الأخبار السارة تأتي دائمًا من بعيد..    أبٌ مؤسّس أم زعيم مُخلص؟    سد العجز في المعلمين 2025.. ضوابط العمل بنظام الحصة ومكافآت المستعان بهم    بعد استبعادها من القائمة الوطنية.. أمين مستقبل وطن بسوهاج تقدم استقالتها "مستند"    ننشر أسماء مرشحي انتخابات النواب 2025 بالفيوم بعد غلق باب الترشح    "الوطنية للانتخابات": ترشح 417 على المقاعد الفردية في اليوم الأخير لتقديم الأوراق بانتخابات مجلس النواب    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الكبير.. أسعار الذهب اليوم بالصاغة وخبير يكشف الموعد المناسب للبيع والشراء    "بعد تكريمه من المحافظ".. عامل نظافة يحصل علي ماجيستير بالقانون ويترشح لانتخابات النواب في البحيرة (صور)    أسعار الموز والتفاح والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 16 أكتوبر 2025    أخبار 24 ساعة.. الحكومة: المساعدات الإنسانية المرسلة لغزة حوالى 600 ألف طن    مساعد وزير قطاع الأعمال: خطة طموحة لإحياء الشركات المتوقفة واستثمارات ب180 مليار جنيه    وزير الطيران المدنى يشيد بجهود العاملين فى إنجاح قمة شرم الشيخ للسلام    وزير الإسكان: فتح باب التظلمات للعاملين المنتقلين إلى العاصمة الإدارية الجديدة    الولايات المتحدة تخطط لتشكيل قوة دولية لإرساء الاستقرار في غزة    استراتيجية مصرية شاملة لفلسطين والمنطقة    سفير تركيا: قمة شرم الشيخ للسلام شكّلت نقطة تحول تاريخية لمصر والمنطقة والعالم    الجيش الإسرائيلي يعلن استلام جثتي رهينتين من الصليب الأحمر    جنرال أمريكي: صواريخ "توماهوك" الأوكرانية قد تستهدف مصنع الصواريخ في كوريا الشمالية    عمرو موسى: الضفة الغربية أمام خطر كبير.. ونتنياهو لا يفهم السلام    الطريق الدموي إلى «نوبل»    أوسكار يجتمع مع حكام تقنية الفيديو بعد عودته من تشيلي    أحمد الجندي: هدفي ذهبية أولمبياد لوس أنجلوس.. وظروف طارئة منعتني من التواجد بقائمة أسامة أبوزيد في نادي الشمس    شوقي غريب يرشح 6 لاعبين من منتخب الشباب ل حسام حسن    مالية كفر الزيات يستضيف طنطا في افتتاح الجولة التاسعة بدوري المحترفين    كريم ذكري: شيكابالا اعتزل مجبرًا والزمالك لا يملك بديلًا لدوره    وليد خليل يعلق ل ستاد المحور على قرار علاء عبد العال باستبعاد ثلاثي الفريق قبل مباراة كهرباء الإسماعيلية    سيدات يد الأهلي أمام فلاورز البنينى فى ربع نهائى بطولة أفريقيا    «بدأ يشيل ايده من إدارة الكرة».. محسن صالح: شخصية الخطيب ستتغير في الولاية المقبلة بالأهلي    رسمياً.. حقيقة تعديل مواعيد الدراسة بعد بدء التوقيت الشتوي 2025 في مصر    طقس الخميس.. مفاجآت غير متوقعة في درجات الحرارة وأمطار مرتقبة ببعض المناطق    وفاة شاب فى حادث تصادم دراجة بخارية بعربة كارو بحى المناخ فى بورسعيد    نجاة 3 أشخاص بعد سقوط سيارة في ترعة المريوطية بالهرم    السيطرة على حريق أتوبيس بالقناطر الخيرية بسبب ماس كهربائي دون خسائر بشرية    بسبب تسريب غاز.. إصابة عاملين في حريق مطعم بالدقهلية    ضبط 51 قطعة متنوعة في حملة للتصدي لأجهزة الصوت المخالفة والتلوث السمعي بالدقهلية    بعض المهام المتأخرة تراكمت عليك.. حظ برج الدلو اليوم 16 أكتوبر    د.