ما دمت قادرًا علي خدمة نفسي وعدم الإثقال بالاعتماد علي أحد.. أي أحد.
معروف عنك أنك من الشخصيات التي يمكن أن نطلق عليها "الشخصيات القلقة والمتسائلة" هل أفادك القلق علي المستوي الإبداعي؟
أتحير كثيرًا في تأويل وتفسير ما أصاب الجن في مملكة سليمان وما ترمز إليه الحكاية، فأن يكونوا قد حذقوا كل حرفة وفن وحازوا كل معرفة وقدرة، فإن فضيحتهم المخزية المدوية قد كشفت جهلهم وغرورهم بموت الملك وسقوط جثته بفعل الأرض أو دابة الأرض التي أكلت منسأته، ولو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، رائحين غادين في أشق الكدح أمام جثة الملك الميت، وأقول: لو كانوا من أهل القلق والتساؤل وتلقائية الدهشة، لأنقذهم ذلك من ذل الطاعة المتعالمة ومهانة العلم المغرور، وإن تحليل مفهوم الدهشة، وهي الفعل الانفعالي العقلي العجيب الذي يؤسس للفلسفة والشعر والفن وسائر خطي البشرية علي معارج الخروج من الظلمات إلي النور، نور المعرفة والعلم والإبداع، ونور الشعور الكوني بالصدور من مطلق الإبداعي في "كن"، والعودة إلي مطلق الرحمة في نور التوكل الشجاع المناضل المليء بالقلق والشوق والأسئلة، وكل حياتي العقلية والروحية والإبداعية ليست إلا رَجْعَ الصدي لصخب هذا القلق الخلاق.
تكاد لا تخلو قصيدة من قصائدك من المطر والأرض، كيف تصف علاقتك بهما؟
وهل ينأي أو يبرأ كائن عن علاقة ما بالمطر والأرض؟ إنهما مادتا خلقه، ومدي تأمله، وأفق حركته ومجلي حلمه وخياله، ومثل أي مواطن فلاح وسليل فلاحين، كانت الأرض وكان المطر العجينة الأولي التي غرسنا فيها خطانا وأصابعنا من أول اللهو والحبو واللغو إلي فرح الكدح وفتنة الانتظار وبهجة الحصاد، ومن روائح العرق إلي روائح الأفران والأرغفة ولذائذ التمطق والتذوق لإبداعات أمهاتنا وعماتنا وخالاتنا من صوان وفطائر ومشوي ومكمور، ومن أول قيمة الملك والميراث إلي روح الانتماء وقيم العرض والشرف، إلي أعلي فوران العقل والروح بالعقيدة والحرية وكرامة الضمير حتي قيمة الشهادة والعودة الذائبة في كيانهما الجليل، ترابا من صميم الأرض وطينا من ذاكرة نفخ الروح.
