أسعار الفاكهة بأسواق مطروح اليوم السبت 23-8-2025.. الكنتالوب ب20 جنيها    "اتحاد المقاولين" يطالب بوقف تصدير الأسمنت لإنقاذ قطاع المقاولات من التعثر    محافظ أسوان يتفقد مشروع مركز شباب النصراب والمركز التكنولوجى بالمحاميد    رئيس مدينة الأقصر يناقش مع رؤساء الأحياء ملفات تحسين الخدمات المقدمة للمواطنين    61 شهيدا برصاص الاحتلال فى غزة خلال 24 ساعة.. وعدد الضحايا يرتفع ل62622    8 وفيات نتيجة المجاعة وسوء التغذية في قطاع غزة خلال ال24 ساعة الماضية    خبير علاقات دولية: إعلان المجاعة في غزة يكشف سياسة التجويع الإسرائيلية الممنهجة    مصر ترحب بخارطة الطريق الأممية لتسوية الأزمة الليبية    رغم تبرئة ساحة ترامب جزئيا.. جارديان: تصريحات ماكسويل تفشل فى تهدئة مؤيديه    قدوس يقود تشكيل توتنهام ضد مانشستر سيتي بالدوري الإنجليزي    محاضرة فنية وتدريبات خططية في مران الأهلي استعدادًا للمحلة    وزيرة التضامن: تتابع تداعيات حادث غرق عدد من الطلاب فى محافظة الإسكندرية    تعرف على حالة الطقس ودرجات الحرارة اليوم السبت 23-8-2025 فى الإسماعيلية    ضبط وتحرير 18 محضرا فى حملة إشغالات بمركز البلينا فى سوهاج    ظهر أحد طرفيها عاريا.. النيابة تحقق في مشاجرة بمدينة نصر    «شجاعة عم طارق»| السكة الحديد تستعد لتكريم عامل مزلقان أنقذ شابًا من دهس القطار    «الصحة»: 6 حالات وفاة وإصابة 24 آخرين في حادث غرق الطلاب بالإسكندرية    نور القلوب يضىء المنصورة.. 4 من ذوى البصيرة يبدعون فى مسابقة دولة التلاوة    قافلة طبية مجانية لأكثر من 1050 مواطنًا بقرية عزاقة بمركز المنيا    مصر تستضيف النسخة الأولى من قمة ومعرض "عالم الذكاء الاصطناعي" فبراير المقبل    لا دين ولا لغة عربية…التعليم الخاص تحول إلى كابوس لأولياء الأمور فى زمن الانقلاب    صراع الأجيال وتجديد الدماء    البابا تواضروس يترأس قداس تدشين كنيسة القديس مارمينا العجايبي بالإسكندرية    محافظ أسوان يتفقد سير العمل بوحدة صحة أسرة العوينية بإدفو (صور)    محافظ الجيزة يشدد علي التعامل الفوري مع أي متغيرات مكانية يتم رصدها واتخاذ الإجراءات القانونية    تفاصيل وأسباب تفتيش منزل مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق جون بولتون    إسلام جابر: تجربة الزمالك الأفضل في مسيرتي.. ولست نادما على عدم الانتقال للأهلي    «متبقيات المبيدات» ينظم ورشة عمل لمنتجي ومصدري الطماطم    تفعيل المشاركة المجتمعية لتطوير وصيانة المدارس واستكمال التشجير بأسيوط    تحرير 125 محضرًا للمحال المخالفة لمواعيد الغلق الرسمية    «صحح مفاهيمك».. مبادرة دعوية خارج المساجد بمشاركة 15 وزارة    ما أسباب استجابة الدعاء؟.. واعظة بالأزهر تجيب    مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية يحيي ذكرى وفاة العالم الكبير الشيخ مصطفى المراغي    ثلاثة أفلام جديدة فى الطريق.. سلمى أبو ضيف تنتعش سينمائيا    مستشفى الأهلى.. 