رؤوف رشدي يكتب: مع بوادر سلام شرق أوسطي.. هل هي حقًا نهاية التاريخ أم نهاية أطروحة فوكوياما؟    الصورة الذهنية للدولة!    خبير اقتصادي: مبادرة دعم القطاعات الإنتاجية تؤكد التزام الدولة بتشجيع الاستثمار    .. ورضي الله عن أعمال الصالحين الطيبين لاغير    مشكلة الميراث    بعد تراجع الدولار.. هل تنخفض أسعار الدواء في مصر؟    بخطوات بسيطة.. حضري ألذ كيكة بصوص القهوة    نم جيدًا وتناول هذه الفيتامينات.. 6 طرق علمية لمقاومة نزلات البرد في الشتاء    إنقاذ حياة مريضة بمستشفى سوهاج العام بعد إصابتها بثلاث لدغات عقرب    10 أطعمة تحافظ على المناعة مع بداية انخفاض الحرارة    ليلى علوي رئيسا للجنة تحكيم مسابقة الأفلام الروائية الطويلة بمهرجان الجونة السينمائي    معرض باص وورلد أوروبا 2025 يشهد المزيد من المفاجآت والأرقام القياسية    ترشح 417 على المقاعد الفردية فى اليوم الأخير لتقديم الأوراق بانتخابات النواب    طائرة وزير الدفاع الأمريكي تهبط اضطراريا في بريطانيا    خشية الفضيحة.. تقتل رضيعتها وتلقيها في صندوق قمامة والمحكمة تعاقبها بالمشدد    اليوم.. آمال ماهر تفتتح مهرجان الموسيقى العربية على مسرح النافورة    غادة عبد الرازق تعود بقوة في رمضان 2026 ب«عاليا»    أحدث ظهور.. سهر الصايغ في لحظات روحانية مؤثرة أثناء أداء العمرة    هل يجوز شراء شقة بنظام التمويل العقاري بقصد الاستثمار؟.. أمين الفتوى يجيب    هل الألعاب الإلكترونية المدرة لأرباح مالية حلال أم حرام؟.. أمين الفتوى يوضح    بعد دعوته للانعقاد.. تعرف على الضوابط التنظيمية للجلسة الافتتاحية لمجلس الشيوخ    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 15-10-2025 في محافظة الأقصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صداقته بثروت عكاشة أنقذته من المساءلة عن قصيدة كتبها ضد عبد الناصر جورج حنين.. طفل يرسم بلادا حقيقية بالطباشير
نشر في الأهرام اليومي يوم 15 - 10 - 2017

تضيق البلاد وتتسع المسافات.. وطنه المنفى.. ومنفاه الكلمات. ويبقى قلبه كالعصفور يغفو حالماً، يصبو إلى عش آمن على الأشجار.
مسافر بلا حقائب لا شيء ينتظره غير حاضره الحزين. يضيع بين المواجع والقهر على وطن كان يحلم فيه بثورة إجتماعية تحرر الأرض من ثالوث الفقر والجهل والمرض. فإذا بحكم جديد يطيح بالملك فاروق، الذى ثار عليه هو وأصدقائه، وسُجنوا، وهاجروا بسبب أحلامهم فى طريق التغيير. نضال استمر مع نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، جاء بعده التغيير. لكنه لم يأت بثورة شعبية.
لم يكن يدرى الناقد والشاعر والصحفى «جورج حنين» هل يمضى بحلمه إلى الفناء؟! أم إلى التغيير؟!.. كان على يقين بأن « تغيير العالم أمر يعود إلى الطفل، إنه بقطعة طباشير أو بفرع شجرة يرسم بلاداً.. بلاداً حقيقية». يسير بخطوات حالمه فى طريق مهجور. يريد أن يرى ثانية الأمل المحتضر ولو لمرة أخيرة.. دون جدوى!.. فهو لم يتفق مع يوليو 1952، منتقداً بالتفصيل فى مجلة «التطور» - لسان حال جماعة السوريالية التى أسسها- البرامج الاشتراكية التى طبقتها الثورة. كما أن نشأته فى أسرة مسيحية أرستقراطية لم تمنعه من استنكار الإعدامات الأولى للإخوان المسلمين. قلبه الثائر لم يقبل كبت الحريات التى يواجهه معارضى السلطة آنذاك، آيّاً كانت نزعاتهم الدينية.
