حالة الكتابة في مصر ليست على ما يرام، من حيث النوعية في كل الأجناس الأدبية، ثمة ما يشبه الطوفان السردي، في الرواية تحديدًا، وليت الأمر قصرًا فقط على الأدب، إنما يمتد إلى الكتابة الصحفية وأنماطها من المقال إلى التحقيق إلى الحوار والتعليق، إنها تعاني من أمراض تبدو كأنها عضال، حيث تختفي الحرفية، والمهارات المهنية، والخبرة، ناهيك بالموهبة الكتابية وتألقها اللامع وغيابها فيما يكتب، إلا قليلا. ثمة ضعف في المستويات اللغوية ومجازاتها وتوظيفاتها في النصوص الصحفية، يعود إلى نقص في المحصول اللغوي، الذي يعود إلى قلة القراءة العميقة فى الأدب العربي والعالمي، بل وفي معرفة جذور الموضوعات التي يتناولها بعض الكتاب، أو في اللغة المتخصصة ومصطلحاتها ومفاهيمها التي تجعل من الكتابة ذات قوام لغوي، وبنية واضحة المعالم في تناول موضوع المقال أو التحقيق أو التعليق الصحفي. طوفان من اللغة الركيكة، والرداءة اللغوية والأسلوبية المفرطة التي تجعل القارئ يجفل من عملية القراءة ذاتها، وهو ما أدى -ضمن أسباب أخرى- إلى تراجع نسب توزيع الصحف المصرية الكبرى إلى معدلات مقلقة، بل مخيفة. هذا النمط من الرداءة الأسلوبية المفرطة يعود إلى عديد الأسباب، وعلى رأسها ما يلي: 1- ضعف مستويات التكوين والتأهيل اللغوي لعديد من الصحفيين والكتاب، وعدم اهتمام المؤسسات الصحفية بإعداد برامج لإعادة التأهيل اللغوي والأسلوبي للصحفيين الشباب أو من هم في منتصف العمر كجزء من برامج أوسع للتأهيل وإعادة التكوين المهني، مع الأخذ في الاعتبار نوعية الجماعات القرائية من الأجيال الجديدة من الشباب، واهتماماتها وقدراتها اللغوية في ظل ضعف مستويات التعليم للغة العربية في المدارس والجامعات. 2- تراجع في مستويات التكوين الثقافي والأدبي لعديدين داخل الجماعة الصحفية، وغيرهم من كتاب المقالات من خارجها، لأن الاطلاع على الأجناس السردية يساعد على تكوين المحصول اللغوي للصحفي والكاتب، ويفتح آفاقا متعددة في الرؤى والأسلوب للكاتب، ويسهم في تعميق تناوله لموضوعاته أيًّا كان مجالها، لا سيما في ظل استصحابه لتقنيات اللغة المتخصصة في الموضوع، حتى لا يتحول المقال أو التحقيق أو التعليق إلى محض ثرثرة لغوية رديئة وبعيدة عن الجوانب الفنية والعلمية للموضوع الذي يتناوله. 3- عدم التخصص الوظيفي في المهنة الصحفية، في مجالاتها المتعددة على نحو يؤدي إلى ظهور التخصص في التحقيق أو المقابلة أو كتابة المقال، وفي داخل مجال التخصص على نحو يظهر معه الصحفي الكفء والقادر على تناول القضايا المعقدة في مجال تخصصه، والقدرة على العرض والتحليل والاستنتاج، وإظهار المسكوت عنه، وتقديم المعلومات الأساسية التي تنير وعي القارئ من خلال العرض الواضح، والأسلوب السلس والمباشر. إن نظرة على الصحف البريطانية أو الفرنسية أو الأمريكية تشير إلى تخصص الصحفي في الاقتصاد، والجوانب المالية، وفي الشركات... إلخ. في الآداب، وفي النقد السينمائي.. إلخ. من هنا برز واشتهر في الحياة الصحفية والإعلامية شخصيات وأقلام لامعة من مثيل الصحفي المالي والمتخصص في التكنولوجيا الرقمية، في السرد الروائي والقصصي، أو في الشعر والسينما، والزراعة، والصناعة، أو في بعض هذه التخصصات من خلال تحقيقاته المرموقة والمهنية على نحو جعل الإنتاج الصحفي في كل تخصص مؤثرًا على اتجاهات الرأي العام، بل وعلى صناع القرارات في هذه المجالات، في ظل حريات واسعة للرأي والتعبير. 4- الميراث التاريخي السلبي للقيود على حريات الرأي والتعبير أدت إلى كبح حرية الكاتب والصحفي في التعبير وتحرير أسلوبه من الضغوط السياسية والأمنية والرقابية من داخل الصحف أو من خارجها، وهو ما أثر سلبًا على الإنتاج الصحفي في المقال السياسي والاجتماعي والثقافي، وعلى مستويات التحقيق أو التعليق الصحفي في الحالة الصحفية المصرية. 