أحمد موسى: زيارة الرئيس السيسي لمركز قيادة الدولة الإستراتيجي «رسالة مهمة»    النفط يسجل مكاسب أسبوعية وسط مخاوف الإمدادات بالشرق الأوسط    رصف الطرق الحيوية بمدينة البلينا جنوب سوهاج    «الفرصة الأخيرة اليوم».. طريقة حساب فاتورة الغاز لشهر «أبريل 2024»    انطلاق مسيرة ضخمة تضامنا مع غزة من أمام مبنى البرلمان البريطاني    إدخال 4000 شاحنة مساعدات لغزة من معبر رفح منذ أول أبريل    الزمالك يفوز على طلائع الجيش ويتأهل لنهائي كأس مصر للطائرة رجال    لمكافحة الفساد.. ختام فعاليات ورش عمل سفراء ضد الفساد بجنوب سيناء    مسعود يتابع الاختبار الشفوي لطلبة التمريض بالشرقية    أسستها السويسرية إيفلين بوريه، قصة مدرسة الفخار بقرية تونس في الفيوم (فيديو)    وسط حشد جماهيري كبير.. أحمد سعد يشعل أجواء حفله بولاية هيوستن الأمريكية|صور    مدبولى يشارك فى المنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض نيابة عن الرئيس السيسى    حزب "المصريين" يُكرم هيئة الإسعاف في البحر الأحمر لجهودهم الاستثنائية    تعرف على أفضل 10 مطربين عرب بالقرن ال 21 .. أبرزهم الهضبة ونانسي والفلسطيني محمد عساف (صور وتفاصيل)    توقعات عبير فؤاد لمباراة الزمالك ودريمز.. مفاجأة ل«زيزو» وتحذير ل«فتوح»    رمضان عبد المعز: على المسلم الانشغال بأمر الآخرة وليس بالدنيا فقط    وكيل صحة الشرقية يتابع عمل اللجان بمستشفى صدر الزقازيق لاعتمادها بالتأمين الصحي    استهداف إسرائيلي لمحيط مستشفى ميس الجبل بجنوب لبنان    طارق يحيى مازحا: سيد عبد الحفيظ كان بيخبي الكور    المصريون يسيطرون على جوائز بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية للرجال والسيدات 2024 PSA    سؤال برلماني عن أسباب عدم إنهاء الحكومة خطة تخفيف الأحمال    حكم الاحتفال بعيد شم النسيم.. الدكتور أحمد كريمة يوضح (فيديو)    بالفيديو .. بسبب حلقة العرافة.. انهيار ميار البيبلاوي بسبب داعية إسلامي شهير اتهمها بالزنا "تفاصيل"    بعد جريمة طفل شبرا الخيمة.. خبير بأمن معلومات يحذر من ال"دارك ويب"    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    الرضيعة الضحية .. تفاصيل جديدة في جريمة مدينة نصر    كيفية التعامل مع الضغوط الحياتية.. لقاء تثقيفي في ملتقى أهل مصر بمطروح    مصر ترفع رصيدها إلى 6 ميداليات بالبطولة الإفريقية للجودو بنهاية اليوم الثالث    رئيس الوزراء الفرنسي: أقلية نشطة وراء حصار معهد العلوم السياسية في باريس    إنجازات الصحة| 402 مشروع قومي بالصعيد.. و8 مشروعات بشمال سيناء    بالتعاون مع فرقة مشروع ميم.. جسور يعرض مسرحية ارتجالية بعنوان "نُص نَص"    خطة لحوكمة منظومة التصالح على مخالفات البناء لمنع التلاعب    فوز أحمد فاضل بمقعد نقيب أطباء الأسنان بكفر الشيخ    بيريرا ينفي رفع قضية ضد محمود عاشور في المحكمة الرياضية    «صباح الخير يا مصر» يعرض تقريرا عن مشروعات الإسكان في سيناء.. فيديو    التحالف الوطني للعمل الأهلي.. جهود كبيرة لن ينساها التاريخ من أجل تدفق المساعدات إلى غزة    الإمارات تستقبل دفعة جديدة من الأطفال الفلسطينيين الجرحى ومرضى السرطان.. صور    "بيت الزكاة والصدقات" يستقبل تبرعات أردنية ب 12 شاحنة عملاقة ل "أغيثوا غزة"    الشرطة الأمريكية تفض اعتصام للطلاب وتعتقل أكثر من 100 بجامعة «نورث إيسترن»    رئيس جامعة جنوب الوادي: لا خسائر بالجامعة جراء سوء