سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
فى موسم الرحمة.. مشاهد البر تتصدر مناسك الحج هذا العام.. أبناء يسيرون بوالديهم نحو الجنة بين المشاعر المقدسة.. كراسى متحركة وسواعد حانية.. برّ لا يعرف التعب وأبناء يترجمون معنى الوفاء فى أعظم رحلة إيمانية
في كل عام، يجتمع المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها في المشاعر المقدسة لأداء مناسك الحج، هذه الرحلة الإيمانية التي تُجسد أسمى معاني التضرع والتجرد لله. ورغم أن مشهد الحجيج وهم يطوفون ويسعون ويدعون هو الصورة الأبرز، إلا أن تفاصيل إنسانية عميقة تُرسم في الزوايا بهدوء، وتخطف القلوب قبل العدسات. من بين تلك المشاهد، يبرز مشهد الأبناء وهم يبرّون بوالديهم، يساعدونهم، يساندونهم، ويقودونهم في أروقة المشاعر وكأنهم يعيدون إليهم جميل السنين الماضية. بعيون ملؤها الحنان وقلوب تنبض بالعطاء، ترى أبناءً يدفعون آباءهم على كراسٍ متحركة في الطواف والسعي، وآخرين يمسكون بأيدي أمهاتهم ويتقدمون بهم برفق وسط الحشود. بعضهم يمد ذراعه سندًا، وبعضهم يحمل أدوية والديه في حقيبة خاصة، وآخرون يتوقفون كل بضع خطوات ليرشوا الماء البارد على وجوه ذويهم اتقاءً للحر، في مشهد بديع تتجلى فيه أسمى صور الرحمة والبر. وفي كل ركن من المشاعر، تجد قصة، وتسمع حكاية، شاب جاء من أقصى الصعيد ليحج مع والدته، ترك عمله وأسرته لأسابيع فقط ليحقق لها حلمًا طال انتظاره، وآخر دفع ما جمعه في عام كامل ليكون رفيقًا لوالده المقعد في رحلة العمر. ليست مجرد مواقف عابرة، بل تجسيد حي لمعاني البر والإحسان، تعبير صادق عن امتنان عميق، ورد جميل حان أوانه. اللافت في هذه المشاهد أن الأبناء لا يؤدون واجبًا ثقيلًا، بل يمارسون البر بمحبة، بفرح، برغبة صادقة، على وجوههم يظهر الرضا، وفي أعينهم تتلألأ دموع الفخر. ربما كانوا يرون أن أعظم نسك لهم هو في دفع الكرسي المتحرك، أو في الوقوف ساعات تحت الشمس لأجل راحة والديهم. بعضهم لا يطوف إلا بعد أن يطمئن أن أمه قد أكملت سعيها، وآخر لا يأكل إلا بعد أن يطعم والده بيده، وكأنهم فهموا أن الحج الحقيقي ليس فقط في المناسك، بل في الرحمة والوفاء. وفي زحام المشاعر، يتردد بين الحجاج صوت دعاء قديم لكنه متجدد في معناه: "رب ارحمهما كما ربياني صغيرا"، هذا الدعاء الذي يتجاوز الكلمات ليترجم في أفعال، فالحج ليس فقط عبادة بالجسد، بل هو عبادة بالقلب والخلق والسلوك.، وفي موسم كهذا، تظهر القيم وتُختبر المبادئ، ويبدو واضحًا من اختار أن يكون بارًا بصدق، لا رياءً ولا عادة، بل إيمانًا ومحبة. القصص لا تُحصى، والمواقف لا تُعد، لكن القاسم المشترك بينها جميعًا هو البر، بر لا يتوقف عند باب المنزل، ولا يُؤجل حتى العودة، بل يُمارَس في كل لحظة من لحظات هذا الموسم الجليل. وكلما تعمقت في تلك التفاصيل الصغيرة، ازددت يقينًا بأن الحج لا يصنع الذكرى فحسب، بل يعيد ترتيب الأولويات في قلب الإنسان. المشاعر المقدسة لم تكن فقط مسرحًا لمناسك التعبد، بل منصة إنسانية واسعة ارتفعت فيها قيم البر والإحسان فوق كل شيء. لم يكن المشهد مقتصرًا على أبناء من دول معينة، بل مشتركًا بين الجميع، عربيًا كان أو آسيويًا، شابًا أو كهلًا، كانت لغة البر واحدة وإن اختلفت اللهجات، وكانت ملامح العطاء واضحة وإن تباينت الجنسيات. هذه اللوحة الإنسانية التي تُرسم كل عام في الحج تترك أثرها في النفوس قبل الصور، وتعلم كل من يشاهدها أن البر لا يُؤجل، وأن الجنة قد تكون في خطوة نُقدِّمها نحو راحة والدينا، أو في دعاء نردده ونحن نسندهم في طريق مزدحم، أو في ابتسامة نرسمها على وجوههم المتعبة. الحج ليس فقط تلبية نداء إبراهيم، بل هو تلبية نداء الفطرة، نداء الرحمة، نداء البر.