5- تراجع المدارس الصحفية التاريخية، التي سادت الحياة الصحفية في المرحلة شبه الليبرالية 23-1952 وما بعدها في ظل ثورة يوليو 1952. كانت هناك ثلاث مدارس كبرى في ظل نظام يوليو، مدرسة "روزاليوسف"، ومدرسة "أخبار اليوم"، ومدرسة "الأهرام"، اتسمت المدرسة الأولى باللغة الصحفية الحية والتطور الأسلوبي وجماليات اللغة المباشرة، والنزعة الأدبية، والاهتمام بفن الكاريكاتير الذي شكل مدرسة متميزة في إبداع الكاريكاتير الساخر النابض بالحياة والحيوية والحركية، والذي يفجر الضحكات الساخرة من أنماط السلوك الاجتماعي اليومي، أو السياسي أو البيروقراطي لحجازي، ورؤوف عياد وآخرين من كبار رسامي الكاريكاتير من مؤسسي هذه المدرسة وأبنائها البارزين. مدرسة أخبار اليوم تميزت باللغة المباشرة، والاهتمام بالخبر، والصورة، والتعليقات السريعة والمختزلة، الأهرام شكل تاريخيا المدرسة الصحفية الرصينة في كتابة المقال، وفي التحقيقات والتعليقات الصحفية. منذ عهد الرئيس الأسبق أنور السادات تراجع الأهرام لأسباب سياسية على الرغم من تماسكه في الحد الأدنى من مستوى كتابة المقال والتحقيقات على الرغم من فرض بعض الكتاب سياسيا، واستبعاد آخرين من الكتابة، وهي ظاهرة وسمت هذه المرحلة، حتى ذهب الأستاذ كامل زهيري إلى القول ساخرًا إن هناك في الصحف "صحفيين يكتبون، وصحفيين يقرؤون لهم"، للتعبير عن أن بعضا من كبار الصحفيين والكتاب ممنوعون من الكتابة، وآخرون موالون للحكم يكتبون ما يسمح فقط بالكتابة. لا شك أن هذه المدارس الصحفية تراجعت كثيرًا مع التغيرات الجيلية في الوسط الصحفي داخل هذه المؤسسات/ التي كانت تشكل مدارس صحفية، فضلا عن ظهور الإعلام المرئي من خلال الفضائيات والبرامج الحوارية، ثم وسائل التواصل الاجتماعي التي أثرت سلبًا فى الصحافة المكتوبة عمومًا، وعلى المدارس الصحفية الثلاث التي تراجعت كثيرًا، ومعها سماتها الخاصة، وأساليبها المتميزة في الكتابة والتحرير الصحفي. المشهد الصحفي والكتابي ينطوي في ثناياه على عديد من السلبيات في مجال الكتابة والتحرير الصحفي، إلا أن ذلك لا يحول دون ظهور بعض الكفاءات والمواهب في مجال التحقيق، لا سيما في التحقيقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على محدودية هذه الأعمال، إلا أن المشهد العام يشير إلى تراجع في المستويات الكتابية، وإلى غياب التخصص في الشئون الدولية والعربية والإقليمية عمومًا، وفي المجالات الإفريقية وفي الشئون الآسيوية على أهمية التطورات الكبرى التي تجري في الصين، والهند وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وماليزيا، وإندونيسيا، وثمة ضعف في التخصص في شئون هذه الدول والمجتمعات الآسيوية الناهضة، وفي ثقافاتها وآدابها، والأمر يشمل أيضًا شئون أمريكا اللاتينية، وهو أمر بالغ الخطورة والسلبية في اهتمامات الصحف المصرية، والتي تعتمد فقط على متابعة موجزة لبعض الأحداث أو الأزمات المهمة من منظور اهتمامات السياسة الأمريكية أو الأوروبية مع بعض هذه الدول من مثيل العلاقة الأمريكية والأوروبية مع ترسانة السلاح الكورية الشمالية، وأثرها فى أمن كوريا الشمالية، واليابان، والعالم، أو الحرب الاقتصادية بين الولاياتالمتحدةوالصين. ثمة غياب لثقافات آسيا المتعددة، وأوضاعها الاجتماعية وتجاربها في النهوض التنموي والاقتصادي والتكنولوجي، وما الذي يمكن لنا استيعابه والانتفاع به من هذه التجارب الكبرى في التنمية. ما سبق محضُ أمثلة فقط على بعض اللغو المفرط في نمط الكتابة السائدة، وعلى الغياب الكسول عن عالم مختلف يحتاج إلى اليقظة الكتابية المتخصصة والرصينة في ظل أوضاعنا الحرجة والتي تحتاج إلى نمط من الكتابة اليقظة والواعية التي تلهث وراء عالم جديد يتشكل بسرعة بعيدًا عنا. وا أسفاه!