الحكومة اليابانية تقدم منح دراسية للطلاب الذين يرغبون في استكمال دراستهم    «أنصفه على حساب الأجهزة».. الأنبا بولا يكشف علاقة الرئيس الراحل مبارك ب البابا شنودة    النائب شمس الدين: تجربة واعظات مصر تاريخية وتدرس عالميًّا وإقليميًّا    تراجع عيار 21 الآن.. سعر الذهب في مصر اليوم السبت 11 مايو 2024 (تحديث)    زيادات متدرجة في الإيجار.. تحرك جديد بشأن أزمة الإيجارات القديمة    الزراعة: زيادة الطاقة الاستيعابية للصوامع لأكثر من 5 ملايين طن قمح    «القومية للأنفاق» تعلن بدء اختبارات القطار الكهربائي السريع في ألمانيا    الإمارات تستنكر تصريحات نتنياهو بالدعوة لإنشاء إدارة مدنية لقطاع غزة    بلينكن يقدم تقريرا مثيرا للجدل.. هل ارتكبت إسرائيل جرائم حرب في غزة؟    يحيى السنوار حاضرا في جلسة تصويت الأمم المتحدة على عضوية فلسطين    مجلس الأمن يطالب بتحقيق فوري ومستقل في اكتشاف مقابر جماعية بمستشفيات غزة    سيف الجزيري: لاعبو الزمالك في كامل تركيزهم قبل مواجهة نهضة بركان    محمد بركات يشيد بمستوى أكرم توفيق مع الأهلي    نتائج اليوم الثاني من بطولة «CIB» العالمية للإسكواش المقامة بنادي بالم هيلز    الاتحاد يواصل السقوط بهزيمة مذلة أمام الاتفاق في الدوري السعودي    المواطنون في مصر يبحثون عن عطلة عيد الأضحى 2024.. هي فعلًا 9 أيام؟    بيان مهم من الأرصاد الجوية بشأن حالة الطقس اليوم: «أجلوا مشاويركم الغير ضرورية»    أسماء ضحايا حادث تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    إصابة 6 أشخاص إثر تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    مصرع شاب غرقًا في بحيرة وادي الريان بالفيوم    النيابة تأمر بضبط وإحضار عصام صاصا في واقعة قتل شاب بحادث تصادم بالجيزة    عمرو أديب: النور هيفضل يتقطع الفترة الجاية    حظك اليوم برج العقرب السبت 11-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    رسائل تهنئة عيد الأضحى مكتوبة 2024 للحبيب والصديق والمدير    حظك اليوم برج العذراء السبت 11-5-2024: «لا تهمل شريك حياتك»    بتوقيع عزيز الشافعي.. الجمهور يشيد بأغنية هوب هوب ل ساندي    النجم شاروخان يجهز لتصوير فيلمه الجديد في مصر    رد فعل غريب من ياسمين عبدالعزيز بعد نفي العوضي حقيقة عودتهما (فيديو)    هل يجوز للمرأة وضع المكياج عند خروجها من المنزل؟ أمين الفتوى بجيب    الإفتاء تكشف فضل عظيم لقراءة سورة الملك قبل النوم: أوصى بها النبي    لأول مرة.. المغرب يعوض سيدة ماليا بعد تضررها من لقاح فيروس كورونا    «آية» تتلقى 3 طعنات من طليقها في الشارع ب العمرانية (تفاصيل)    تفاصيل جلسة كولر والشناوي الساخنة ورفض حارس الأهلي طلب السويسري    مران الزمالك - تقسيمة بمشاركة جوميز ومساعده استعدادا لنهضة بركان    نيس يفوز على لوهافر في الدوري الفرنسي    على طريقة القذافي.. مندوب إسرائيل يمزق ميثاق الأمم المتحدة (فيديو)    حكومة لم تشكل وبرلمان لم ينعقد.. القصة الكاملة لحل البرلمان الكويتي    انخفاض أسعار الدواجن لأقل من 75 جنيها في هذا الموعد.. الشعبة تكشف التفاصيل (فيديو)    هشام إبراهيم لبرنامج الشاهد: تعداد سكان مصر زاد 8 ملايين نسمة أخر 5 سنوات فقط    الطيران المروحي الإسرائيلي يطلق النار بكثافة على المناطق الجنوبية الشرقية لغزة    الخارجية الأمريكية: إسرائيل لم تتعاون بشكل كامل مع جهود واشنطن لزيادة المساعدات في غزة    الجرعة الأخيرة.. دفن جثة شاب عُثر عليه داخل شقته بمنشأة القناطر    تراجع أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 11 مايو 2024    حلمي طولان: «حسام حسن لا يصلح لقيادة منتخب مصر.. في مدربين معندهمش مؤهلات» (فيديو)    طولان: محمد عبدالمنعم أفضل من وائل جمعة (فيديو)    رؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية: العدالة الكاملة القادرة على ضمان استعادة السلام الشامل    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    حج 2024.. "السياحة" تُحذر من الكيانات الوهمية والتأشيرات المخالفة - تفاصيل    وظائف جامعة أسوان 2024.. تعرف على آخر موعد للتقديم    جلطة المخ.. صعوبات النطق أهم الأعراض وهذه طرق العلاج    إدراج 4 مستشفيات بالقليوبية ضمن القائمة النموذجية على مستوى الجمهورية    زيارة ميدانية لطلبة «كلية الآداب» بجامعة القاهرة لمحطة الضبعة النووية    لتعزيز صحة القلب.. تعرف على فوائد تناول شاي الشعير    لماذا سمي التنمر بهذا الاسم؟.. داعية اسلامي يجيب «فيديو»    5 نصائح مهمة للمقبلين على أداء الحج.. يتحدث عنها المفتي    بالصور.. الشرقية تحتفي بذكرى الدكتور عبد الحليم محمود    نائب رئيس جامعة الزقازيق يشهد فعاليات المؤتمر الطلابي السنوي الثالثة    محافظة الأقصر يناقش مع وفد من الرعاية الصحية سير أعمال منظومة التأمين الصحي الشامل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحوار الأخير:
تخطيت السبعين خروجا علي تقاليد الموت في العائلة!
نشر في أخبار الأدب يوم 03 - 07 - 2010

»مطر« واحد من جيل الستينيات من الشعراء المصريين ولا يبرح قريته رملة الأنجب بمحافظة المنوفية منذ ولد عام 1935 وحتي الآن، ويرتبط عفيفي مطر بالأرض ارتباطًا وثيقًا لدرجة أن أشعاره لا تخلو من ذكر كل مفردات الأرض وارتباطها بالإنسان والكون، لكنه يضفر عالمه الصغير باطلاع وقراءات متعمقة في كل المجالات، فهو عاشق للفلسفة بحكم دراسته لها في جامعة عين شمس، بالإضافة إلي اطلاعه العميق علي الحضارة المصرية القديمة وكتب الدراسات والشعر العربي القديم والحديث والمعاصر.. كما أنه متذوق رفيع المستوي للفنون التشكيلية والموسيقي.. وقد عمل عفيفي مطر مدرسًا بوزارة التربية والتعليم في مقتبل حياته، ثم سافر إلي العراق فترة طويلة عاد بعدها إلي مصر متفرغًا للإبداع والمشاركة في الحياة الثقافية.. صدر له: رباعية الفرح، ومكابدة الصوت الأولي، وشهادة البكاء في زمن الضحك، والنهر يلبس الأقنعة، والاحتفال بالمومياء المتوحشة.. ثم كتابه للأطفال "مسامرات الأولاد كي لا يناموا"، وكتاب سيرته الذاتية الذي توقف أمامه النقاد كثيرًا لما يحمله من صدق ومعاناة وجمال أسلوب "أوائل زيارات الدهشة".
يقول: "من أنت.. وماذا يكتب البرق علي وجه القراءات!!
