تواجه الصحافة العربية الورقية لحظة تاريخية بالغة الحرج من حيث نوعية التحديات الموروثة، والمتغيرة التى باتت تمس شروط وجودها ومستقبل حياتها الوظيفية والمهنية على نحو غير مسبوق، ولعل من أبرز المؤشرات على ذلك توقف صحيفة عربية بارزة هى السفير عن الصدور، والطبعة اللبنانية والمصرية الورقية لصحيفة الحياة، وإجراءات إعادة هيكلتها، بكل انعكاسات ذلك على الجماعة الصحفية داخلها. إن نظرة على المخاطر التى تواجه الصحافة الورقية فى ظل عالم وثورة الرقميات، تبدو فى بروز أشكال جديدة من الصحافة الرقمية، لابد أن تستصحب فى فهم وتحليل المأزق التاريخى الراهن حول جذور المشكلة فى منطقة المشرق العربي، وتحديدا فى مصر ولبنان. إن نظرة على منابت المشكلات التاريخية للصحافة الورقية العربية تشير إلى عديد الأسباب، وعلى رأسها ما يلي: - خضوع تنظيم الصحافة إلى طبيعة النظام السياسى السائد فى كل بلد عربي، والذى تشكل عبر ثلاثة نماذج أساسية أولها: النظم الشمولية والتسلطية التى تم تأسيسها عقب بعض الانقلابات والثورات فى المنطقة العربية، وكانت الصحافة إحدى أدوات الهيمنة الأيديولوجية والسياسية للصفوة الحاكمة على الجماهير، ومعها الإذاعة والقناة التلفازية، وكانت جزءا من علامات بناء الدولة الوطنية، ومن ثم لم تكن الصحيفة الورقية سوى أداة من أدوات السلطة، وتعبيرًا عن سياساتها وأهدافها فى السيطرة على الجمهور. فى النظم الملكية والأميرية والمشيخية، كانت الصحيفة، والإذاعة، والعلم، والدبابة والطائرة، والشرطي، إحدى علامات وملامح الدولة، ومن ثم كانت جزءًا من تأكيد هوية الدولة والحكم وشرعية حضورها فى الإقليم، من هنا كانت تعبيرًا عن سياسات هذه الدول الداخلية والخارجية ومن ثم افتقرت نسبيًا إلى المهنية الكاملة وغالبًا حريات الرأى والتعبير. وانفردت التجربة الصحفية اللبنانية بمساحات من المهنية وحرية التعبير كنتاج للتوازنات الطائفية، وتأثر النظام وحساسيته للتوازنات الإقليمية، ومن ثم استفادت التجارب الصحفية من بعض الهوامش المتاحة، واستقطبت عديدا من الأقلام العربية البارزة، وكانت تعبيرًا عن اتجاهات الفكر والعمل السياسى فى المنطقة من اليسار إلى اليمين، واعتمد بعضها على بعض من الدعم الإقليمي. الصحافة الورقية منذ دولة الاستقلال فى عديد الحالات فى المنطقة ظلت معاقة إلى حد كبير بالعديد من المعيقات الهيكلية التى أثرت على تطورها المهني، واتساع قواعد الجماعات القرائية التى تستهلك هذه الصحف، ويأتى على رأس هذه الأسباب ما يلى: - القيود القانونية والإدارية المفروضة على إصدار تراخيص الصحف. - القيود السياسية والأمنية على حريات الرأى والتعبير. - الاعتماد على النظام فى تمويل الصحف الحكومية فى النظم الشمولية والتسلطية. - سيادة المعايير اللا مهنية فى اختيار أعضاء الجماعة الصحفية، وغياب أنظمة للتأهيل وإعادة التكوين للصحفيين على نحو أدى إلى تضخم العمالة الصحفية والإدارية بما يفوق احتياجات الصحيفة القومية كما فى الحالة المصرية. - تراكم مديونيات الصحف القومية والحكومية - فى المثال المصري- للمصارف، وبعض الوزارات الخدمية (التأمينات الاجتماعية، الكهرباء، والاتصالات ... إلخ). - قلة قاعدة مستهلكى الصحف الورقية فى لبنان وعديد البلدان العربية، وتآكل مستمر فى أعداد القراء فى مصر. ثانيًا: الثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعى وأثرها على الصحف الورقية: - أدى ظهور وسائل التواصل الاجتماعى ومواقعها على الواقع الافتراضى إلى التأثير السلبى على الصحف الورقية من حيث استقطابها كتلا جيلية وعمرية شابة انسحبت من الواقع الفعلى إلى الواقع الافتراضى لاسيما بعد ميراث من عدم المصداقية وسَّم غالب الصحف الورقية، ووهن تأثيرها فى التغيير والإصلاح السياسى والاجتماعي، وثمة بعض من الاستثناءات فى هذا الصدد. - أزمة تمويلية كبرى، نظرا لتحول وكالات الإعلان الحكومية والخاصة إلى الإعلام المرئى المتلفز، وإلى وسائل الاتصال الاجتماعي. - ظهور أشكال جديدة للمواطن الصحفى الذى يقدم الخبر وقت حدوثه وبثه على مواقع التواصل. - الصحافة الاستقصائية على المواقع الصحفية الافتراضية. - عدم قدرة بعض الصحف والصحفيين على التكيف مع الواقع الافتراضى وضعف أداء بوابات بعض الصحف الحكومية الرقمية. الأسباب سالفة السرد وغيرها أدت إلى تراجع استهلاك الجماعات القرائية للصحف الورقية التى أصبحت مثقلة بعديد القيود، وتبدو غير قادرة على التكيف والإصلاح الهيكلي، ولا يجد بعضها سبيلاً إلا التوقف عن الإصدار أو عن إعطاء العاملين أجورهم، أو استبعاد جزء من العمالة الصحفية والإدارية مجموعة تلو الأخرى. الصحافة العربية فى إقليم النفط تحولت إلى صحف محلية، ولا تزال تخضع بعضها فى تمويلها على الحكومات أو بعض كبار الأثرياء ورجال الأعمال، وتعتمد على الوكالات الإعلانية التى تعمل على السوق الاستهلاكية الخليجية. من ناحية أخرى تقلصت فرص العمل المتاحة أمام الصحفيين داخل بلدانهم أو فى المنطقة العربية، ومن ثم أصبحت المهنة والصحافة الورقية أمام مأزق تاريخى بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ودلالة، من هنا تبرز أسئلة المستقبل أمام أهل المهنة وصناع الرأى من الكتاب والمفكرين والمثقفين، من حيث تحديد الأسباب الرئيسة وراء هذه الأزمة! ما هو أثر التسلطية والشعبوية السياسية والاضطراب الإقليمى، وراء تزايد الضغوط على الصحافة الورقية والصحفيين، وأثر ذلك على تراجع تأثيرها على قطاعات واسعة من الرأى العام، لصالح تنامى قوة ونفوذ مواقع التواصل الاجتماعى. (للحديث بقية) لمزيد من مقالات ◀ نبيل عبدالفتاح