الأحوال الجوية    الكشف على 1670 حالة ضمن قافلة طبية لجامعة الزقازيق بقرية نبتيت    مدير «تحلية مياه العريش»: المحطة ستنتج 300 ألف متر مكعب يوميا    النقض: إعدام شخصين والمؤبد ل4 آخرين بقضية «اللجان النوعية في المنوفية»    بالصور| "خليه يعفن".. غلق سوق أسماك بورفؤاد ببورسعيد بنسبة 100%    قائمة باريس سان جيرمان لمباراة لوهافر بالدوري الفرنسي    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    علي الطيب يكشف تفاصيل دوره في مسلسل «مليحة»| فيديو    قطاع الأمن الاقتصادي يواصل حملات ضبط المخالفات والظواهر السلبية المؤثرة على مرافق مترو الأنفاق والسكة الحديد    وزير التعليم ومحافظ الغربية يفتتحان معرضًا لمنتجات طلاب المدارس الفنية    «السياحة»: زيادة رحلات الطيران الوافدة ومد برنامج التحفيز حتى 29 أكتوبر    استمرار حبس عاطلين وسيدة لحيازتهم 6 كيلو من مخدر البودر في بولاق الدكرور    حصيلة تجارة أثار وعُملة.. إحباط محاولة غسل 35 مليون جنيه    أبو الغيط من بغداد: جريمة الإبادة في غزة ألقت عبئا ثقيلا لا يمكن تحمله    مستشار الرئيس الفلسطيني: عواقب اجتياح رفح الفلسطينية ستكون كارثية    الدلتا للسكر تناشد المزارعين بعدم حصاد البنجر دون إخطارها    أفضل دعاء تبدأ وتختم به يومك.. واظب عليه    خبير أوبئة: مصر خالية من «شلل الأطفال» ببرامج تطعيمات مستمرة    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد كمال أبوالمجد : عزلة المسلمين عن العالم مفهوم شديد الغرابة.. وجريمة (33)
نشر في الشروق الجديد يوم 08 - 11 - 2009

عالجنا فى الجزء الأول من هذه الدراسة قضية «منهج البحث» فيما طرأ على مسيرتنا نحن العرب والمسلمين من قصور وترد فى مستوى الأداء العام، كان من نتائجه تراجع مكانتنا بين الشعوب والأمم المعاصرة، وتعرضنا لأزمتين كبيرتين لانزال نلتمس طريق الخروج منهما؛ أزمتنا مع أنفسنا، وأزمتنا مع العالم وشعوبه من حولنا.
ثم توقفنا عند ظاهرة التصاعد المستمر لموجات «التدين»، ملاحظين أن هذا «التصاعد» وحده ليس بالضرورة دليلا على «تقدم حقيقى» لأمتنا، ولا هو دليل على «نكسة» وتراجع، وإنما العبرة بمضمون هذه الموجة وعلاقة عناصرها المختلفة بمسارات التقدم أو التراجع.
وكان ضروريا أن نتوقف عند هذا المنعطف أمام الصورة السائدة أو الغالبة للتدين الإسلامى المعاصر، وقفة نقدية كشفت لنا عن تناقض كثير من مكونات هذه الصورة مع جوهر «الرسالة الإسلامية» وحقيقة الأمانة التى حملها الإنسان يوم أسبغ الله عليه نعمة العقل، وسلطان الإرادة والقدرة على الاختيار.
وفى هذا الجزء الثالث والأخير من أجزاء هذه الدراسة نتوقف عند عدة مفاهيم أساسية، قد دخلها فى تقديرنا كثير من الانحراف أو الانعطاف عن التوجهات الأساسية لرسالة الإسلام، كما يحددها الإطار المرجعى لها متمثلا فى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، والسيرة النبوية التى أراد الله لها أن تكون ترجمة عملية لكل ما يريده الإسلام من المسلم، وهى مفاهيم ترتبط فى تقديرنا بجانبى الأزمة؛ جانبها الداخلى وجانبها الذى يتصل بعلاقتنا بالعالم ومكاننا فيه.
المفهوم الأول
الإسلام ليس رسالة جديدة من كل وجه، ولابد للمسلمين وغير المسلمين من فهم الإسلام فى إطار هذه الحقيقة:
والقرآن الذى هو المرجع الأكبر للرسالة التى أوحى بها إلى محمد «صلى الله عليه وسلم» يؤكد هذا المعنى فى آيات عديدة لا يتصور الذهول عن دلالتها الواضحة.