رغم كل القيود، يسير فى وجه المخاطر ناشراً أفكاره، ناسجاً أشعاره. صوت الزعيم يذكره بخطب هتلر التى كان يسمعها فى مذياع ميونيخ عام 1939. فكتب حنين قصيدة فيه بعنوان «ذو الوجه السينافوري». كاد أن يتعرض بعدها لمضايقات شديدة، لولا صداقته مع جاره ثروت عكاشة، أحد الضباط الأحرار ووزير الثقافة، التى أنقذته من المسائلة على هذه القصيدة. لكنه استمر فى إعلان رأيه بشجاعة، يقيناً منه بأن « اليأس لا ينتظر أبداً. اليأس متدفق. اليأس يدفع الأبواب. اليأس يهز المدن. اليأس إعصار تنمو تحته العوالم الخارقة للخلاص».. كلمات صداها يتردد فى جميع لحظاتنا اليائسة الراهنة. واستكمل نضاله دون أن يسلم للقيد المهيمن هامته، فالذل ليس طبيعة الأطيار. إلى أن فوجىء ذات صباح بعقيد يجلس مكانه فى مكتبه كمدير عام لشركة سجائر «جناكليز باباستراتوس»، ويبلغه أنه مطرود من العمل. لحظتها.. أدرك أن ساعة الرحيل حانت.. لا يدرى أين يمضي؟ لكن بات مؤكداً له أن مصيره، شأن كل من له رأى مخالف للنظام. صاروا فى أرضهم غرباء. فحمل متاعبه، وأشواقه، وذكرياته ليغادر مصر نهائياً عام 1960 حتى وفاته فى 1973.
بقايا الروح
إنبرى العمر على كف الجفاء بعد أن دُمّرت أحلامه. يطّل بدمعته المطبقة وهو ينظر من كوّة فى قطار الوداع الأخير. بدمه بقايا لوعة عاشها فى القاهرة منذ ميلاده عام 1914. يحلم بموطنه الذى يجمع النقيضين «بلد قادرة على تبديد كل أمل وكل يأس!». كلما داهمه خيالها، يلجأ لقصاصات وصور والده الدبلوماسى «صادق حنين باشا» ووالدته الإيطالية «ماريا زاينيلي». صور معبأة بعطور الياسمين ونبيذ الشوق والحنين جمعته بالأهل والأصدقاء فى مناسبات مختلفة بفيلا والديه على شاطئ النيل بروض الفرج. يمسح دموعه من تحت نظارته السوداء، كلما عصرت الذكريات خاطره. ذكريات صداها يزهر عالمه الجديد ويضفى عليه بقايا روح وحياة.
سفره مع والده الدبلوماسى إلى عواصم أوروبية عديدة، جعله ينهل مبكراً من نهر تعليم متعدد الروافد ويرتوى من مائه العذب. التحق حنين بجامعة السوربون العريقة فى باريس وحصل منها على ثلاث شهادات «ليسانس» فى الحقوق، والآداب، والتاريخ. كما أجاد الكتابة بالفرنسية، والعربية، والإنجليزية، والإسبانية، والإيطالية. لكنه اختار الفرنسية لغة تواصل مع الحركة الثقافية فى باريس، والنخبة الفرانكفونية فى مصر. فقد كان مؤمناً بأن الغرب محور لتمردات الروح الانسانية كلها من أجل الحرية، والشعر، وحق الفرد فى أن يكون صوته هو.. لا صوت سيد ما.
عبقريته الأدبية تجلّت منذ عامه العشرين، بكتابة كوميديا إسبانية «تكملة ونهاية» وهى نوع من المسرحيات الهزلية الصغيرة، تتضمن مشهداً وحيداً نلتقى فيه بأشخاص يعانون من حضارتهم.. بينهم المجنون، والرأسمالي، والعاطل، والفوضوي، والكاتب. ثم توالت أعماله الأدبية، فشغل منصب مدير لمجلتين طليعيتين عربيتين: «التطور» و«المجلة الجديدة». كتب أيضاً بشكل منتظم فى صحيفتين فرانكفونيتين: «البورصة المصرية» و«التقدم المصري». وفى عام 1943 نشر قصة بعنوان «صنع فى الولايات المتحدة» وهى انتباه مبكر لهذا البلد الذى أصبح لاحقا قوة عظمى. كذلك، سعى حنين إلى استفزاز الإنسان البورجوازى وفضح العُهر الاجتماعي، فأصدر ديوان «تنبيه من القذارة» عام 1935. وبجانب مجلة «التطور» أسس مجلة «حصة الرمل».
كان متمردا بطبيعته، ليس فقط فى الحياة السياسية والأدبية، وإنما طال تمرده حياته الشخصية أيضاً. فقد وقع حنين فى حب ابنة نائب رئيس البرلمان المصرى وحفيدة الشاعر أحمد شوقي، وتدعى «إقبال»، أو «بولا» كما يدللونها. ما كان يدرى بأن هواها كموج البحار، كجزر ومدْ يصعب مقاومته!. ومن أجلها، قرر أن يتحدى جميع الأعراف والقيود الإجتماعية، واعتنق الإسلام ليتمكن من الزواج بها. معركة لم تكن سهلة عليه كمسيحي، انتصر فيها بالنهاية بعد تمرده على أبيه، ومغادرته منزل العائلة فى روض الفرج، كما توقف عن العمل مع والده فى شركة المياه. وعمل بعدها بوظيفة مدير لشركة جناكليز للسجائر التى استمر بها حتى غادر مصر.