لك مقولة شهيرة: "الشعر ملزم وليس ملتزما"، ماذا تقصد بذلك، وهل نجت في تطبيق ذلك علي نفسك؟
الشعر صيدٌ وقنيصةٌ ينصب الجميع أشراكهم وأحابيلهم لاصطياده وتطويعه وقهر عنفوان حريته وتلقائيته ورشاقة خضوعه لقوانين وجوده وحيويته المتفجرة من داخله، فالشاعر يقيم مصايد خياله وشباك فوضاه المحررة للكلمات من قواميس حياديتها، ويرهف حراب وأسنة أوزانه وإغراءات مجازاته واستعاراته وإشاراته الثقافية، ثم يقعد علي مرصده للصيد، والطغاة والسلاطين يقيمون مصايدهم بالترهيب والترغيب وفنون لعبهم بالغرائز والأطماع والمخاوف، لتكون القصيدة أَمة أو جارية أو ربيطة منادمة، والساسة ورجال الأحزاب والأيديولوجيات أكثر الخلق شراسة ودهاء في أساليب الصيد بالشعارات وأوهام البطولات الفارغة وعقد تيجان الشهرة وفتح أبواب الكسب والتقلب في نعيم التحقق أمام الشاعر وشعره. لقد قرأنا لعشرات من الشعراء الذين لم يكن الشعر ملزما لهم، بل كانوا ملتزمين بما ألزمتهم به أحزابهم وجماعاتهم وسلطاتهم، فملأوا الدنيا وشغلوا الناس، ولا يزال بعضهم يعيش علي ريع وعطايا التزاماتهم، فإذا مات منهم أحد أو طرد من جنة الالتزام سقط شعره ولحق به من انكشاف الهزال ما يزيحه إلي ليل النسيان وسخرية الأسئلة المتحررة من بطش الهمج المتسلطين، وكم من نجاري شعارات وحماسات غوغائية ضحلة تراصت وتمترست وراءهم صفوف الدعاة والمطبلين وزماري النقد الدعائي الموبوء، ولقد حاولت بكل طاقتي أن أطبق ذلك علي نفسي، فلم أشتغل عند شعري نافخ أبواق أو مدير دعاية وإعلان أو خبير تسويق، ولأنني لم أكن علي علاقة خضوع أو مسايرة أو تواطؤ مع أي جماعة من جماعات توظيف الشعر وتدجين الشاعر، ظللت بعيدا أحتمي بقدرتي علي الاستغناء وتكثيف وتركيز الكدح في خدمة السيد الوحيد الذي يلزمني ويملي علي طاعته: الشعر.
يقال إنك لا تخاف إلا من الشعور بالخوف، عفيفي مطر الذي قام شعره علي نقد الاستبداد والوقوف في وجه السلطة مهما كانت قوتها.. مم يخاف؟
"وارتعدت مفاصلي من خوف أن أخاف" سطر قديم لي، وقد تعدد هذا التعبير بطرق مختلفة علي مدار العمر، وبالأخص في تجربة التعرض للتعذيب وسلخ ظاهر كفيَّ بالكهرباء في لاظوغلي، وكنت في حال من الهلع المميت من أن يغلبني الخوف فأسقط أمام نفسي، وقد لجأت إلي ميكانيزمات دفاعية أذهلتني تلقائيتها وقوتها، وهي ميكانيزمات الإفلات بالتذكر وبالخيال من ظلمات الزنزانة وظلمات العصابة المعقودة علي عيني وظلمات النفوس المريضة التي تستمرئ تعذيب البشر، إلي عوالم الضوء ووهج الألوان في لوحات الفنانين الذين أحبهم وأستطيع تذكر تفاصيل دقائقها من أمثال هيرونيموس بوش وبروجل وجويا وفناني عصر النهضة والحوائط العبقرية في المعابد المصرية القديمة، وقد لمحت إلي بعض ذلك في ديواني: "احتفاليات المومياء المتوحشة".
لقد كانت تجربة الخوف من أقسي ما عاناه المثقف والمبدع خلال أكثر من نصف قرن، كانت الدقات علي الأبواب بعد العاشرة مساء بغير موعد مسبق لزيارة أحد كفيلة برعدة خوف تهز الجسد وترعش الركبتين وتزيح البصر وتجفف الريق، وكان المرء يستنفر أقصي طاقات المقاومة في نفسه ليغلب خوفه من السقوط في قبضة الخوف الحيواني أمام هول المجهول الذي يعرف بعض ملامحه وحكاياته، أما الآن وأنا علي حافة المجهول الأعظم، فإن أخوف ما أخافه أن أحتاج لمساعدة أحد أو أن اضطر لتجريب واختيار إنسانية أحد.
هذا علي المستوي الشخصي الفردي، أما علي مستوي الجماعة والوطن والأمة، فإن أشد ما يخيفني ويخلع قلبي ويرتعد له نومي وصحوي، هو أن أري اكتمال الهزيمة وتمام الركوع الذليل أما العدو.