يقول تعالى مخاطبا نبيه «صلى الله عليه وسلم» والمسلمين: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، والذى أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه» (سورة الشورى الآية 421).
ويقول تعالى: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» (سورة البقرة الآية 62).
وهكذا أصبح الإيمان برسل الله وأنبيائه السابقين أمرا كتبه الله على جميع المسلمين، كما كتبه على خاتم الأنبياء والمرسلين بقوله تعالى: «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكتهِ وكُتبهِ ورسُلهِ، لا نُفَرِّقُ بين أحدٍ من رُسُلِهِ، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانكَ ربَّنا وإليكَ المصير» (سورة البقرة الآية 285).
والرسول «صلى الله عليه وسلم» حين أُسرى به من مكة إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء.. ذكر أنه صلى هناك بأنبياء الله السابقين، وهى إشارة لا تخفى إلى «وحدة الرسالات السماوية» وأن جوهرها واحد، ولكن مضامينها وشعائرها وأولويات التكاليف فى ظلها كان طبيعيا أن تختلف باختلاف السياق والمرحلة التاريخية والحالة المجتمعية التى أرسل فيها النبى أو الرسول..
ومن شأن هذا الجوهر الواحد أن يدرك أتباع الأنبياء والرسل أن بينهم نسبا وصلة تيسر تعاونهم جميعا على «البر والتقوى» وتتنادى فيهم بتوحيد الجهد لمقاومة الإثم والظلم والفسوق والعدوان، حتى لو بقى كل منهم على ما هو عليه من دين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وتلك سنة من سنن الله فى خلقه لا تتخلف أبدا: «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما آتاكم، فاستبقوا الخيرات» (سورة المائدة الآية 48)، وهو الاستباق الذى يتولد عنه الخير والصلاح ومحاصرة أسباب الفساد: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض» (سورة البقرة الآية 251).
توافق المؤمنين
إن العاملين فى ميدان الدعوة الدينية لا يجوز أن يفوتهم ملاحظة تيار جديد يتنامى يوما بعد يوم فى مشارق الأرض ومغاربها، ويتنادى أصحابه من أتباع الأديان المختلفة بالتنبيه إلى الأخطار المشتركة التى تهدد الإنسانية فى هذه المرحلة من تاريخها، والتى يحتاج دفعها إلى توافق بين جميع المؤمنين أصحاب المصلحة المشتركة فى درئها، ولهذا بدأ ما يسمى «حوار الأديان» يأخذ وجهة جديدة تحكمها قاعدتان: أولاهما قاعدة: «وتعاونوا على البر والتقوى».. والأخرى قاعدة: «لا إكراه فى الدين» و«لكم دينكم ولى دين».
وهذا الفهم الصحيح للعلاقة بين محمد «صلى الله عليه وسلم» والأنبياء من قبله عبر عنه النبى «صلى الله عليه وسلم» فى حديثه الذى يرسم صورة رمزية واضحة لهذه العلاقة: «إن مثلى ومثل الأنبياء من قبلى كمثل رجل بنى بيتا فزينه وجمله إلا موضع لبنة فى البناء، فجعل الناس يطوفون حوله ويعجبون ويقولون: لو وضع هذه اللبنة فأنا هذه اللبنة، وأنا خاتم الأنبياء».
إن الهدف من تصحيح هذا الفهم لمكانة الرسالة السماوية التى حملها خاتم الأنبياء «صلى الله عليه وسلم» بين رسالات السماء هو التذكر بأن الالتزام بثوابت العقيدة والمبادئ الكلية للشريعة الإسلامية، لا يجيز مطلقا تصور العلاقة بين المسلمين وغيرهم على أنها علاقة خصومة وصدام دائمين، مادام الأصل الذى يحكم هذه العلاقة هو مبدأ «تعاونوا على البر والتقوى»، أما بين الأركان الأساسية لرسالة الإسلام وبين ما يدين به غير المسلمين من اختلاف، هو أمر يفصل فيه الخالق سبحانه يوم القيامة، أما فى هذه الدنيا فنحن المسلمين مدعوون بل مأمورون بمعاملة غير المسلمين معاملة تحكمها روح العدل وتقديم البر: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون». (سورة الممتحنة الآية 8).
