غيب الموت الشاعر المصري الكبير محمد عفيفي مطر مساء يوم الاثنين الموافق 28 يونيو 2010 عن عمر يناهز 75 عامًا، علي إثر غيبوبة استمرت أسبوعين، وبعد أن تمكن المرض منه، حيث كان يعاني من تليف كامل في الكبد. وتمني مطر كما يذكر المقربون منه أن يموت دون ألم، وكان يقول دائمًا «أنا لا أخشي الموت، ولكن أخشي الألم»، ولإحساسه بدنو أجله اشتري قطعة أرض بقريته بني عليها مقبرة ليدفن فيها. يعتبر عفيفي مطر أحد أهم شعراء جيل الستينات الأدبي علي مستوي الوطن العربي، وعلي رأس طائفة الشعراء المجددين في القصيدة العربية، وقد عاني الكثير طوال رحلة حياته بسبب آرائه ومواقفه السياسية الصلبة والواضحة وضوح الشمس في عز الظهيرة، والتي دفع ثمنها غاليًا سنوات من عمره قضاها خارج حدود الوطن في منفاه الاختياري في السودان ثم في بغداد أثناء فترة حكم السادات، ولكنه ظل صلبًا عنيدًا لم يبع مبادئه، ولم يراهن عليها، ولم يتقرب لسلطة ولم يتزلف لصاحب جاه، وكان رهانه الوحيد علي القصيدة التي أخلص لها وأعطاها جل عمره ووقته، فلم تبخل عليه هي الأخري، وأعطته سرها وباحت له بمكنونها فصارت عشيقته ومعشوقته، ورهن يديه يطوعها كيفما يشاء، ويبث فيها من روحه وعنفوانه وثقافته الموسوعية، وفلسفته في الحياة، لذا جاءت قصيدة «مطرية»- إن جاز لنا أن نسميها- لا تتشابه مع قصائد أخري، ولا تستنسخ ولا تقلد بل هي عصية ومتمردة علي ما عداها وكأنها ماركة مسجلة. لحظة الميلاد ولد عفيفي مطر في رملة الأنجب بمحافظة المنوفية عام 1935، وعن ميلاده يقول عفيفي مطر في بورتريه نشرته له مجلة الثقافة الجديدة، في يوليو عام 2000 ضمن الملف الذي أعده الشاعر ماهر حسن للمجلة بعنوان: (محمد عفيفي مطر.. تجربة طويلة عكس الجهات الأربع) «قالت لي أمي إنها ولدتني في الحقول.. ذهبت لتملأ جرتها من الترعة البعيدة «النعناعية» ففاجأها طلق المخاض وهي تغمس الجرة في الماء، فدخلت بين أعواد الذرة، ودون مساعدة من أحد، أخرجتني إلي الدنيا، ووضعتني في حجرها وعادت بي مسرعة، وعلي ساقيها كما قالت تنحدر خيوط الدم، تحت شمس الصيف «القادح» ولعلي من يومها أحمل لحظة الميلاد وشما جسديًا وروحيًا لا يزول..» هكذا كانت لحظة الميلاد كما رواها عفيفي نفسه، أما عن فترة التكوين الأولي له يقول عنها الشاعر محمود قرني «رحلة مطر الطويلة التي شقت عليه وشق عليها تنفلت من بين أصابع مسقط رأسه رملة الأنجب في بيت طيني واطيء ولأسرة متوسطة تتولي «العمودية» في الريف المصري للوهلة الأولي، تنفلت الرحلة بشقتها إلي مدرسة المعلمين العليا، ثم إلي العمل بالتدريس في محافظة كفر الشيخ، ثم مجلة سنابل التي قادت الطليعة الإبداعية في نهاية التعاسة الستينية، ثم إلي دراسة الفلسفة والتعلم علي أساطينها وأربابها في جامعة عين شمس، ثم الرحيل إلي السودان هربًا من أتون المطاردة الساداتية ومنها إلي بغداد وحيث المتنبي والكرفي وحيكزر والسياب، وحيث عفيفي مطر يعلك الشعر في خطوات هي الأكثر مرارة كما يذكرها، وبين هاتيك العواصم تتوزع الدماء السوداء الذي أهدرها حجام جاهل وحكام قساة، وأزمنة تهتكت فيها أستار الحلم، وانفتحت فيها أبواب الخزي علي مصاريعها كان ثمة أشياء تتخلق خلف عفيفي مطر المهاجر الآبق، كان حيث لا يدركه هنا وهناك، في قلب الجامعة وفي المنتديات، وفي أسواق الكتب وأسواق السكاري، بين ثنيات الأوراق الشابة، السبعينية وبين جيعات ستينية تجأر- علي البعد- بالخوف والهلع من مجرد التذكر- إنه عفيفي مطر طوق الشعر ومطوقه، المارد المجند