انتظر.. حجر يفتح بيتًا ودم تأخذه الرعدة
أهدابي عليها من رماد المطر الغامض
ثلج من يدي اساقط
لست بالقارئ: أغفو في كوابيس الكتابات
انتظر.. وأحمل علي كفك شمسًا للقراءة"
لو رجعنا إلي الوراء لتذكرنا قصيدتك الأولي "فردوس بائعة المانجو" عام 1957، كيف كانت بدايتك مع الشعر، وما حكاية فردوس؟
لم تكن هذه القصيدة أقدم أو أولي قصائدي، بل سبقتها سنوات من القصائد الأولي التي كانت تنضج ببطء وتكتمل مع الزمن، نشرت عددًا منها في مختلف الصحف والمجلات منذ عام 1954، وقد اخترت من هذا الركام القديم قصائد الديوان الأول الذي جعلت عنوانه: "من مجمرة البدايات" وكان للعجب من أواخر ما نشرت من دواوين. أما فردوس، فقد كانت بائعة سرِّيحةً للفواكه والمشروبات في القطارات التي تذهب بنا أو تعود من المدينة القريبة "منوف"، حيث كنا نتلقي تعليمنا في الصبا، وكانت آية من آيات الجمال الأخاذ والمرح المشاكس والجرأة غير المبتذلة، يتوهج وجهها الخمري المنمنم وبهاء الكحل وسنَّتها الذهبية وضفائرها الطويلة في هالة عجيبة من الفتنة وحنان الأخوات وحزن الجواري الكسيرات، وبعد أن انقطعت عن رؤيتها بحكم انتقالي إلي مكان بعيد لمدة طويلة، هالني أن أراها وقد انطفأت وتبدلت أحوالها وتهدل جسدها حتي غدت أطلالا وبقايا علي أعتاب شيخوخة مبكرة عاصفة، فكانت القصيدة.
أطلقت علي فترة العمر ما بين الستين والسبعين تعبير "دقاقة الرقاب" ماذا قصدت بهذا التعبير، وما شعورك عندما بلغت السبعين؟
هذا تعبير عربي قديم يومئ إلي أفاعيل الزمن في الأجساد والقلوب من ضعف وهزال وتكاثر علل وانقطاع أمل، وقد شغلني لأن أبي كان يكرر علي مسامعي أننا فرع من العائلة يموت رجاله في الثامنة والستين من العمر، وأيقنت أنني لن أفلت من هذا الحكم المقدور علينا، فأخذت أقرأ وأكتب وأتخبط بين الأفكار وتواريخ الصراعات العقلية والعقائدية والمذهبية، تطحنني رغبتي وعطشي المعرفي، وتهرسني ظروف حياتي فأشتعل وأتأجج بالإرادة وشجاعة المصاولة كي أكون جديرًا بعمر مبارك بالكدح مغسول بالعرق، وأعتبر أن بلوغي السبعين إنما هو نسيئة أو "بقشيش" مقدم لإنجاز بعض ما أتمني إنجازه، وأشعر بالشكر والامتنان لهذا البقشيش الجميل، راجيا أن أمتلئ بإرادة امتداده إلي الثمانين، ما دمت قادرًا علي خدمة نفسي وعدم الإثقال بالاعتماد علي أحد.. أي أحد.
معروف عنك أنك من الشخصيات التي يمكن أن نطلق عليها "الشخصيات القلقة والمتسائلة" هل أفادك القلق علي المستوي الإبداعي؟
أتحير كثيرًا في تأويل وتفسير ما أصاب الجن في مملكة سليمان وما ترمز إليه الحكاية، فأن يكونوا قد حذقوا كل حرفة وفن وحازوا كل معرفة وقدرة، فإن فضيحتهم المخزية المدوية قد كشفت جهلهم وغرورهم بموت الملك وسقوط جثته بفعل الأرض أو دابة الأرض التي أكلت منسأته، ولو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، رائحين غادين في أشق الكدح أمام جثة الملك الميت، وأقول: لو كانوا من أهل القلق والتساؤل وتلقائية الدهشة، لأنقذهم ذلك من ذل الطاعة المتعالمة ومهانة العلم المغرور، وإن تحليل مفهوم الدهشة، وهي الفعل الانفعالي العقلي العجيب الذي يؤسس للفلسفة والشعر والفن وسائر خطي البشرية علي معارج الخروج من الظلمات إلي النور، نور المعرفة والعلم والإبداع، ونور الشعور الكوني بالصدور من مطلق الإبداعي في "كن"، والعودة إلي مطلق الرحمة في نور التوكل الشجاع المناضل المليء بالقلق والشوق والأسئلة، وكل حياتي العقلية والروحية والإبداعية ليست إلا رَجْعَ الصدي لصخب هذا القلق الخلاق.
