تبين لنا مما سبق من مقالات أن الاجتهاد الديني قصد به فقهاء أصول الفقه بذل الجهد في فهم النص الديني، وكما رأينا في المقالات السابقة أن الاجتهاد الوارد في نصوص الأحاديث لا يعني فهم النص الديني، وإنما يعني بذل الحاكم أو القاضي جهده في إنزال الحكم علي الواقعة المراد الحكم فيها أو عليها، هذا أمر، الأمر الآخر الذي يحمل خطورة كبيرة هو أن الفقهاء جعلوا ما ينتج عن اجتهاد المجتهد من أحكام نصوص وأحكام دينية تعادل نصوص القرآن وأحكامه وهنا مكمن الخطر، إذ كان علي الفقهاء أن يفصلوا بين النص الديني (القرآن وأحاديث الرسول) وبين فهم المجتهدين لهذه النصوص، وكان عليهم أن يبينوا للناس أن فهم المجتهدين للنص الديني هو فهم بشري يحتمل الصواب ويحتمل الخطأ. وكذلك من أخطاء الفقهاء في جعلهم الاجتهاد مصدرا من مصادر التشريع الديني أنهم قصروا مهمة الاجتهاد علي شخص بعينه أو مجموعة أفراد بعينهم، وهذا مخالف تماما لما ورد في القرآن الكريم، فالقرآن الكريم جعل عملية فقه الدين عملية جماعية يشترك فيها كل أفراد المجتمع الذين يجدون في أنفسهم القدرة علي فهم النص الديني وفق ضوابط النص الديني ذاته، وقد أحسن الفقهاء حين قاموا بإقرار بعض تلك الضوابط وليس جميعها، فقد حصر فقهاء أصول الفقه بعض ضوابط فقه النص الديني في أربعة شروط ذكرها عبدالوهاب خلاف في كتابه (أصول الفقه) علي النحو التالي: (يشترط لتحقيق الأهلية للاجتهاد شروط أربعة: الأول: أن يكون الإنسان علي علم باللغة العربية وطرق دلالة عباراتها ومفرداتها، وله ذوق في فهم أساليبها كسبه من الحذق في علومها وفنونها، وسعة الاطلاع علي أدابها وآثار فصاحتها من شعر ونثر وغيرهما، لأن أول وجهة للمجتهد هي النصوص في القرآن والسنة وفهمها العربي الذي وردت هذه النصوص بلغته، وتطبيق القواعد الأصولية اللغوية في استفادة المعاني من العبارات والمفردات. الثاني: أن يكون علي علم بالقرآن، والمراد أن يكون عليماً بالأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن، وبالآيات التي نصت عليها هذه الأحكام، وبطرق استثمار هذه الأحكام من آياتها، بحيث إذا عرضت له واقعة كان ميسوراً له أن يستحضر كل ما ورد في موضوع هذه الواقعة من آيات الأحكام في القرآن، وما صح من أسباب نزول كل آية منها، وما ورد في تفسيرها وتأويلها من آثار، وعلي ضوء هذا يستنبط حكم الواقعة. الثالث: أن يكون علي علم بالسنة كذلك، بأن يكون عليماً بالأحكام الشرعية التي وردت بها السنة بحيث يستطيع في كل باب من أبواب أعمال المكلفين أن يستحضر ما ورد في السنة من أحكام هذا الباب، ويعرف درجة سند هذه السنة من الصحة أو الضعف في الرواية. ولقد أدي العلماء للسنة النبوية خدمات جليلة، وعنوا بفحص أسانيدها ورواة كل حديث منها، حيث كفوا من جاء بعدهم مؤونة البحث في الأسانيد، وصار معروفاً في كل حديث أنه متواتر، أو مشهور، أو صحيح، أو حسن، أو ضعيف. وكذلك عني العلماء بجمع أحاديث الأحكام، وترتيبها حسب أبواب الفقه وأعمال المكلفين، بحيث يتيسر للإنسان أن يرجع إلي ما ورد في السنة الصحيحة من أعمال البيع أو الطلاق أو الزواج أو العقوبات أو غيرها، ويستطيع أن يرجع إلي الآيات والأحاديث التي وردت في موضوع واحد من موضوعات الأحكام، وعلي ضوئها يفهم الحكم الشرعي. الرابع: أن يعرف وجوه القياس، وذلك بأن يعرف العلل والحكم التشريعية التي شرعت من أجلها الأحكام، ويعرف المسالك التي مهدها الشارع لمعرفة علل أحكامه، ويكون خبيراً بوقائع أحوال الناس ومعاملاتهم، حتي يعرف ما تتحقق فيه علة الحكم من الوقائع التي لا نص فيها، ويكون خبيراً أيضاً بمصالح الناس وعرفهم، وما يكون ذريعة إلي الخير والشر فيهم، حتي إذا لم يجد في القياس سبيلاً إلي معرفة حكم الواقعة، سلك سبيلاً آخر من السبل التي مهدتها الشريعة للوصول إلي استنباط الحكم فيما لا نص فيه).