إنني أعتقد أن تجربة شعبي وأمتي في الخوف تجربة لا مثيل لها، وهي لم تكتب ولا أظنها ستكتب في زماننا.
في ديوانك "رباعية الفرح" اخترت العناصر الأربعة، الماء والنار والتراب والهواء، فماذا تمثل لك هذه العناصر؟
هذه العناصر هي المعطي الأول لحواس الإنسان، وهي حياة الحي ومادة الإلهام وخامة التأمل والفكر، وهي محور السؤال الفلسفي الأنطولوجي منذ أوائل الفكر المصري القديم في عقيدة أتون وآموم ورع وآتون وغنوصيات الهرمسية، هذا الفكر الذي انتقل بكل ما فيه من أسئلة وأجوبة مقترحة إلي صميم الفكر الإغريقي علي أيدي الرعيل الأول من الفلاسفة الطبيعيين الأوائل قبل سقراط الذين تعلموا في مصر وتتلمذوا علي حكمائها وكهنتها وعلمائها في جامعة "أون" عين شمس ومراكز العبادة والعلم في جنبات الوادي، فأخذ هذا العلم والفكر مكانه ومكانته في صميم الفكر العالمي منذ طاليس، وبين علماء الكيمياء والفلك والرياضيات والفيزياء حتي جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وعباقرة الرياضيات والفلك والفيزياء من الإسلاميين، إلي الذريين المعاصرين حتي الحفيد اللامع أحمد زويل، فالعناصر الأربعة هي التي دفعت إلي السؤال عن المبدأ الأول للوجود، وهل هو مبدأ أحادي واحد محدود أم متعدد، أم هو من مبادئ التصور والفكر بوصفه اللامحدود والنوس واللوغوس والنار الهيراقليطية الجدلية.. إلخ.
والعناصر الأربعة هي التي فجرت مفاهيم الوحدة والكثرة والثبات والتغير، فوضعت مفاهيم الزمان والآنات والديمومة والثورة الخلاقة، والعناصر الأربعة هي ما يتقطر في مشهديات الواقع والحلم والرؤيا فنا وعشقا ونضالا.
عندما يقدمك البعض يقول: إنه مجذوب من مجاذيب الشعر في بلادنا.. هل يسعدك هذا الوصف؟
في المواقف الحدية الكبري كالإيمان والعشق والموت والحرية ونضال القضايا الخاسرة، ومواجهة حياة الإبداع الخلاقة وتجربة الجمال والتصوف، يتمني من يخوضها ويكابدها أن تضربه شرارة الوجد والجذب، وأن يحسب بين المجاذيب، وفي مصر كوكبة من مجاذيب الشعر وعبيده، ويسعدني أن أكون واحدا منهم.
"شعري غامض لكن النقاد أكثر غموضا"، مقولة لك، ما تفسيرك لماهية الغموض في شعرك، وهل تري أن يصدر الشاعر مع ديوانه شرحا له، كما فعل د. يحيي الرخاوي مع ديوانه "البيت الزجاجي والثعبان" منذ نحو عشرين عاما؟