لا يملك شيئاً بعد أن ضاعت بلاده، غير عينيها التى فيها يهاجر. قلب «بولا» الذى يحنو على قلبه، كالبلسم فى الجرح. كانت رفيقة غربته حتى رحيله عن عالمنا. مازال عطره نابضاً ما بين أضلاعها، أخذت على عاتقها الزوجة المخلصة إعادة نشر كتاباته وقصصه وأشعاره. لم يكن الأمر يسيراً عليها، خاصة أن حنين لم يكترث بتجميع قصائده ولا مقالاته فى كتب. لكن إيمانها بأفكاره جعلها تستمر فى هذا العمل بعشق وتفان حتى وفاتها. بل إنها اقتطعت أجزاء من مقالاته الصحفية واختلقت منها يوميات تحت عنوان «الروح الطارق».
بحار الوجد
انضم حنين خلال سنوات الشتات إلى عدد من الإصدارات الفرنسية، منها مجلة «جون أفريك» وأصبح مديراً لتحريرها عام 1966. وكتب فيها مقدمة «أنطولوجيا الأدب العربى المعاصر». وشارك فى «الموسوعة السياسية الصغيرة» التى صدرت عام 1969 تحت إشراف «جون لا كوتير». ثم انتقل إلى مجلة «إكسبريس» إلى نهاية حياته.
على باب التمنى بات يبكي، ويسأل ما مضى منكم وآت؟.. أفاقت الذكرة أوجاع اشتياقه لرفاق دربه، رمسيس يونان، وكامل التلمساني، وفؤاد كامل. ممن وقعوا معه (ضمن 40 شخصاً آخر) على البيان الجريء «يحيا الفن المنحط» عام 1938. وجاء البيان احتجاجاً ضد منع النازى أدولف هتلر التصوير الحديث بحجة أنه «منحط». وحول هذا قال حنين: «إن قدر الفن الآن هو أن يخرج إلى الصفوف الأمامية للنضال، جنباً إلى جنب البشر الذين يريدون قهر الماضى بالسبل كافة، وذلك بوصفه تحدياً وتأكيداً روحياً تخريبياً فى آن واحد».
وفى العام التالى من هذا البيان، أدخل حنين العرب إلى ثورة الفن والفكر المعاصر. دخلت مصر بفضله عالم السوريالية مع بداياتها فى فرنسا. وهي، بالنسبة له، توجهاً جديداً ضد محاكاة الواقع.. حيث اتجه الفنانون إلى السيكولوجيا وعالم الأحلام، لإنتاج صورا هزلية أو خيالية.
تحمله بحار الوجد إلى تلك الأيام وما حققته من نجاحات. يصغى لأنغام الحنين وحده فى متاهات الآنين، ويستحضر ذكرى جماعة السوريالية التى أسسها مع أصدقائه الشاعر إدمون جابس، والصحافى إيميل سيمون، والرسامين كامل التلمساني، وأنجلو دى ريز، ورمسيس يونان. وأطلق عليها إسم «جماعة الفن والحرية»، مستلهما الأسم من عنوان بيان مؤسس السوريالية العالمية «أندريه بريتون» والقائد ليون تروتسكى «نحو فن ثورى مستقل». يلخّص حنين فلسفته الفنية فى الحياة، قائلاً: «أنا لا أسعى إلى شيء. أنا لا أرغب فى أكثر من اتّباع منطق معين للحرية». غير أن الجماعة السوريالية لم تلق ترحيبا من ثورة يوليو التى طمست تاريخهم من التاريخ الثقافى المصري. حلمه يتوه فى مجرات الفضاء.. أمن الظلام المر ننتظر الصباح؟ مضت السوريالية فى الدنيا غريبة، شأن صاحبها. ضاع بيته.. ضاع عمره.. ضاع حتى الحلم منه، والهوى فى الصدر ضاق. مات حنين بعد صراعه مع مرض سرطان الرئة. توقفت عقارب الساعات بعدما أنهكها المسير.
لم تنسه متاهات الرحيل وطنه. رافضاً أن يموت فى غير أرضه، طلب حنين من زوجته بولا أن تدفنه فى القاهرة. فى دفء أحضانها يلقى الفناء راضياً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.