تكاد لا تخلو قصيدة من قصائدك من المطر والأرض، كيف تصف علاقتك بهما؟
وهل ينأي أو يبرأ كائن عن علاقة ما بالمطر والأرض؟ إنهما مادتا خلقه، ومدي تأمله، وأفق حركته ومجلي حلمه وخياله، ومثل أي مواطن فلاح وسليل فلاحين، كانت الأرض وكان المطر العجينة الأولي التي غرسنا فيها خطانا وأصابعنا من أول اللهو والحبو واللغو إلي فرح الكدح وفتنة الانتظار وبهجة الحصاد، ومن روائح العرق إلي روائح الأفران والأرغفة ولذائذ التمطق والتذوق لإبداعات أمهاتنا وعماتنا وخالاتنا من صوان وفطائر ومشوي ومكمور، ومن أول قيمة الملك والميراث إلي روح الانتماء وقيم العرض والشرف، إلي أعلي فوران العقل والروح بالعقيدة والحرية وكرامة الضمير حتي قيمة الشهادة والعودة الذائبة في كيانهما الجليل، ترابا من صميم الأرض وطينا من ذاكرة نفخ الروح.
لك مقولة شهيرة: "الشعر ملزم وليس ملتزما"، ماذا تقصد بذلك، وهل نجت في تطبيق ذلك علي نفسك؟
الشعر صيدٌ وقنيصةٌ ينصب الجميع أشراكهم وأحابيلهم لاصطياده وتطويعه وقهر عنفوان حريته وتلقائيته ورشاقة خضوعه لقوانين وجوده وحيويته المتفجرة من داخله، فالشاعر يقيم مصايد خياله وشباك فوضاه المحررة للكلمات من قواميس حياديتها، ويرهف حراب وأسنة أوزانه وإغراءات مجازاته واستعاراته وإشاراته الثقافية، ثم يقعد علي مرصده للصيد، والطغاة والسلاطين يقيمون مصايدهم بالترهيب والترغيب وفنون لعبهم بالغرائز والأطماع والمخاوف، لتكون القصيدة أَمة أو جارية أو ربيطة منادمة، والساسة ورجال الأحزاب والأيديولوجيات أكثر الخلق شراسة ودهاء في أساليب الصيد بالشعارات وأوهام البطولات الفارغة وعقد تيجان الشهرة وفتح أبواب الكسب والتقلب في نعيم التحقق أمام الشاعر وشعره. لقد قرأنا لعشرات من الشعراء الذين لم يكن الشعر ملزما لهم، بل كانوا ملتزمين بما ألزمتهم به أحزابهم وجماعاتهم وسلطاتهم، فملأوا الدنيا وشغلوا الناس، ولا يزال بعضهم يعيش علي ريع وعطايا التزاماتهم، فإذا مات منهم أحد أو طرد من جنة الالتزام سقط شعره ولحق به من انكشاف الهزال ما يزيحه إلي ليل النسيان وسخرية الأسئلة المتحررة من بطش الهمج المتسلطين، وكم من نجاري شعارات وحماسات غوغائية ضحلة تراصت وتمترست وراءهم صفوف الدعاة والمطبلين وزماري النقد الدعائي الموبوء، ولقد حاولت بكل طاقتي أن أطبق ذلك علي نفسي، فلم أشتغل عند شعري نافخ أبواق أو مدير دعاية وإعلان أو خبير تسويق، ولأنني لم أكن علي علاقة خضوع أو مسايرة أو تواطؤ مع أي جماعة من جماعات توظيف الشعر وتدجين الشاعر، ظللت بعيدا أحتمي بقدرتي علي الاستغناء وتكثيف وتركيز الكدح في خدمة السيد الوحيد الذي يلزمني ويملي علي طاعته: الشعر.
يقال إنك لا تخاف إلا من الشعور بالخوف، عفيفي مطر الذي قام شعره علي نقد الاستبداد والوقوف في وجه السلطة مهما كانت قوتها.. مم يخاف؟
"وارتعدت مفاصلي من خوف أن أخاف" سطر قديم لي، وقد تعدد هذا التعبير بطرق مختلفة علي مدار العمر، وبالأخص في تجربة التعرض للتعذيب وسلخ ظاهر كفيَّ بالكهرباء في لاظوغلي، وكنت في حال من الهلع المميت من أن يغلبني الخوف فأسقط أمام نفسي، وقد لجأت إلي ميكانيزمات دفاعية أذهلتني تلقائيتها وقوتها، وهي ميكانيزمات الإفلات بالتذكر وبالخيال من ظلمات الزنزانة وظلمات العصابة المعقودة علي عيني وظلمات النفوس المريضة التي تستمرئ تعذيب البشر، إلي عوالم الضوء ووهج الألوان في لوحات الفنانين الذين أحبهم وأستطيع تذكر تفاصيل دقائقها من أمثال هيرونيموس بوش وبروجل وجويا وفناني عصر النهضة والحوائط العبقرية في المعابد المصرية القديمة، وقد لمحت إلي بعض ذلك في ديواني: "احتفاليات المومياء المتوحشة".