6 لاعبين خارج الخدمة فى مباراة غزل المحلة بسبب الإصابة    ابنة سيد مكاوي عن عودة شيرين لحسام حبيب: فقدت تعاطفي معها    طلقات تحذيرية على الحدود بين الكوريتين ترفع حدة التوتر    شباب في خدمة الوطن.. أندية التطوع والجوالة يعبرون رفح ويقدمون المساعدات لقطاع غزة    تحقيق استقصائى يكتبه حافظ الشاعر عن : بين "الحصة" والبطالة.. تخبط وزارة التعليم المصرية في ملف تعيين المعلمين    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    العمل والبيئة ينظمان دورة تدريبية حول الاستخدام الآمن لوسائط التبريد والتكييف بسوهاج    جامعة القاهرة تُطلق قافلة تنموية شاملة لمدينة الحوامدية بالجيزة    حملة «100 يوم صحة» تقدّم 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يومًا    إصابة 3 أشخاص في حادث سير بوسط سيناء    إعلام فلسطينى: مصابون من منتظرى المساعدات شمال رفح الفلسطينية    «الإفتاء» تستطلع هلال شهر ربيع الأول اليوم    حسن الخاتمة.. وفاة معتمر أقصري أثناء أدائه مناسك الحج    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    موعد مباراة النصر ضد الأهلي اليوم في نهائي كأس السوبر السعودي والقنوات الناقلة    ملف يلا كورة.. خطة انتخابات الأهلي.. رسائل الزمالك.. واعتماد لجنة الحكام    شريف حافظ: الحب هو المعنى في حد ذاته ولا يقبل التفسير... والنجاح مسؤولية يجب أن أكون مستعدًا لها    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    ما هي اختصاصات مركز التسوية والتحكيم الرياضي المصري بقانون الرياضة بعد التصديق عليه؟    إرهاب الإخوان في ثلاجة القرارات الأمريكية.. لعبة المصالح فوق جرائم الجماعة    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



باريس تعترف بالحركة السورياليّة المصريّة
نشر في صوت البلد يوم 19 - 11 - 2016

باشرت باريس أخيراً، الاحتفاء بجماعة «الفن والحرية» المصرية السوريالية من خلال معرضٍ ضخم ينظّمه مركز «جورج بومبيدو»، ويتضمن، إلى جانب وثائق مكتوبة أو مصوّرة حول هذه الحركة المجيدة، عشرات اللوحات والرسوم والصور الفوتوغرافية والمخطوطات لأبرز وجوهها.
ونقول «أخيراً» لأن هذه الحركة الشعرية والفنية التي أسسها جورج حنين عام 1938 واستمر نشاطها حتى عام 1948، لم تلقَ في فرنسا الاهتمام الذي تستحقه على رغم ارتباطها العضوي بحركة أندريه بروتون، وأهمية إنجازات أعضائها ليس فقط على مستوى محلّي أو عربي، بل دولي أيضاً. ففي موازاة انخراطهم في مشروعٍ ثقافي وسياسي انتقد بعنفٍ الاستعمار وجميع أنواع الفاشيات، ابتكر حنين ورمسيس يونان وسائر رفاقهما لغةً أدبية وشعرية وتشكيلية معاصرة وملتزمة في حداثتها، ولعبوا دوراً ناشطاً داخل شبكة دولية من الشعراء والكتّاب والفنانين والمفكّرين ذوي الميول السوريالية.
في الصالة الأولى من المعرض، يتبيّن لنا كيف انتقدت جماعة «الفن والحرية»، في مقالات ونصوص طليعية، الصبغة القومية للمعارض الفنية التي كانت تُنظّم في مصر في العشرينات والثلاثينات، وفي مقدّمها «صالون القاهرة»، وذلك من منطلق رفض هذه الحركة تصنيف الفنانين على أساس هويتهم الوطنية، وأيضاً فكرة فنٍّ يكتفي بإعادة إنتاج الاستعارات والرموز المطروقة من دون صوغ مقترحاتٍ جديدة.
في الصالة الثانية، نلاحظ ارتباط مطالب هذه الحركة وتطلّعاتها بصعود العقائد الفاشية في مطلع الثلاثينات ليس فقط في أوروبا، بل في مصر أيضاً، ونلاحظ أيضاً كيف شكّلت حماسة الانخراط في الحرب العالمية الثانية وأهوال هذه الحرب موضوع انتقادٍ ثابت لكتّاب هذه الحركة وفنانيها، كما تشهد على ذلك تمثّلاتهم المرصودة لساحات المعارك والدمار، والتي تطغى عليها رموز الموت وصور قاتمة لنهاية العالم، وبالتالي تعكس حالة قلقٍ كبير وأيضاً رفضاً لمفهوم الحرب وجميع مبرّراتها.