لخدمة الكلام، والشبح الطالع من برية الوحشة وصدود الأوطان». نقلات نوعية وطوال هذه الرحلة استطاع عفيفي مطر أن يصدر عددًا كبيرًا من الدواوين الشعرية، وكل ديوان من دواوينه كان يمثل نقلة نوعية ومعرفية مختلفة في مسيرته الشعرية الممتدة من ستينات القرن الماضي وحتي لحظتنا الحاضرة، وكما يقول عفيفي نفسه عن بداياته الأولي في نفس البورتريه: «انتظمت حركة الدائرة الأولي في: مجمرة البدايات، الجوع والقمر، من دفتر الصمت، يتحدث الطمي- وهي الدواوين التي تشكل بطاقة تعريف أولي بنفسي وأهلي وظروف ولادتي الشعرية بين الأرض والنهر ومسميات الحواس الخمس ومعطيات التعرف المباشر علي معاني الوجود- في- عالمي، وتأسيس ملامح ماهيتي وهويتي عند افتتاح القول، وهي التي ستنضح وتترشح منها وتمتد أنساغاً وعروقاً لا فكاك منها طوال حياتي، تنقيبًا ونقصًا وعودًا علي بدء، إلحاحًا واكتشافًا وتوسيعًا لرقعة الرؤية والتأمل ومحاولات الإعلاء الدائبة إلي آفاق المعني «نشرت الدواوين المذكورة كغيرها من الدواوين نشرًا عشوائيا حسب مقتضيات الحصار والحذف والمطاردة والمتاح من فرص النشر خارج مصر، والديوان الأول لم ينشر إلا في سنة 1994 بعد ما يقارب الأربعين عامًا من كتابته». هكذا كانت بداية نشر عفيفي مطر لدواوينه التي توالت في الصدور بعد ذلك، لتأتي علي النحو التالي: (فاصلة إيقاعات النمل، رباعية الفرح، أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت، النهر يلبس الأقنعة، ملامح من الوجه الأمبيذوقليسي، احتفالية المومياء المتوحشة، شهادة البكاء في زمن الضحك، كتاب الأرض والدم، رسوم علي قشرة الليل.. الخ) ونشرت هذه الدواوين في: مصر، وبغداد، ودمشق، ولندن. هلاوس ليلية ولم يكتف عفيفي بكتابة الشعر فقط بل كتب أيضًا للناشئة قصصًا غاية في الروعة، نشرها في كتاب أسماه «مسامرات الأطفال كي يناموا» كما كتب جانبًا من سيرته الذاتية في كتاب «أوائل زيارات الدهشة» نشرته له دار الشروق، وعن نفس الدار صدرت أعماله الشعرية الكاملة في ثلاثة أجزاء عام 2000، بعد أن أدارت له المؤسسات الثقافية الحكومية ظهرها. ولما حدثت حرب الخليج في بداية التسعينات كان مطر من أشد المعارضين لها، لذا اعتقلته السلطات المصرية عام 1991 نتيجة معارضته السياسة المصرية في موقفها من الحرب علي العراق التي استهدفت إخراج الجيش العراقي من الكويت، وسجل مطر تجربة الاعتقال في عدة قصائد أشهرها «هلاوس ليلة ظمأ» وكان من نتاجها ديوان «احتفاليات المومياء المتوحشة» عام 1992. يقول عنه الشاعر الفلسطيني المتوكل طه: لقد استطاع محمد عفيفي مطر- هذا الشاعر المنسي أو المغيب- أن يقدم صيغة مبدعة لعلاقة الشاعر/المثقف بالسلطة وإفرازاتها وهيمنتها وما تضعه حولها من نخب تتبني وتردد أطروحاتها، خالقة بذلك «ظلامًا» كثيفًا يمنع الرؤيا ويقتل الرؤية ويغتال البصرة والحياة، إن مفردة «الظلام» التي يستعملها الشاعر محمد عفيفي مطر هي من أكثر المفردات تكرارًا في دواوينه، الظلام الذي يعيشه الشاعر ليس فقط في زنزانته التي يسميها «جحيمًا» وإنما في لحظته المعيشة وفي تاريخه. إن ما يعانيه ويكابده الشاعر جعله يري الأشياء من جديد ويقرأ التاريخ بعيون وروح جديدة، أو لنقل، بنظرية جديدة هي نظرية «الخوف من الخوف»، وما بين «الظلام» و«الخوف» يكون الموت، وفي هذه الكآبة، والقتامة تلد قصيدة الشاعر محمد عفيفي مطر، قصيدة تضج بالألم والفزع والكوابيس والرؤي المقتولة والأماني المغدورة ووجوه الأحبة الموتي والمدن التي تسكنها الأشباح كما أنها قصيدة مركبة تستند إلي الأسطورة التي يعيد إنتاجها بلغة حداثية فلسفية، تؤكد أن صاحبها شاعر رجل يستحق الاحترام.