لقد كانت تجربة الخوف من أقسي ما عاناه المثقف والمبدع خلال أكثر من نصف قرن، كانت الدقات علي الأبواب بعد العاشرة مساء بغير موعد مسبق لزيارة أحد كفيلة برعدة خوف تهز الجسد وترعش الركبتين وتزيح البصر وتجفف الريق، وكان المرء يستنفر أقصي طاقات المقاومة في نفسه ليغلب خوفه من السقوط في قبضة الخوف الحيواني أمام هول المجهول الذي يعرف بعض ملامحه وحكاياته، أما الآن وأنا علي حافة المجهول الأعظم، فإن أخوف ما أخافه أن أحتاج لمساعدة أحد أو أن اضطر لتجريب واختيار إنسانية أحد.
هذا علي المستوي الشخصي الفردي، أما علي مستوي الجماعة والوطن والأمة، فإن أشد ما يخيفني ويخلع قلبي ويرتعد له نومي وصحوي، هو أن أري اكتمال الهزيمة وتمام الركوع الذليل أما العدو.
إنني أعتقد أن تجربة شعبي وأمتي في الخوف تجربة لا مثيل لها، وهي لم تكتب ولا أظنها ستكتب في زماننا.
في ديوانك "رباعية الفرح" اخترت العناصر الأربعة، الماء والنار والتراب والهواء، فماذا تمثل لك هذه العناصر؟
هذه العناصر هي المعطي الأول لحواس الإنسان، وهي حياة الحي ومادة الإلهام وخامة التأمل والفكر، وهي محور السؤال الفلسفي الأنطولوجي منذ أوائل الفكر المصري القديم في عقيدة أتون وآموم ورع وآتون وغنوصيات الهرمسية، هذا الفكر الذي انتقل بكل ما فيه من أسئلة وأجوبة مقترحة إلي صميم الفكر الإغريقي علي أيدي الرعيل الأول من الفلاسفة الطبيعيين الأوائل قبل سقراط الذين تعلموا في مصر وتتلمذوا علي حكمائها وكهنتها وعلمائها في جامعة "أون" عين شمس ومراكز العبادة والعلم في جنبات الوادي، فأخذ هذا العلم والفكر مكانه ومكانته في صميم الفكر العالمي منذ طاليس، وبين علماء الكيمياء والفلك والرياضيات والفيزياء حتي جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وعباقرة الرياضيات والفلك والفيزياء من الإسلاميين، إلي الذريين المعاصرين حتي الحفيد اللامع أحمد زويل، فالعناصر الأربعة هي التي دفعت إلي السؤال عن المبدأ الأول للوجود، وهل هو مبدأ أحادي واحد محدود أم متعدد، أم هو من مبادئ التصور والفكر بوصفه اللامحدود والنوس واللوغوس والنار الهيراقليطية الجدلية.. إلخ.
والعناصر الأربعة هي التي فجرت مفاهيم الوحدة والكثرة والثبات والتغير، فوضعت مفاهيم الزمان والآنات والديمومة والثورة الخلاقة، والعناصر الأربعة هي ما يتقطر في مشهديات الواقع والحلم والرؤيا فنا وعشقا ونضالا.
عندما يقدمك البعض يقول: إنه مجذوب من مجاذيب الشعر في بلادنا.. هل يسعدك هذا الوصف؟
في المواقف الحدية الكبري كالإيمان والعشق والموت والحرية ونضال القضايا الخاسرة، ومواجهة حياة الإبداع الخلاقة وتجربة الجمال والتصوف، يتمني من يخوضها ويكابدها أن تضربه شرارة الوجد والجذب، وأن يحسب بين المجاذيب، وفي مصر كوكبة من مجاذيب الشعر وعبيده، ويسعدني أن أكون واحدا منهم.