وتسلّط الصالة الثالثة، الضوء على حالة عدم المساواة الاجتماعية في مصر لدى انبثاق جماعة «الفن والحرية»، بهدف إظهار دور هذه الحركة في كشف سبب هذه الحالة الرئيس وانتقاده، أي الطبقة البرجوازية المصرية التي كانت تعيق تطوّر الطبقات المحرومة. وفي هذا السياق، شكّلت الثورة أداةً ضرورية لحنين ورفاقه من أجل تدمير الذهنية البرجوازية الطاغية، كما شكّل أسلوب تفكيك الجسد البشري أداةً لفناني هذه الحركة في صراعهم ضد التيارين الرمزي والطبيعي اللذين كانا محطّ إعجاب البرجوازية ودعمها. ولتصوير عذابات المصريين الناتجة من البؤس، لجأ هؤلاء الفنانون إلى رسم وجوه مشوّهة وأجساد مفككة الأعضاء وملتوية داخل ديكور عدواني.
وفي الصالة الرابعة، يتّضح لنا كيف أن «جماعة الفن والحرية» تبنّت السوريالية كدعوة إلى الثورة الاجتماعية والأخلاقية وأيضاً كحركة فنية، قبل أن يعمد الفنان رمسيس يونان عام 1938 إلى انتقاد، من جهة، أسلوبَيّ سلفادور دالي ورونيه ماغريت اللذين يلجمان المخيّلة، في نظره، لارتكازهما على قوانين محدَّدة سلفاً، ومن جهة أخرى الكتابة والرسم الآليين لتشكيلهما تقنية تعبير جدّ فردية لا تساعد كثيراً على التحرّر الجماعي. ومن هذا المنطلق، دعا يونان إلى اعتماد ما سمّاه «الواقعية الذاتية» كفضاء يسمح للفنانين باستخدام رموزٍ مستقاة من اللاوعي وبتطوير مفردات بصرية تشكّل مجتمعةً «ميثولوجيا جماعية» جديدة تعكس مسؤولية الفنان تجاه مجتمعه.
وتكشف الصالة الخامسة، الدور المهم الذي لعبته وجوه نسائية في انبثاق جماعة «الفن والحرية» ونشاطاتها الفنية، مثل آيمي نمر وماري كافاديا ولي ميلر اللواتي ساهمن في إدخال السوريالية إلى مصر عبر شبكة علاقاتهن الدولية، وفي تفاعُل فناني هذه الحركة بين بعضهم بعضاً عبر عرض أعمالهم في منازلهن. وتكشف الصالة أيضاً، الموقف النسوي لهذه الحركة الذي يظهر في مقالات غزيرة نُشرت في مجلتَي «التطوّر» و»دون كيشوت»، وأيضاً في أعمال بصرية مرصودة لمعاناة المرأة داخل المجتمع المصري، خصوصاً خلال الحرب. وبينما نتعرّف في الصالة السادسة إلى «جماعة الفن المعاصر» التي انشقّت عن حركة حنين عام 1946 وانحرفت عن مبادئ السوريالية، مفضّلةً اللجوء إلى مفردات بصرية محلّية ورموز مستقاة من التقليد الشعبي المصري، نشاهد في الصالة السابعة أعمالاً فوتوغرافية أنجزها بعض أعضاء جماعة «الفن والحرية» واستخدموا فيها تقنيات تصوير مختلفة، كالفوتومونتاج أو التشميس، وعملية تشكيل تقوم على تفكيك الشكل البشري وتغريب المألوف من منطلق عبثي.
