لا شك أن الشرع قائم علي مراعاة مصالح البلاد والعباد, فحيث تكون المصلحة المعتبرة فثمة شرع الله. وإذا كان العرف ضابطًا معتبرًا لدي الفقهاء فإن العرف لا يقصد به العرف الخاص لكل قبيلة أو عزبة أو قرية أو نجع أو تجمع علي حدة, إنما هو العرف العام الذي تعارف عليه القوم وإن لم يسنوه قانونًا, فما بالكم إذا تعارف عليه القوم وسنوه قانونًا أو أقرته مجالسهم النيابية في ضوء الدستور الذي اصطلحوا عليه وارتضوه لتسيير شئون حياتهم وتنظيم حركتها, ناهيك عما قرره الشرع من حق الحاكم في تقييد المباح للمصلحة المعتبرة بما لا يتعارض مع نص صريح قطعي الثبوت والدلالة. والقضية التي نحن بصددها واحدة من القضايا الحياتية التي لم يرد في بيان تحديد سن الزواج فيها نص قاطع, لا من صريح القرآن ولا من صحيح السنة, فصار فيها متسع للاجتهاد والرأي والرأي الآخر وفق ما تقتضيه المصلحة, علي أن فقه الموازنات وحسابات المصالح والمفاسد, وترجيح ما يجب ترجيحه منها يتطلب منا نظرات متأنية لا نظرة واحدة قبل أن نصدر أي فتاوي في هذا الشأن, بل أري أن أمر الفتاوي في مثل هذه القضايا يحتاج اجتهادًا جماعيًّا للمؤسسات المعتبرة لا اجتهاد الأشخاص أو الأفراد, ولا سيما إذا كان بعض هؤلاء الأشخاص أو الأفراد بمعزل عن استيعاب قضايا العصر ومستجداته, بل فما بالك إذا كانوا، أو كان بعضهم، بمعزل عن قواعد الإفتاء وأصوله أصلاً؟ بل فما بالكم إن كان من يفتي في الشأن العام غير المتخصصين أو حتي من غير الدارسين للأصول الشرعية علي وجهها المطلوب إن لم يكن من غير الدارسين لها أصلا. ولا شك أن إصدار مثل هذه الفتاوي لا يمكن أن تستند فقط إلي محصولنا مما قرره بعض الفقهاء في عصور وظروف وبيئات تغيرت طبيعتها تغييرًا كبيرًا في زماننا ومكاننا وبيئتنا, وأصبح من يتصدر للإفتاء في مثل هذه الأمور والقضايا المعاصرة في حاجة ملحة إلي أن يلم إلي جانب أصول وقواعد فقه الأحكام بفقه العصر والواقع ومستجداته وتداعياته وتحدياته وظروفه الاجتماعية والاقتصادية والصحية, بما يتطلب ضرورة الاستئناس بآراء الخبراء المختصين من الأطباء والاقتصاديين وعلماء النفس والاجتماع, بل إننا قد نكون بحاجة ماسة لنظرة أوسع نحو ما يدور حولنا في مختلف دول العالم والتزامات الدول وتعهداتها في ضوء ما وقعت عليه من مواثيق دولية, لأن الاستطاعة كما ينظر فيها إلي حال الأفراد ينبغي أن ينظر فيها أيضًا إلي أحوال وقدرات الدول. وإذا كان الفقهاء قد تحدثوا عن الباءة وهي القدرة علي الوفاء بحق الزواج فإن الأمر بلا شك لا يمكن أن يحصر أو يقصر في القدرة والطاقة الجنسية, إنما هو القدرة العامة علي قيادة سفينة الحياة الزوجية بما تقتضيه وتتطلبه من تبعات اقتصادية ومسئوليات اجتماعية نظلم أبناءنا وبناتنا ظلمًا كبيرًا إن حملناهم إياها دون احتمالهم لها أو قدرتهم علي هذا الاحتمال أو حتي مجرد إدراكهم لما يقتضيه واجب كل من الزوجين تجاه الآخر من حقوق وواجبات ومسئوليات, وما لم نهيئ لهم ما يغلب علي الظن معه علي أقل تقدير نجاح هذا الارتباط, وإلا فما سر حالات الطلاق المرتفعة بين الشباب المتزوجين حديثًا إن لم يكن عدم تأهيلهم وتهيئتهم بالقدر الكافي وإدراك كل منهم لما تتطلبه وتقتضيه حقوق بناء الأسرة السوية كأساس لبناء مجتمع سوي متماسك قادر علي صنع الحضارة واقتحام عباب الحياة الصعبة. ولا شك أن الزواج مسئولية كبيرة, وميثاق غليظ, شرعه الإسلام ليسكن كل من الزوجين إلي بعضهما البعض في مودة ورحمة, كما قال ربنا سبحانه: »وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ«, فلابد من التأكد من أن كلا من الرجل والمرأة في سن قادر علي تحمل أعباء وتبعات هذه العلاقة الزوجية. لمزيد من مقالات د. محمد مختار جمعة - وزير الأوقاف