"شعري غامض لكن النقاد أكثر غموضا"، مقولة لك، ما تفسيرك لماهية الغموض في شعرك، وهل تري أن يصدر الشاعر مع ديوانه شرحا له، كما فعل د. يحيي الرخاوي مع ديوانه "البيت الزجاجي والثعبان" منذ نحو عشرين عاما؟
حينما أطرح أسئلة بعض النقاد علي شعري وأقرأ استفساراتهم وتحليلاتهم فإنني أشعر بغموضه وتعقده ولا مألوفيته، وكأن من كتب الشعر شخص آخر غيري، وحين أعود إلي تلقائية استسلامي للقول بطرائقه الخاصة وأخيلته وأنغامه، ينقشع عني غموض النقد وعشوائية أسئلته ومسلماته النظرية المسبقة المتحكمة، ويعود للشعر بهاؤه ووضوحه الخاص به، ولا بد من التفرقة العميقة والحاسمة بين سؤال الوضوح في العلوم المعيارية وسؤال الوضوح في الشعر، ففي العلوم المعيارية الرياضية توجد حتمية التطابق بين الدال والمدلول، ووصول الرسالة إلي المرسل إليه بغير زيادة أو نقصان، ولا بد من وجود التواطؤ المسبق وإجراءات التلقي المتفق عليها سلفا، فلا يختلف مرسل عن مرسل إليه حول رسالة القول، أما في الشعر والإبداع الفني عامة، فإنني ألجأ إلي لفظة "القصيدة" وما تومئ إليه من وجود الفراغ المعنوي واستقلالية "القاصد" بنواياه ودوافعه وطاقة الخلق عنده ليكون له "قصد" يجترحه بلا اتفاق مسبق، وبطرائق مفتوحة علي الاختيار والتفصيل ونزق المزاج ومفاجآت الأخيلة وانفجارات المكبوتات والأهواء ولذة التصوير ومتعة مضغ الحروف.. إلخ، وما دامت القصيدة قطعة منتزعة من "قصد" صاحبها، فإن علي قارئ الشعر أن يقصد ويستسلم ويمارس "القصد" ويصاحب القاصد بأسئلة تختلف جذريا عن أسئلة النقاد الذين يقصدون قصدا آخر، ويفتقرون لتواضع التذوق والاستسلام الفرح لنزوات "القاصدين"، وبالتالي فإنني لا أري أن يصدر الشاعر شرحا لديوانه إلا لأسباب تقارب أسباب محيي الدين بن عربي في شرحه لديوانه "ترجمان الأشواق" ولم يسعدني الحظ بقراءة شرح د. يحيي الرخاوي لديوانه لأعرف أسباب ودواعي هذا الشرح، وإن كنت أظن أن شرح الرخاوي إنما هو من أفاعيل "التعتعة" لما تمور به روح الرخاوي العاصفة بالقلق والتأمل وشهوات الإبداع ومتعة المشاغبة.
ويبقي في مسألة الغموض أن أتمني أن يحاول أحد النقاد أن يوسع من أفق رؤيته وثقافته الأدبية النظرية إلي حدود أفق آخر، أفق النظر إلي مفهوم الجلال في غموض الكون وما يبعثه من مفاهيم إشعاع الكائن وتشعيث الإحساس واختلاط نبض انبهار النفس بالاتساع وباللانهاية وبالنظام ودقة الموازين وذوبان حركة الكائنات كلها بفوضاها وعشوائياتها داخل منظومة كبري ليس فيها من خلل ولا فتور.. إن الجمال فادح القسوة ولكن الغموض الجليل باعث الرحمة ورابط الأواصر بين الأمومة والخلق، وبين نار البراكين وخضرة العشب، وبين فتنة ثوب العروس وأربطة كتان الأكفان، وبين الفرح المزلزل وشهقة البكاء علي صدر من نحب، وبين خروج الحي من ميت الرؤية والرؤيا.
إن جلال الغموض هو الضوء الوحيد الباقي للكشف وسبر الأغوار وتقدم الروح وقداسة الفن، وهو الدليل الوحيد علي أن القصيدة ليست محتوي رسالة يرسلها الشاعر، بل هي الشاعر ذاته بوصفه محتوي رسالة يرسلها الكون بغموض وجلال تفتحه إلي من يلقي السمع والبصر والبصيرة وهو شهيد.