ولا عجب في تكريس الصالة الثامنة للشاعر التحريضي جورج حنين الذي كان أوّل من أدخل الأفكار السوريالية إلى مصر، منذ عام 1934، من خلال مقالات ونصوص نقدية عدة، قبل أن يقابل بروتون في باريس عام 1936. ولا شك أن المحاضرة التي ألقاها في القاهرة في مطلع شباط (فبراير) 1937 بعنوان «الحركة السوريالية، جردة حساب»، تشكّل فعل ولادة مجموعته، وإن يعتمد المؤرّخون حول هذه النقطة تاريخ 22 كانون الأول (ديسمبر) 1938، الذي صدر فيه بيان الحركة الشهير «يحيا الفن المنحطّ». وتعكس محتويات هذه الصالة العلاقة الوثيقة التي ربطت حنين وبروتون ودفعت هذا الأخير عام 1947، إلى تعيين صديقه أميناً عاماً للتحالف الدولي الذي جمع سورياليي ما بعد الحرب. ويخطئ منظّمو المعرض في اعتبارهم أن وفاء حنين لبروتون انتهى عام 1948، بسبب اختلاف وجهة نظر كلّ منهما حول مستقبل السوريالية، فالرسائل التي تبادلها الاثنان حتى وفاة بروتون تبيّن عكس ذلك تماماً.
أما الصالة الأخيرة من المعرض، فتكشف الارتباط الوثيق بين الأعمال التشكيلية والأعمال الأدبية التي أنتجتها جماعة «الفن والحرية». فعلى سبيل المثل، ارتكز حنين لكتابة بعض نصوصه، على صورية أعمال تشكيلية تعود إلى كامل التلمساني وأمي نمر ومايو. وفي المقابل، أوحى شعره السوريالي لرفاقه التشكيليين، خصوصاً ليونان وإنجي إفلاطون، أعمالاً تعتبر من أهم تركة هذه الحركة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى البورتريهات الشعرية التي رصدها ألبير قصيري لموضوع الفقر، وشكّلت مصدر إلهام للعديد من فناني الحركة، مثل فؤاد كامل وعبدالهادي الجزّار وروبرت ميدلي.
يبقى أن نشير إلى أن السعي الحثيث لمنظّمي المعرض إلى توفير نظرة شاملة حول مختلف إنجازات جماعة «الفن والحرية»، حال دون التعمّق في قيمة هذه الإنجازات. وبدلاً من سد هذا النقص في نصوص الكتالوغ الذي يرافق المعرض، جاءت هذه الأخيرة إخبارية ومفككة وغارقة أحياناً في تفاصيل جانبية، بدلاً من توفيرها قراءة نقدية مُحكَمة تساعد على فهم مشروع حنين ورفاقه ومكامن قوته وأسباب فشله. فشل يعود، في نظرنا، إلى هدف هذه الحركة الرئيس، أي إرساء الحداثة الأوروبية داخل مجتمع كانت بنيته الاجتماعية والاقتصادية جامدة منذ قرون تحت تأثير نمط إنتاجي رجعي وتقليدي، كما يعود إلى أفكارها الراديكالية وغير الامتثالية التي لم يكن المجتمع المصري جاهزاً لها، من دون أن ننسى استخدام أعضاء هذه الحركة في كتاباتهم اللغة الفرنسية التي كانت حكراً على الطبقة الراقية في مصر وحالت دون بلوغ أفكارهم الجماهير التي كانت بغالبيتها العظمى أمّية، علماً أن هذه الكتابات قارعت أفضل ما كان يُكتب في أوروبا، وأحياناً تجاوزته في نقدها الراديكالي.
باشرت باريس أخيراً، الاحتفاء بجماعة «الفن والحرية» المصرية السوريالية من خلال معرضٍ ضخم ينظّمه مركز «جورج بومبيدو»، ويتضمن، إلى جانب وثائق مكتوبة أو مصوّرة حول هذه الحركة المجيدة، عشرات اللوحات والرسوم والصور الفوتوغرافية والمخطوطات لأبرز وجوهها.
ونقول «أخيراً» لأن هذه الحركة الشعرية والفنية التي أسسها جورج حنين عام 1938 واستمر نشاطها حتى عام 1948، لم تلقَ في فرنسا الاهتمام الذي تستحقه على رغم ارتباطها العضوي بحركة أندريه بروتون، وأهمية إنجازات أعضائها ليس فقط على مستوى محلّي أو عربي، بل دولي أيضاً. ففي موازاة انخراطهم في مشروعٍ ثقافي وسياسي انتقد بعنفٍ الاستعمار وجميع أنواع الفاشيات، ابتكر حنين ورمسيس يونان وسائر رفاقهما لغةً أدبية وشعرية وتشكيلية معاصرة وملتزمة في حداثتها، ولعبوا دوراً ناشطاً داخل شبكة دولية من الشعراء والكتّاب والفنانين والمفكّرين ذوي الميول السوريالية.