ظل عفيفي مطر يكتب قصيدته دون انتظار لشيء، غير إيمانه بما يكتبه وتجويده والعكوف عليه، ليصبح مغايرًا للسائد والمطروح علي الساحة الثقافية العربية وقد كان له ما أمن به ليصبح له بصمة خاصة، وقصيدة متفردة. جاءت جائزة الدولة التشجيعية لعفيفي مطر عام 1989 متأخرة، وكان يستحقها قبل ذلك بسنوات، وبعد حصوله علي التشجيعية بعشر سنوات كاملة يأتي التكريم له من خارج مصر، وعلي وجه التحديد من الإمارات العربية، بحصوله علي جائزة سلطان العويس الأدبية في الشعر عام 1999، ولأن مصر لا تضن علي أبنائها الشرفاء، وإن كانت تغض الطرف عنهم بعض الوقت، لكنها لا تنساهم أبدًا، لذا جاءت جائزة الدولة التقديرية في الشعر عام 2006 تتويجًا لمسيرته الشعرية العطرة. التي يقول عنها الشاعر حلمي سالم: (حقق عفيفي مطر موقعًا مميزًا علي الخريطة الشعرية المصرية والعربية، باعتباره واحدًا من رواد التجريب والتجديد في القصيدة العربية المعاصرة، إن نظرة فاحصة لشعر مطر تنفي نفيًا قاطعًا الصفة الشريرة التي ألصقها به نقاد كثيرون: «الانعزال عن هموم الناس، والاستغراق في غموض متعال علي آلام الجموع ففي الوقت الذي كانت قصائد كثير من الشعراء غارقة في هموم الذات المفرطة كان مطر يقول: «أبي ضم فضله العباءة علي منكبيه الهزيلين فاهتز تابوت قلبي ونادي: خذ السمسم المر، هذا رغيف الشعير تبلغ به لقمة لقمة كي تذق الدماء التي شربتها السنابل تذوق به طعم لحمي الذي كان يشويه صهد النهار المخاتل تبلغ به واحذر الأرض دنياك دنيا الرأي والفجاءة». ثقافات متنوعة وإن كان عفيفي مطر ظلم نقديًا بسبب اتهامه بالغموض، وانفضاض النقاد عن تجربته الشعرية التي تستحق العكوف عليها بجدية ونفض التراب من فوق وجهها ليظهر معدنها اللامع البراق، الذي يشبه الذهب في لمعانه وأصالته، اختار النقاد السهل وأبوا عدم السباحة في بحور عفيفي مطر المغرقة، فأشعاره مستقاة من ثقافات متنوعة، فكما يقول هو عنها: «في حركة الدائرة الأولي كانت القراءات المتسعة تجعلني أشعر بالانتماء لعائلة الكلام الجميل وأنتسب لمجامعها المتلاطمة انتساب صاحب الحق في الجدل والتأثر والمشاغبة، في لوامع تتشظي هنا وهناك من التراث المصري القديم والثقافة الإغريقية والتراث العربي ومدارس الجدل والتفلسف والتصوف الإسلامية، علي أرضية ومهاد شاسع من التراث الشعبي من خرافات ومواويل وملاحم، فدخلت في معمعة التأويل وإعادة القراءة لكل ما أعرف في ظل سؤال باطش غلاب حول السلطة، التي ازدادت فداحة كراهيتي لها ولشخوصها وتقليدها وممارساتها، لا في زمن محدد، بل منذ الملوك الآلهة حتي عسكري المرور «أبوشلن» ومن قتلة سقراط وهيباتيا حتي قتلة سيد قطب، ومن صلف التعصب القومي والعنصرية، عند أرسطو، ووحشية السيناتور الروماني ومحاكم التفتيش ووحوش فرسان الصليب حتي مجازر عصبة الأمم والأمم المتحدة، ومن الدم النازل السيال من صفحات التوراة حتي مجزرة الخامس من يونية.. إلخ، كان السؤال الباطش المتوحش، وكل إجاباته تتحول إلي أسئلة أشد هولا، يحرمني الهدوء والنوم، ويشوش علي القصائد ويدفعني من صراخ مباشر فج إلي فظاظة السخرية الكئيبة إلي اليأس المقهور من كل ما أري وأسمع إلي نزوع انتحاري في الصدام، وكانت تجليات هذه المكابدة القاسية في الدواوين الأربعة: ملامح من الوجه الأمبيذوقليسي، ورسوم علي قشرة الليل، كتاب الأرض والدم، شهادة البكاء في زمن الضحك». ويقول الشاعر الراحل د.