اللغة هى أحد أبرز الكائنات الحية التى تعتمد فى حياتها ونموها وتطورها على حركية وإبداع الأفراد والجماعات والشعوب التى تفكر وتتحدث وتكتب بها، وعلى مستويات التطور الثقافى والتقنى والاقتصادى والاجتماعى والرمزي. اللغة هى أحد مرايا الإخفاقات والتدهور والتخلف التاريخى - الاقتصادى والاجتماعى والسياسى - والثقافى والأدبى وفى كل العلوم، والذى يظهر فى تقلص المفردات وعدم نموها، وركاكة الأساليب اللغوية، واللغو المفرط المحمول على الإنشائية فى التعبير، وعدم الانضباط فى توظيف المفردات الدقيقة، والمحددة المعاني. تبدو اللغة فى أوج تطورها فى رقى الأنظمة الأسلوبية، وعمق الأبنية والأنسجة السردية فى الآداب وانضباط ودقة المفردات والمعانى المستخدمة، وحركية الإبداع الأسلوبى من خلال المجازات الاستعارية، وفى إبداع المصطلحات والتعبيرات، وثراء المفردات القادرة على استيعاب الترجمات من اللغات الكبرى الحية، ومن قدرات وكفاءات اللغويين الكبار فى استيعاب وتوطين عديد من المفردات والمصطلحات من اللغات الحية الكبرى المهيمنة على السوق اللغوية الكونية، وهو ما يبدو جليًا فى استقبال اللغة الفرنسية كل سنة أحدى اللغات الكبرى فى عالمنا مئات المفردات المستعارة من اللغة الإنجليزية المهيمنة على السوق اللغوية الكونية ودمجها فى الفرنسية المكتوبة، وذلك دون وجلّ، أو خوف على استمرارية وحيوية وإبداع الفرنسية سردًا وكتابة واتصالاً بين الناطقين والكاتبين بها. إن البحث فى العوالم اللغوية وفضاءاتها، مثل البحث فى الجوانب الصحية للإنسان، وربما يتجاوزه، لأن التطور فى العلوم الطبية، والطبيعية بل والإنسانية، هو رهن بالتطور فى اللغة وعلومها والتقنيات العلمية أيضًا. ومن هنا سعى بعض أساطين اللغة الفرنسية على سبيل المثال للدعوة إلى تحرير وتبسيط الأبنية النحوية والصرفية، كى تستطيع أن تواكب حركية وتمدد وهيمنة الإنجليزية، ثم الإسبانية فى السوق اللغوية الكونية. هذا المسعى المحمود من كبار اللغويين الفرنسيين، هو تعبير عن الشغف بهذه اللغة الجميلة التى أنتجت عقول بعض من كبار بناة العالم فى الآداب روائيين وشعراء وقصاصين عظام- وفلاسفة وعلماء اجتماع ... إلخ. سعى لغوى واعٍ أن اللغة هى العالم، وإدراكه وحضوره فى التاريخ، وحياة الفرد والجماعة والأمة. إن نظرة على تعليم اللغة العربية الجميلة، تشير إلى تدهور شديد، مثل بعض اللغات الأخرى التى ينتابها التراجع والضمور إزاء اللغات الكبرى الحية، وهو ما يعود إلى عديد الأسباب وعلى رأسها ما يلي: - عدم تطور اللغة كنتاج للتراجع فى البناء الاجتماعى وعلاقاته، والتدهور فى استخدامات اللغة المكتوبة الفصحى العربية ، وفى اللغة المحكية التى تسيطر فى الاتصال الشفاهي، بل وتتجلى فى لغة الكتابة. - سيطرة المفردات والنصوص القديمة فى العملية التعليمية، مع جمود البنية النحوية والصرفية وتعقيدها فى المواد المقررة، والتركيز على أولوية الحفظ على الفهم لا الممارسة الكتابية والشفاهية من ناحية أخري، جمود وتعقيد المناهج ومقرراتها فى اللغة وأدبياتها على نحو ما يظهر فى بعض المقررات فى التعليم العام، على نحو يؤدى إلى حالة من الصد إزاء اللغة، على عكس ما كان يتم فى الماضي، إذا قارنا ما يدرس الآن فى المدارس الثانوية وما كان يدرس فى الماضي، عندما كان يدرس كتاب «المنتخب من أدب العرب المؤلفون أحمد الإسكندري، وأحمد أمين، وعلى الجارم، وعبد العزيز البشري، وأحمد ضيف» وهناك طبعة شارك فيها طه حسين. فى هذا العمل تبدو دقة الاختيارات، والذوق الأدبى الرفيع، ومراعاة المراحل العمرية للطلاب فى المرحلة الثانوية، وهو عمل ندر أن تم تدريس مثيل له بعد ذلك. ظل تعليم اللغة العربية منذ عقد الستينيات من القرن الماضى أسير اختيارات البيروقراطية التعليمية، وفرض مفتشى عموم اللغة العربية لبعض أشعارهم أو اختياراتهم للنصوص الشعرية أو النثرية، أو دروسهم النحوية على نحو أسهم ضمن عوامل أخري- فى تراجع مستوى تدريس اللغة العربية فى العملية التعليمية، وظهرت نتائجه السلبية فى خريجى المدارس ناهيك عن الجامعات، وتدريس المواد فى كليات العلوم الاجتماعية باللغة المحكية المخلطة بالعربية الفصحي، مما أسهم فى تدهورها العام. - طغيان اللغة العامية فى وسائل الإعلام المرئية، وعلى وسائط التواصل الاجتماعى الفيس بوك، وتويتر وانستجرام وفى عديد من السرديات الروائية والقصصية، وفى غير توظيفاتها الفنية التى تسوغها فى الأنسجة السردية، وعلى نحو يشكل نمط، من لغو العامية المفرطة فى سرديات رديئة. -محدودية الانفتاح على الأنساق اللغوية الكبرى فى عالمنا، والانفتاح على مصادر الحركية داخلها، وفى إنتاجها الثرى فى أجناسها الأدبية وسردياتها، المفردات الجديدة، وتجدد الآلات الاصطلاحية فى مجال العلوم الاجتماعية، والسعى إلى ترجمة بعضها، ودمج بعضها الآخر فى اللغة العربية أسوة بما يتم فى الفرنسية وغيرها من اللغات الكبرى عن الإنجليزية. لمزيد من مقالات ◀ نبيل عبد الفتاح