تبدو الصحافة الورقية فى وضعية شديدة الخطورة من حيث وجودها وتأثيرها وفى علاقاتها بالتغيرات الرقمية ال فائقة التطور، وأثرها على المهنة الصحفية، ومؤسساتها، ونوعية تكوين الصحفيين على نحو مغاير لما ألفناه تاريخيًا لمفهوم الصحفى وقواعد وتقاليد ومعايير المهنة ذاتها، وفى علاقتها بالأسواق السياسية والاجتماعية واللغوية والثقافية.. إلخ. إن مفهوم مهنة البحث عن الحقيقة فى السياسة والاجتماع والحياة، يتغير بشدة لصالح ما بعد الحقيقة. تغيرات زلزالية فى عمق المهنة أدت إلى نقاشات واسعة حولها ومستقبلها وكيفية إعادة تكيفها فى إطار الرقمنة والعالم المتحول على نحو ما حاولت ولا تزال كبرى الصحف العالمية فى الولاياتالمتحدة، وأوروبا واليابان والهند التى تمكن بعضها من التكيف النسبى مع هذه المتغيرات الجديدة فائقة التطور على المستويات المهنية، ونوعية الصحفيين وأساليب التحرير، وذلك من خلال دراسة التغيرات الرقمية، والطلب عليها، وتحليل اهتمامات الشرائح الجيلية والاجتماعية لقراء الصحف، وكيفية التعامل مع الطلب القرائى الجديد والمتغير، خاصة فى ظل تراجع اهتمام المراهقين والشباب بقراءة الصحف والمجلات الورقية، حيث ذهبت دراسة أجرتها جامعة سان دييغو بولاية كاليفورنيا الأمريكية ونشرت نتائجها صحيفة الديلى ميل أن 2% فقط من المراهقين -الفئة العمرية 15/16 سنة - يقرأون جريدة بالمقارنة مع 33% أواخر عقد التسعينيات. ونقلت الديلى ميل عن دين توينغ رئيس فريق الباحثين أن المراهقين فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين يقضون وقتًا أطول على الإنترنت ووقتًا أقل مع وسائط تقليدية مثل الكتب والمجلات أو مشاهدة برنامج على التليفزيون ( مجلة فكر الثقافة 22/8/2018). مؤشرات تحول نوعية تمس الكتابة والصحافة بل والأنساق اللغوية، وأساليب التفكير والكتابة، فى مراحل تحول كبري. فى ظل هذه السياسات الانتقالية نحو الثورة الصناعية الرابعة، تبدو عوالم الخوف والقلق من أوضاع الحاضر، وإزاء التغيرات المستقبلية. فى هذا السياق يبدو هجوم بعض السياسيين كترامب على الصحافة غير مألوف ويتسم بالحدة والعنف، ويحرض على الصحفيين فى تغريداته على مواقع التواصل الاجتماعي، ويصفهم بأوصاف تتسم بالعنف والقسوة، وذلك على الرغم من الدور البارز للصحفيين والصحف الورقية والرقمية فى مجال الكشف عن الحقائق، وفى مجال حريات الرأى والتعبير، والتوازن السياسي، وتصحيح بعض السلوك السياسى لسلطات الدولة وأجهزتها. عديد المشكلات المالية والاقتصادية والمهنية التى تواجه الصحافة فى الدول الأكثر تطورًا، فى ظل حريات عامة راسخة وتقاليد تاريخية داعمة لحرية الصحافة والصحفيين. ثمة محاولات ضارية وناجحة للتكيف مع هذه التغيرات الكبري، والمزاوجة بين الورقى والرقمي. فى ظل تطوير للمحتوى الصحفي، ومواكبة التغير فى الاتجاهات والاهتمامات والمطالب وأذواق الجماعات القرائية. التطوير وإعادة الهيكلة والتكيف سمة رئيسية لتجارب بعض الصحف الغربية الكبري، بينما الصحافة الورقية والمهنة وتقاليدها المختلفة والجماعة والمؤسسات الصحفية المصرية، لا تبدى الأهمية الواجبة إزاء العلل والأمراض السياسية التى أدت إلى الوضع البالغ الحرج للمهنة ومستقبلها، وعلى رأسها القيود والضوابط السياسية على حريات الرأى والتعبير، ومن القطاعات المحافظة والجماعات الدينية على اختلافها إزاء حريات الإبداع، ومطاردة بعضهم الآراء والروايات والقصائد....إلخ. لاشك أن هذه البيئة الاجتماعية والسياسية أثرت سلبيا على السياسات التحريرية للصحف القومية والخاصة، فى ظل غياب لدراسات موضوعية ومسوح حول السوق الصحفى ومشكلاته والشرائح الجيلية والاجتماعية التى تشكل الجماعات القرائية، ومن ثم تراجع اهتمام الأجيال الشابة عقب التغيرات التى تمت عقب 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013، ورحيلهم إلى الواقع الافتراضى ومواقع التواصل الاجتماعي. عدم الاهتمام الحكومى والنقابى بمشكلات الصحافة والمؤسسات القومية أدى إلى تفاقم الوعى والإدراك العميق بأن المهنة فى خطر داهم، مع تفاقم المشكلات الصحفية، وعلى رأسها الأزمات المالية والاقتصادية، وارتفاع معدلات مديونية المؤسسات القومية للمصارف، وعدم القدرة على الوفاء بالالتزامات القصيرة الأجل، وتزايد الاعتماد على الخزانة العامة، وزيادة الالتزامات المتداولة بمعدلات تزيد على نسب الزيادة فى الأصول الثابتة، وضعف الإيرادات من أنشطة هذه المؤسسات، وزيادة الالتزامات المتداولة، وارتفاع حجم المديونية للجهات المختلفة فى الدولة لتصل إلى 17.6 مليار جنيه - وفق الخبير الاقتصادى عبد الفتاح الجبالي- ، فى ظل تضخم مفرط فى العمالة وبعضها غير كفء والتى وصلت إلى 30 ألفا ما بين صحفى وإدارى وعامل. من ناحية أخرى تبدو ظواهر الإدارة عدم التوازن المالي، والخلل فى نوعية الجماعة الصحفية، والعمالة غير المؤهلة الموروثة من عقود صحافة التعبئة والتسلطية السياسية. من ناحية أخرى تخلف الصحف خبريًا عن مواقع التواصل الاجتماعي، وعدم الاهتمام بالأجيال الجديدة واهتماماتها، وغياب للتغيرات الكونية وفى الإقليم من الناحية التحليلية، والتركيز على الواقع المحلي، وهو ما يعود إلى خلل السياسات التحريرية، وعدم التخصص وغياب التدريب والتأهيل، ناهيك عن غياب دراسات تطبيقية حول قارئ الصحف الورقية والرقمية ومطالبه. إنها مهنة فى وضع بالغ الخطر، وتحتاج إلى مؤتمر مهنى ووطنى لمواجهة تحدى الوجود والحضور وأثره الخطير على الحريات العامة والتفكير والإبداع والتعبير ومستقبل التطور الحضارى والسياسى لمصر. لمزيد من مقالات ◀ نبيل عبد الفتاح