حينما أطرح أسئلة بعض النقاد علي شعري وأقرأ استفساراتهم وتحليلاتهم فإنني أشعر بغموضه وتعقده ولا مألوفيته، وكأن من كتب الشعر شخص آخر غيري، وحين أعود إلي تلقائية استسلامي للقول بطرائقه الخاصة وأخيلته وأنغامه، ينقشع عني غموض النقد وعشوائية أسئلته ومسلماته النظرية المسبقة المتحكمة، ويعود للشعر بهاؤه ووضوحه الخاص به، ولا بد من التفرقة العميقة والحاسمة بين سؤال الوضوح في العلوم المعيارية وسؤال الوضوح في الشعر، ففي العلوم المعيارية الرياضية توجد حتمية التطابق بين الدال والمدلول، ووصول الرسالة إلي المرسل إليه بغير زيادة أو نقصان، ولا بد من وجود التواطؤ المسبق وإجراءات التلقي المتفق عليها سلفا، فلا يختلف مرسل عن مرسل إليه حول رسالة القول، أما في الشعر والإبداع الفني عامة، فإنني ألجأ إلي لفظة "القصيدة" وما تومئ إليه من وجود الفراغ المعنوي واستقلالية "القاصد" بنواياه ودوافعه وطاقة الخلق عنده ليكون له "قصد" يجترحه بلا اتفاق مسبق، وبطرائق مفتوحة علي الاختيار والتفصيل ونزق المزاج ومفاجآت الأخيلة وانفجارات المكبوتات والأهواء ولذة التصوير ومتعة مضغ الحروف.. إلخ، وما دامت القصيدة قطعة منتزعة من "قصد" صاحبها، فإن علي قارئ الشعر أن يقصد ويستسلم ويمارس "القصد" ويصاحب القاصد بأسئلة تختلف جذريا عن أسئلة النقاد الذين يقصدون قصدا آخر، ويفتقرون لتواضع التذوق والاستسلام الفرح لنزوات "القاصدين"، وبالتالي فإنني لا أري أن يصدر الشاعر شرحا لديوانه إلا لأسباب تقارب أسباب محيي الدين بن عربي في شرحه لديوانه "ترجمان الأشواق" ولم يسعدني الحظ بقراءة شرح د. يحيي الرخاوي لديوانه لأعرف أسباب ودواعي هذا الشرح، وإن كنت أظن أن شرح الرخاوي إنما هو من أفاعيل "التعتعة" لما تمور به روح الرخاوي العاصفة بالقلق والتأمل وشهوات الإبداع ومتعة المشاغبة.
ويبقي في مسألة الغموض أن أتمني أن يحاول أحد النقاد أن يوسع من أفق رؤيته وثقافته الأدبية النظرية إلي حدود أفق آخر، أفق النظر إلي مفهوم الجلال في غموض الكون وما يبعثه من مفاهيم إشعاع الكائن وتشعيث الإحساس واختلاط نبض انبهار النفس بالاتساع وباللانهاية وبالنظام ودقة الموازين وذوبان حركة الكائنات كلها بفوضاها وعشوائياتها داخل منظومة كبري ليس فيها من خلل ولا فتور.. إن الجمال فادح القسوة ولكن الغموض الجليل باعث الرحمة ورابط الأواصر بين الأمومة والخلق، وبين نار البراكين وخضرة العشب، وبين فتنة ثوب العروس وأربطة كتان الأكفان، وبين الفرح المزلزل وشهقة البكاء علي صدر من نحب، وبين خروج الحي من ميت الرؤية والرؤيا.
إن جلال الغموض هو الضوء الوحيد الباقي للكشف وسبر الأغوار وتقدم الروح وقداسة الفن، وهو الدليل الوحيد علي أن القصيدة ليست محتوي رسالة يرسلها الشاعر، بل هي الشاعر ذاته بوصفه محتوي رسالة يرسلها الكون بغموض وجلال تفتحه إلي من يلقي السمع والبصر والبصيرة وهو شهيد.