وليد منير في شهادته عن عفيفي مطر: «قصيدة محمد عفيفي مطر قصيدة نادرة العافية والعنفوان، تتدفق كالنهر أو كالشلال، وتصر كالريح العنيفة، وتفور كالبركان، وهي تتميز بالغرابة أكثر مما تتميز بالغموض، والغرابة نوع من السحر، من كسر التوقع، من الكشف عن مجهول، ومن تحريك الرمز في اتجاه أكثر تأثيرًا مما تعودنا عليه. أنا الخطي وفي دمي الطريق أنا الذي تزرعه الكتابة في الريح أو تطرحه في القشر منطفئًا وساقطًا في نفسه، وضاربًا جبهته في الصخر كي يفتح المجهول في مملكة الأشياء الحائط المقام دون وجهه والقبر. لعل الفلاح المصري الخالد وسر الكتابة الهيروغليفية التي تسكن روح الشاعر، وأشياء أخري ليس أقلها وهج الرغبة أو فج الموت، خريطة ذاكرة درامية يدور ماؤها دورانا دائبًا ليسقي جذور الكلام والشهود، أيضًا بمعناه الصوفي العميق، كان- دومًا- قادرًا في شعر عفيفي مطر أن يجعل من كل التعارضات والتباينات الكثيرة مشهدًا واحدًا نابعًا من بؤرة كلية صغيرة هي الأنا: أسندت رأسي مثلاً بالشعر والقدرة أغفيت.. أعضائي هي الأرض الوسيعة والخليفة قبضة من طينتي والناس أبنائي الطمي هو الواقع الحي المتحرك الذي تبدأ منه أسطورة الخلق عند مطر، والطمي هو الحقل والنيل والآنية والخصاب والوشم والجسد، هذه هي الحروف الأولي للغة اشتعال الشعر في لا وعي الشاعر». طقسية الألفة والغرابة وأما الشاعر جمال القصاص، فيقول عنه: «مطر محرض عظيم في شعره، وهو شاعر متمرد من الطراز الأول، يكره لعبة الحياد حيال ما يري، وما يحس، وما يتصور، وما يعتقد، تنفتح قصائده بتلقائية شديدة علي الأشياء والعناصر، وكأنها تقطير لجذرية الحياة والوجود: «شمس الدمع طالعة، وفي فوديك نافذة العصافير الأسيرة، صمتك الدهري خبز في انتظار الآكلين، خطاك نقش دائم التجوال في لحم الكتابة، أنت تغتصب الهيولي زوجة وتردها مكتوبة في مصحف الأرض البراح، وأنت في ظلماتها شبح يضيء نوافر الجسد المكدس بالفصول، يضيء تحت دوائر الثديين أجران السنابل والمواويل المليئة بالخيول الخضر يفتح في عشقها وطنًا ومملكة لأبناء السبيل». منذ البداية أدهشتني طقسية الألفة والغرابة في شعر مطر، وفانتازيا الخيال الخصب، الملحق، النزق، المشرب بروح ريفية، مشوبة بطيئة الأساطير والخرافة الشعبية. ويقول الشاعر صالح اللقاني: «إن الأكوان الشعرية التي صاغها لنا محمد عفيفي مطر تمثل منجزًا فريدًا في شعرنا العربي سوف يظل ساحة للدرس والاستلهام، وإن الدين الذي يدين له به الشعر العربي عامة وجيل السبعينات خاصة لهو دين كبير، فهو واحد من آباء الحداثة المؤسسين الذين تحرر الخيال الشعري علي أيديهم الذين دفعوا بلغة الشعر إلي مواطن لم تبلغها الحساسية الشعرية من قبل». ويقول عفيفي مطر عن الموت في ختام شهادته المذكورة سلفًا: «وهل تتحقق في الموت روعة الخلاص من رؤية الوقاحة وادعاءات الأذلاء المهانين وغرور وبرطعة المهزومين السعداء!! اعترف ملء القلب والروح من أنس أنيس بالحيوات والأغنام وتربية النحل وملاعبة التكوينات الغامضة لموسيقي وصور القصيدة وحكايات الأولاد ومشاكسات حفيدي أروي وأحمد، وأرتوي بحنان ابنتي ناهد ورحمة، وأتأمل ساخرًا وضاحكًا من محاولات ابني لؤي وهو يحاول إعادة تربيتي وتأهيلي لشرف الانتساب إليه. في تلويحة الوداع أقول: حياتي مغسولة بعرقي، ولقمتي من عصارة كدحي وكريم استحقاقي، لم أغلق بابًا في وجه أحد، ولم أختطف شيئًا من يد أحد، ولم أكن عونًا علي كذب أو ظلم أو فساد.. اللهم فاشهد..