في الصالة الأولى من المعرض، يتبيّن لنا كيف انتقدت جماعة «الفن والحرية»، في مقالات ونصوص طليعية، الصبغة القومية للمعارض الفنية التي كانت تُنظّم في مصر في العشرينات والثلاثينات، وفي مقدّمها «صالون القاهرة»، وذلك من منطلق رفض هذه الحركة تصنيف الفنانين على أساس هويتهم الوطنية، وأيضاً فكرة فنٍّ يكتفي بإعادة إنتاج الاستعارات والرموز المطروقة من دون صوغ مقترحاتٍ جديدة.
في الصالة الثانية، نلاحظ ارتباط مطالب هذه الحركة وتطلّعاتها بصعود العقائد الفاشية في مطلع الثلاثينات ليس فقط في أوروبا، بل في مصر أيضاً، ونلاحظ أيضاً كيف شكّلت حماسة الانخراط في الحرب العالمية الثانية وأهوال هذه الحرب موضوع انتقادٍ ثابت لكتّاب هذه الحركة وفنانيها، كما تشهد على ذلك تمثّلاتهم المرصودة لساحات المعارك والدمار، والتي تطغى عليها رموز الموت وصور قاتمة لنهاية العالم، وبالتالي تعكس حالة قلقٍ كبير وأيضاً رفضاً لمفهوم الحرب وجميع مبرّراتها.
وتسلّط الصالة الثالثة، الضوء على حالة عدم المساواة الاجتماعية في مصر لدى انبثاق جماعة «الفن والحرية»، بهدف إظهار دور هذه الحركة في كشف سبب هذه الحالة الرئيس وانتقاده، أي الطبقة البرجوازية المصرية التي كانت تعيق تطوّر الطبقات المحرومة. وفي هذا السياق، شكّلت الثورة أداةً ضرورية لحنين ورفاقه من أجل تدمير الذهنية البرجوازية الطاغية، كما شكّل أسلوب تفكيك الجسد البشري أداةً لفناني هذه الحركة في صراعهم ضد التيارين الرمزي والطبيعي اللذين كانا محطّ إعجاب البرجوازية ودعمها. ولتصوير عذابات المصريين الناتجة من البؤس، لجأ هؤلاء الفنانون إلى رسم وجوه مشوّهة وأجساد مفككة الأعضاء وملتوية داخل ديكور عدواني.
وفي الصالة الرابعة، يتّضح لنا كيف أن «جماعة الفن والحرية» تبنّت السوريالية كدعوة إلى الثورة الاجتماعية والأخلاقية وأيضاً كحركة فنية، قبل أن يعمد الفنان رمسيس يونان عام 1938 إلى انتقاد، من جهة، أسلوبَيّ سلفادور دالي ورونيه ماغريت اللذين يلجمان المخيّلة، في نظره، لارتكازهما على قوانين محدَّدة سلفاً، ومن جهة أخرى الكتابة والرسم الآليين لتشكيلهما تقنية تعبير جدّ فردية لا تساعد كثيراً على التحرّر الجماعي. ومن هذا المنطلق، دعا يونان إلى اعتماد ما سمّاه «الواقعية الذاتية» كفضاء يسمح للفنانين باستخدام رموزٍ مستقاة من اللاوعي وبتطوير مفردات بصرية تشكّل مجتمعةً «ميثولوجيا جماعية» جديدة تعكس مسؤولية الفنان تجاه مجتمعه.
وتكشف الصالة الخامسة، الدور المهم الذي لعبته وجوه نسائية في انبثاق جماعة «الفن والحرية» ونشاطاتها الفنية، مثل آيمي نمر وماري كافاديا ولي ميلر اللواتي ساهمن في إدخال السوريالية إلى مصر عبر شبكة علاقاتهن الدولية، وفي تفاعُل فناني هذه الحركة بين بعضهم بعضاً عبر عرض أعمالهم في منازلهن. وتكشف الصالة أيضاً، الموقف النسوي لهذه الحركة الذي يظهر في مقالات غزيرة نُشرت في مجلتَي «التطوّر» و»دون كيشوت»، وأيضاً في أعمال بصرية مرصودة لمعاناة المرأة داخل المجتمع المصري، خصوصاً خلال الحرب. وبينما نتعرّف في الصالة السادسة إلى «جماعة الفن المعاصر» التي انشقّت عن حركة حنين عام 1946 وانحرفت عن مبادئ السوريالية، مفضّلةً اللجوء إلى مفردات بصرية محلّية ورموز مستقاة من التقليد الشعبي المصري، نشاهد في الصالة السابعة أعمالاً فوتوغرافية أنجزها بعض أعضاء جماعة «الفن والحرية» واستخدموا فيها تقنيات تصوير مختلفة، كالفوتومونتاج أو التشميس، وعملية تشكيل تقوم على تفكيك الشكل البشري وتغريب المألوف من منطلق عبثي.