في مقال للدكتور لويس عوض عنوانه "الشاعر العبوس" كتب: "محمد عفيفي مطر شاعر من شعراء الاغتراب أو الهجرة إلي داخل النفس أو إلي خارج الوطن.. أو هو كبير شعراء الاغتراب.." هل تتفق معه في هذا الوصف؟
في الانتقال من الكينونة الغُفل (الخام) والوجود الحيواني إلي مستوي الوعي ومكابدة الاختيار وإرادة الفعل والكف عنه، وجد الإنسان نفسه يتخبط في ليل دامس من السعي والقلق ومحاولة الخروج من الإحساس الشاق بالغربة والاغتراب، ووحشة الاغتراب هي القاسم المشترك بين جميع الأديان والعقائد، وهي المحركة للأفكار والثورات، وهي اللوعة الفادحة وراء الحضارات وفعالية الموت وتشكيل عقائد ما بعد الموت في الفكر الإنساني، وتختلف طرق الأفراد والجماعات في مواجهة الاغتراب والهروب من فداحة الحرية ورعب الاختيار وقلق الإرادة وخوف الأخذ والترك من بين الممكنات التي لا تحصي ولا تعد أمام الإنسان، وفكرة الاغتراب هي أقدم الأفكار وأحدثها في الوقت نفسه، ولها السيادة الكبري منذ قرئ التاريخ وحركة العقل وتطور الاقتصاد والسياسة والحراك الاجتماعي منذ أفلاطون وهيجل وكانط وكيركجورد وماركس وهيدجر وبرديائيف وياسبرز، وسارتر، وما أعمق وأجمل أن نقرأ المتصوفة والأعمال الجليلة لابن عربي والحلاج والسهروردي والنفري وابن الفارض وابن سبعين (متصوف أندلسي) من منظور مشقة الفقد ولوعة الاغتراب. لقد كان من وسائل فعالية الاغتراب والسقوط في التشيؤ أن ينخرط ويذوب الشعراء والمبدعون في كيانات عامة وتنظيمات غير شخصية وممارسات جماهيرية مفعمة بجبروت الولاء وغوغائية صخب التوجه في الفكرة أو الزعيم أو صناعة التاريخ والتحولات الكبري، ورغم أنني لم أكن معجبا بقدرة لويس عوض علي قراءة الشعر، فإنني أعتقد أن ملاحظته لم تكن مستقاة من تحليل الشعر وإنما من رصد الانتماءات والولاءات التي كانت مسيطرة في الستينيات وما بعدها، وإن لوعة اغترابي تكاد تسمع غلياناً في الدم واحتداماً في اللغة وحرقة في ملح الدموع.
في مقالة للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي عنك يقول: "في اعتقادي أن مطر ليس بالشاعر الذي ينتظر الوحي فينظم ما يوحي إليه كأنه مأمور مدفوع إلي أن يري ما يري ويكتب ما يكتب، إنه علي العكس شاعر يختار لنفسه ويتوج نفسه بيديه فيختار موضوعه كما يختار لغته، تعينه ثقافته وأسبابه المقطوعة مع الناس"..
كان العرب القدامي يعلون من شأن الفطرة والتلقائية والسليقة، ويعتزون بالأمية ويرون أن الشاعر الحق يستمد وحيه وإلهامه من كائنات ما ورائية هي الجن وشياطين الشعراء، ثم نشأت طائفة المحككين عبيد الشعر والقصائد الحولية التي يعمل الشاعر علي صقلها وتقويمها حولا كاملا قبل إذاعتها في الناس، ولعل صديقي حجازي يشير من بعيد إلي الطائفتين والطريقتين، وفي الحقيقة يمكن أن نعد طول العمر وتراكم التجربة والخبرة وتقلبات أحوال الدنيا والشعر والشعراء كفيلة كلها بممارسة الطريقتين.
ففي أول الصبا كنا نكتب جميعا بتلقائية الفرح الصبياني بسرعة الإنجاز وخلع قيود الحذر والاختيار والتحكيك، ومع اتساع الرؤية والمعرفة واكتساب الخبرة والعادات التعبيرية تزول خفة التلقائية ويُحرث الوعي ويُعرض الطبع علي محكات المراجعة والمقارنة، وأضيف إلي قول صديقي حجازي أن الأمر لا يخلو من صراع تغلبني فيه طلاقة التلقائية والإلهام الحر علي حنكة الاختبار وصلابة الإرادة، فإن فيض الصور وعرام الأخيلة لا يأتيان بالإرادة والقصد، وإنما بعمل دؤوب يقوم عليه الوعي واللاوعي زمناً طويلاً قبل التجرؤ علي الإمساك بالقلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.