يحفل الفكر الإسلامي بكثير من القضايا الرصينة التي أنضجتها قرائح المحققين من العلماء, ثم وعتها ذاكرة الأمة علي امتداد التاريخ, ومن تلك القضايا قضية الاتصال الوثيق بين مفهوم( الشريعة). التي تحوي' أصول' الأحكام التي شرعها الله تعالي لعباده في( الكتاب والسنة) ليتعبدهم بها في الدنيا, ثم يحاسبهم عليها في الآخرة, وبين مفهوم( الفقه) التي يتضمن العلم بمجموعة الأحكام' التفصيلية' العملية استنباطا من أدلتها الشرعية في: الكتاب والسنة أو الإجماع, أو غيرها من المصادر. في إطار هذه العروة الوثقي بين الشريعة والفقه فإن' الفقه' باعتباره العلم الذي يضطلع بتفاصيل تلك الأحكام الشرعية وتحديد مدلولاتها, وبيان درجة الإلزام فيها: لابد أن يفهم علي أنه ليس منفصلا عن الشريعة ذاتها, وليس غريبا عنها وإنما هو ناطق بلسانها, مترجم عن محتواها, كاشف عن حكم الله تعالي المتضمن فيها!! أجل...إن الفقه يحوي تجسيدا خصبا لجهود عقول باذخة من الفقهاء, وثمرة ناضجة لنشاطهم الذهني المتوقد في استنباط الأحكام من أدلة الشرع:(الكتاب والسنة), ولكن تلك الجهود لا تخرج به عن إطار الشرع, لأنها جهود منضبطة بالشرع, مؤصلة بتأصيله, مؤسسة بتأسيسه, دائرة في فلكه. بيد أن فريقا من ذوي الأفهام الملتبسة من التنويريين يضيقون ذرعا بمكانة الفقه في الوعي الإسلامي العام, ولا يريدون له أن يظل حاكما علي أفاعيل البشر, أو ضابطا لأنماط سلوكهم, ويرون في التزام الأمة به, واستمساكها بأحكامه, واعتصامها بعروته: حائطا شاهقا وسدا منيعا في وجه دعاوي الحداثة والتنوير, ومن ثم فإنهم يباعدون بينه وبين الشريعة, لأنه كما يزعمون مجرد جهد بشري لا قداسة فيه, ولا مهابة له. فهذا أحدهم يقول في صراحة:' إن الأحكام التي يتضمنها الفقه بمختلف مذاهبه إنما هي أحكام من صنع البشر, وصل إليها الفقهاء عن طريق الاجتهاد', ومن ثم فهي لا تتمتع بقداسة الشريعة ولا تنضوي تحت إلزامها, ومن ثم أيضا فإن من حق كل عصر أن يكون له فقهه البشري الخاص, الذي لا يتقيد بأفهام سلف الأمة, ويتبع غير سبيلهم, فليس في الإسلام كما يتابع نصوص مقدسة إلا ما ورد في الكتاب والسنة النبوية التشريعية, وما اختلاف أحكام الفقهاء في مسألة واحدة برغم الاستناد إلي أدلة شرعية ثابتة إلا دليل علي أن الفقه من صنع عقول البشر!! ثم تري قائلا آخر منهم يقول: إن كثرة الآراء الفقهية المتتالية التي أدلي بها الفقهاء عن طريق فهمهم للنصوص القرآنية قد انتهت إلي' استنفاد' جميع إمكانات تلك النصوص التي تتيحها اللغة, مما جعل إغلاق باب الاجتهاد بل' انغلاقه' نتيجة حتمية, وأصبح من الضروري تأسيس التشريع لا علي النصوص , بل علي' المقاصد' التي تؤسسها المصلحة العامة والمثل العليا'!! هذه الأقاويل بحاجة إلي وقفات شتي: الأولي: إن القول بأن الفقه من صنع البشر إنما هو قول يلبس الحق بالباطل, فالجهد البشري في الفقه قاصر علي النشاط الذهني والفعالية العقلية التي يبذلها الفقيه في استخراج الأحكام واستنباطها من النصوص القطعية من الكتاب والسنة, دون أن يكون للفقيه يد في تحديد الحل والحرمة, أو الحلال والحرام, لأن هذه التحديدات مستقاة من الشرع المنزل نصا أو اجتهادا أو استنباطا, فكيف يقول هؤلاء الزاعمون إن الفقه من صنع البشر؟ إنه حين يتوجه الأمر الإلهي مثلا بالصيام في قوله تعالي:( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) ثم يستنبط الفقيه من تلك الآية الكريمة فرضية الصيام, وحرمة انتهاكه: فهل يكون هذا الحكم صناعة بشرية؟ الثانية: إنه ما كان للأمة أن تتعرف علي' المواقف العملية' لإنفاذ أحكام الشرع جملة وتفصيلا إلا عن طريق' الفقه', فجهود الفقهاء منذ عصر الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب تنصب في تحديد تلك التصرفات العملية اللازمة لتطبيق أوامر الشرع ونواهيه التي وردت علي نحو' مجمل' أو' عام' أو' مطلق', فهل تطرح الأمة تلك الجهود الباذخة التي أنجزها' الفقه' لتبحث لها عن طرق أخري تتخبط بها في دروب التيه, بغير هدي ولا كتاب منير؟ الثالثة: إن صاحب هذا الزعم الذي يجعل من اختلاف الأحكام الفقهية في مسألة واحدة دليلا علي أن الفقه إنما هو من صنع عقول البشر: يحسب أن اختلاف الفقهاء اختلاف منفلت يجازف فيه كل فقيه بما يعن له من شوارد الآراء أو يخطر علي ذهنه من خطرات المقالات دون قاعدة محكمة, أو أصل منضبط, مع أن قليلا من التأمل في التراث الفقهي الزاخر قمين بأن يقنع المرء بأن آراء الفقهاء علي اختلافها ما صدرت إلا علي أسس شرعية راسخة, يحكمها جهد أصولي فذ, يقوم علي تتبع الجزئيات, ثم ينظمها في عقد يضم شتاتها, ويجمع متفرقاتها, ومن أجل ذلك فإن كثيرا من المحققين قد ذهب إلي أن كل مجتهد في' الظنيات' التي تختلف فيها الآراء هو' مصيب', لأنه قد بذل غاية جهده, ومنتهي سعيه!! أما أولئك الزاعمون فإنهم يجعلون' بشرية الفقه' التي يدعونها: ذريعة لاجتهاد بشري مماثل يقومون به ويصوغون لبناته من' الواقع' بكل انحرافاته وسوءاته, ويبتدعون اتجاهاته بوحي من' المصلحة' المختلطة بالمفسدة, ولماذا لا يفعلون وهم يدعون لأنفسهم' حق الاجتهاد' دون أن يكون لديهم من أسسه وضوابطه نصيب؟! الرابعة: ذلك الزعم الذي يجعل بشرية الفقه: دعوة لا إلي غلق باب الاجتهاد فحسب بل إلي' انغلاق' باب الاجتهاد من تلقاء ذاته, ذلك لأن إمكانات النصوص الشرعية قد استنفدت, وليس ثمة مخرج عنده, إلا البحث عن' بديل' عن النصوص يتمثل في الارتكاز علي' المقاصد العامة', و'المصالح المشتركة' و'المثل العليا'!!. ولا شك أن مبعث هذا الزعم هو التعامل مع النص القرآني بعد تجريده من خصائص الوحي, ومقتضيات التقديس, وكأنه قصيدة من الشعر أو نص من النثر, وتلك إحدي سمات' القراءات الجديدة' للنص المقدس, تلك القراءات التي تبنتها شرذمة من التنويريين والحداثيين, في غفلة غافلة عن أن القرآن الكريم هو كتاب الله المعجز, الذي يعلو فوق مناهج البنيوية أو التفكيكية وغيرها, والذي يحوي من الأسرار والحكم ما يناسب كل جيل, دون أن تنفد عجائبه أو يخلق من كثرة الرد, كما سيظل حتي قيام الساعة زاخرا بالدلالات الهادية, والمعجزات الباهرة. ثم أقول: إن كل دعوة إلي طرح الذخيرة الفقهية الباذخة التي تمتلكها الأمة سواء بالدعوة إلي الفصل بين الفقه والشريعة, أو بالدعوة إلي' اجتهاد' مزيف لم يستوف أركان الاجتهاد وضوابطه, أو بالترويج' لتجديد' مجهول العواقب, باهت الملامح: فإنما هي دعوات ينبغي التعامل معها بحذر واع, ورؤية ثاقبة, وأناة متبصرة, حتي لا نكون كمن يستبدلون الذي هو أدني بالذي هو خير!!