ولا عجب في تكريس الصالة الثامنة للشاعر التحريضي جورج حنين الذي كان أوّل من أدخل الأفكار السوريالية إلى مصر، منذ عام 1934، من خلال مقالات ونصوص نقدية عدة، قبل أن يقابل بروتون في باريس عام 1936. ولا شك أن المحاضرة التي ألقاها في القاهرة في مطلع شباط (فبراير) 1937 بعنوان «الحركة السوريالية، جردة حساب»، تشكّل فعل ولادة مجموعته، وإن يعتمد المؤرّخون حول هذه النقطة تاريخ 22 كانون الأول (ديسمبر) 1938، الذي صدر فيه بيان الحركة الشهير «يحيا الفن المنحطّ». وتعكس محتويات هذه الصالة العلاقة الوثيقة التي ربطت حنين وبروتون ودفعت هذا الأخير عام 1947، إلى تعيين صديقه أميناً عاماً للتحالف الدولي الذي جمع سورياليي ما بعد الحرب. ويخطئ منظّمو المعرض في اعتبارهم أن وفاء حنين لبروتون انتهى عام 1948، بسبب اختلاف وجهة نظر كلّ منهما حول مستقبل السوريالية، فالرسائل التي تبادلها الاثنان حتى وفاة بروتون تبيّن عكس ذلك تماماً.
أما الصالة الأخيرة من المعرض، فتكشف الارتباط الوثيق بين الأعمال التشكيلية والأعمال الأدبية التي أنتجتها جماعة «الفن والحرية». فعلى سبيل المثل، ارتكز حنين لكتابة بعض نصوصه، على صورية أعمال تشكيلية تعود إلى كامل التلمساني وأمي نمر ومايو. وفي المقابل، أوحى شعره السوريالي لرفاقه التشكيليين، خصوصاً ليونان وإنجي إفلاطون، أعمالاً تعتبر من أهم تركة هذه الحركة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى البورتريهات الشعرية التي رصدها ألبير قصيري لموضوع الفقر، وشكّلت مصدر إلهام للعديد من فناني الحركة، مثل فؤاد كامل وعبدالهادي الجزّار وروبرت ميدلي.
يبقى أن نشير إلى أن السعي الحثيث لمنظّمي المعرض إلى توفير نظرة شاملة حول مختلف إنجازات جماعة «الفن والحرية»، حال دون التعمّق في قيمة هذه الإنجازات. وبدلاً من سد هذا النقص في نصوص الكتالوغ الذي يرافق المعرض، جاءت هذه الأخيرة إخبارية ومفككة وغارقة أحياناً في تفاصيل جانبية، بدلاً من توفيرها قراءة نقدية مُحكَمة تساعد على فهم مشروع حنين ورفاقه ومكامن قوته وأسباب فشله. فشل يعود، في نظرنا، إلى هدف هذه الحركة الرئيس، أي إرساء الحداثة الأوروبية داخل مجتمع كانت بنيته الاجتماعية والاقتصادية جامدة منذ قرون تحت تأثير نمط إنتاجي رجعي وتقليدي، كما يعود إلى أفكارها الراديكالية وغير الامتثالية التي لم يكن المجتمع المصري جاهزاً لها، من دون أن ننسى استخدام أعضاء هذه الحركة في كتاباتهم اللغة الفرنسية التي كانت حكراً على الطبقة الراقية في مصر وحالت دون بلوغ أفكارهم الجماهير التي كانت بغالبيتها العظمى أمّية، علماً أن هذه الكتابات قارعت أفضل ما كان يُكتب في أوروبا، وأحياناً تجاوزته في نقدها الراديكالي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.