دعونا فى المقال السابق إلى تجديد الفقه، ويحتاج التجديد للفقه إلى عملية هامة تسمى: فقه الواقع، وذلك أن تجديد الفقه لن يتم إلا بأن يوجد لدينا علماء يفقهون الواقع، وهذه إشكالية بعض الفقهاء لدينا، ممن يريدوننا أن نعيش بفقهِ كتب لغير عصرنا. يعمد بعض فقهائنا إلى تقديس الفقه الموروث وآراء الفقهاء السابقين مغمضين أعينهم عن الواقع المعاش، فأنزلوا الأحكام الفقهية الاجتهادية للفقهاء السابقين على الواقع المعاصر من دون مراعاة بين الثوابت والمتغيرات، بينما هى فى معظمها اجتهادات بشرية غير معصومة، والرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد))، فالمجتهد مأجور على كلا الحالين. وعلى النقيض من ذلك، هناك علماء قلبوا ظهر المجن للنصوص وتنصلوا من قواعد الشرع، وأعرضوا عن الأدلة المعتبرة اكتفاء بالواقع، فكان الواقع عندهم مصدرا تشريعياً يؤولون النصوص الصريحة لتجيء موافقة له، متعللين بمصالح وهمية، فكان اجتهادهم بلا أطر تشريعية ولا ضوابط شرعية. ولقد كان فقهاء السلف يلحظون فهم الواقع فى فتاويهم، فقد كان لممارسة أبى حنيفة البيع والتجارة أثر فى فقهه، فقد كان للواقع الذى يعيشه الإمام تأثير كبير على صياغة أصول مذهبه. وقد كان الإمام مالك يرقب واقع المسلمين فى المدينة ويتعمق فى فهمه ليتخذ منه أصلاً من أصول مذهبه، وهو ما عرف بعمل أهل المدينة. ونرقب أثر الواقع فى فقه الشافعى، فقد كان له مذهبان قديم وجديد، وما ذلك إلا نتيجة لتأثير الواقع عليه، ذلك أنه لما كان فى العراق كان له رأى، ولما سافر إلى مصر غيّر رأيه، وسبب تغير رأيه الأول أنه تأثر بالواقع الجديد، فواقع المسلمين فى العراق يختلف عن واقعهم فى مصر. إن عدم إدراك المجتهد لفقه الواقع يجعله بعيداً عن مقاصد النصوص وحكمها، فلا يستطيع أن ينزل الأحكام الشرعية على المسائل المستجدة، فيقتصر على ترديد أقوال السابقين دون مراعاة للمتغيرات، فيؤدى ذلك إلى تطبيق الأحكام على وجهٍ غير صحيح، ويؤدى إلى وجود المفسدة مكان المصلحة، وإلى وقوع الحرج الذى جاءت الشريعة بدفعه، مما يقوى الهجوم على الشريعة واتهامها بعدم الصلاحية. إن مجرد الاستشهاد بالآيات والأحاديث وتنزيلها على غير محلها أدى إلى الكثير من التناقض والتضاد، ودعا إلى التعسف فى التعامل مع النصوص الشرعية، يصف عمر عبيد حسنة هذا بقوله: (إن فقه النص دون فقه الواقع الذى يعد محل التنزيل يمثل نصف الطريق أو نصف الحقيقة التى توقف عندها الكثير من الفقهاء فى هذا العصر، والتى لن تحقق شيئا إذا لم نفهم الواقع، ولا يتّحصل فقه الواقع إلا بتوفر مجموعة من الاختصاصات فى شعب المعرفة.. حتى أننا لنعتقد أن الفقه الصحيح للنص فى الكتاب والسنة، يقتضى فهم الواقع محل النص فى ضوء الاستطاعات المتوفرة، وفى تقديرنا أن هذه المعادلة المطلوبة لقضية الاجتهاد، حتى يسترد العقل عافيته، والاجتهاد دوره، والوحى مرجعيته، ويقّوم الواقع بقيم الدين فهماً وتنزيلاً). إن عمل الفقيه هذا يشبه عمل الطبيب، ذلك أن الطبيب قبل أن يصف الدواء عليه أن يشخّص الداء، ويتعرف على حال المريض من جميع جوانبه، كذلك الفقيه عليه أن يحيط بالواقع المراد بيان الحكم الشرعى فيه من جميع جوانبه، كى يستطيع إنزال النص المناسب على الواقع، وما لم يفهم هذا الواقع بجميع جوانبه فإنه من المتعذر تصور الحكم الصحيح.