في مقال للدكتور لويس عوض عنوانه "الشاعر العبوس" كتب: "محمد عفيفي مطر شاعر من شعراء الاغتراب أو الهجرة إلي داخل النفس أو إلي خارج الوطن.. أو هو كبير شعراء الاغتراب.." هل تتفق معه في هذا الوصف؟
في الانتقال من الكينونة الغُفل (الخام) والوجود الحيواني إلي مستوي الوعي ومكابدة الاختيار وإرادة الفعل والكف عنه، وجد الإنسان نفسه يتخبط في ليل دامس من السعي والقلق ومحاولة الخروج من الإحساس الشاق بالغربة والاغتراب، ووحشة الاغتراب هي القاسم المشترك بين جميع الأديان والعقائد، وهي المحركة للأفكار والثورات، وهي اللوعة الفادحة وراء الحضارات وفعالية الموت وتشكيل عقائد ما بعد الموت في الفكر الإنساني، وتختلف طرق الأفراد والجماعات في مواجهة الاغتراب والهروب من فداحة الحرية ورعب الاختيار وقلق الإرادة وخوف الأخذ والترك من بين الممكنات التي لا تحصي ولا تعد أمام الإنسان، وفكرة الاغتراب هي أقدم الأفكار وأحدثها في الوقت نفسه، ولها السيادة الكبري منذ قرئ التاريخ وحركة العقل وتطور الاقتصاد والسياسة والحراك الاجتماعي منذ أفلاطون وهيجل وكانط وكيركجورد وماركس وهيدجر وبرديائيف وياسبرز، وسارتر، وما أعمق وأجمل أن نقرأ المتصوفة والأعمال الجليلة لابن عربي والحلاج والسهروردي والنفري وابن الفارض وابن سبعين (متصوف أندلسي) من منظور مشقة الفقد ولوعة الاغتراب. لقد كان من وسائل فعالية الاغتراب والسقوط في التشيؤ أن ينخرط ويذوب الشعراء والمبدعون في كيانات عامة وتنظيمات غير شخصية وممارسات جماهيرية مفعمة بجبروت الولاء وغوغائية صخب التوجه في الفكرة أو الزعيم أو صناعة التاريخ والتحولات الكبري، ورغم أنني لم أكن معجبا بقدرة لويس عوض علي قراءة الشعر، فإنني أعتقد أن ملاحظته لم تكن مستقاة من تحليل الشعر وإنما من رصد الانتماءات والولاءات التي كانت مسيطرة في الستينيات وما بعدها، وإن لوعة اغترابي تكاد تسمع غلياناً في الدم واحتداماً في اللغة وحرقة في ملح الدموع.
في مقالة للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي عنك يقول: "في اعتقادي أن مطر ليس بالشاعر الذي ينتظر الوحي فينظم ما يوحي إليه كأنه مأمور مدفوع إلي أن يري ما يري ويكتب ما يكتب، إنه علي العكس شاعر يختار لنفسه ويتوج نفسه بيديه فيختار موضوعه كما يختار لغته، تعينه ثقافته وأسبابه المقطوعة مع الناس"..
كان العرب القدامي يعلون من شأن الفطرة والتلقائية والسليقة، ويعتزون بالأمية ويرون أن الشاعر الحق يستمد وحيه وإلهامه من كائنات ما ورائية هي الجن وشياطين الشعراء، ثم نشأت طائفة المحككين عبيد الشعر والقصائد الحولية التي يعمل الشاعر علي صقلها وتقويمها حولا كاملا قبل إذاعتها في الناس، ولعل صديقي حجازي يشير من بعيد إلي الطائفتين والطريقتين، وفي الحقيقة يمكن أن نعد طول العمر وتراكم التجربة والخبرة وتقلبات أحوال الدنيا والشعر والشعراء كفيلة كلها بممارسة الطريقتين.
ففي أول الصبا كنا نكتب جميعا بتلقائية الفرح الصبياني بسرعة الإنجاز وخلع قيود الحذر والاختيار والتحكيك، ومع اتساع الرؤية والمعرفة واكتساب الخبرة والعادات التعبيرية تزول خفة التلقائية ويُحرث الوعي ويُعرض الطبع علي محكات المراجعة والمقارنة، وأضيف إلي قول صديقي حجازي أن الأمر لا يخلو من صراع تغلبني فيه طلاقة التلقائية والإلهام الحر علي حنكة الاختبار وصلابة الإرادة، فإن فيض الصور وعرام الأخيلة لا يأتيان بالإرادة والقصد، وإنما بعمل دؤوب يقوم عليه الوعي واللاوعي زمناً طويلاً قبل التجرؤ علي الإمساك بالقلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.