الشريعة والمواطنة
ويبقى مع ذلك وضع خاص للمسلمين لا يجوز نسيانه أو تجاهله، وهو أننا نحن المسلمين المصدقين بنبوة محمد «صلى الله عليه وسلم» نعرف أن الكتاب الذى أنزل معه قد جاء «مصدقا لما بين يديه من الكتاب» (سورة المائدة الآية 48)، وأن العقيدة والنظام الأخلاقى الذى قامت عليه قد جاء معهما نظام تشريعى ضخم يستمد قيمه من قيمها، ويكفل تحقيق المصالح ودرء المفاسد على نحو متجدد ومتطور باستخدام أدوات الاجتهاد والتجديد التى تجد أصلها فى القرآن والسنة، والتى ضبط فقهاء المسلمين ومجتهدوهم عبر القرون وسائل استخدامها واستمداد الأحكام منها، وهذا أمر تفردت به الرسالة الخاتمة دون أن يمس هذا التفرد «الجوهر الواحد» لكل رسالات السماء التى حملها الأنبياء والمرسلون من قبل..
غاية ما هناك أن أولئك الأنبياء قد كان الواحد منهم يبعث فى قومة خاصة، بينما أرسل محمد «صلى الله عليه وسلم» للناس كافة متمما لرسالة من سبقوه من الأنبياء والرسل؛ ولهذا، ولأنه خاتم النبيين فقد اكتسبت قضية «التشريع الإسلامى» مكانا ومكانة خاصة عند المسلمين لا مقابل لها عند سائر أهل الكتاب، وهو أمر يحتاج إلى تفهم كامل وضرورى من جانب غير المسلمين دون أن يمس ذلك من قريب أو بعيد الحق المطلق لغير المسلمين فى دولة «مدنية» كمصر، فى أن تجرى معاملتهم فى كل صغيرة أو كبيرة وفى إطار فكرة «المواطنة» على أساس المساواة التامة فى الحقوق والحريات الشخصية والمدنية والسياسية.
أما الالتفات عن مكانة الشريعة الإسلامية فى الاعتقاد الإسلامى، والدعوة إلى تجاهل تلك المكانة أو العمل على محوها فإنه يظل فى تقديرنا أمرا غير معقول، ولا مقبول ولا هو لازم لتحقيق المساواة والعدل بين جميع المواطنين فى تمتعهم بالحقوق الشخصية والمدنية والسياسية.
وفى زماننا هذا تتجاوز العلاقة بين جميع المؤمنين هذا كله لتصل إلى التعاون الإيجابى والعملى، والسعى المشترك لوضع نظام دولى جديد يضبط العلاقات بين الدول والشعوب على اختلاف أديانها وعقائدها ومذاهبها على أساس التعاون لدفع الأخطار المشتركة، وحماية القيم الإنسانة المشتركة فى ظل سيادة القانون، وبمقتضى هذا النظام العالمى الجديد تقيم الشعوب حكومات يسودها «قانون» يستظل بظله الجميع، لا حكومات أشخاص يتحكم فيها أفراد الحكام وهم جميعا بشر يصيبون ويخطئون، ومن تحل إرادتهم محل القانون فقد يعدلون يوما ويظلمون أياما آخر.
المفهوم الثانى:
إن شمول الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان لا يعنى أن أحكامه التفصيلية التى تنظم المجتمعات أحكام جامدة ثابتة لا تتغير أبدا وإنما تعنى أنه وقد جاء «رحمة للعالمين» فإن شريعته لابد أن تبقى أبد الدهر قادرة على التطور والتغير فى بعض أحكامها التفصيلية حتى تؤدى وظيفتها فى تحقيق المنافع ودرء الأخطار والأضرار، ونظرا لأن أصول الشريعة ومبادئها الكلية قد جاءت بوحى إلهى حمله للناس جميعا رسل الله وأنبياؤه، فقد جاءت النصوص القطعية فى الأمور التى لا تتغير عادة بتغير الزمان والمكان والأحوال مفصلة تفصيلا مناسبا.
بينما جاء غيرها مما يرتبط بأزمنة معينة وأمكنة معينة، مجملا وعاما ليعيش الناس فى سعة من أمرهم وليتوصلوا بأدوات الاجتهاد التى وضعها الله بين أيديهم إلى اختيار ما يحقق أتم رعاية للمصالح الكبرى، وأكمل درء للمفاسد الكبرى.. وهذا هو التجديد الواجب على الأمة، ينوب عنها فى أدائه أهل الاختصاص والذكر من علمائها وساستها.
وفى إطار هذه الشمولية، وتحت مظلة الإيمان بالنقل والثقة بالعقل، فإننا ندعو القائمين بالدعوة والمسئولين دينا وقانونا عن تقديم الفتوى وإبداء الرأى لجمهور السائلين والمستفسرين، ندعوهم إلى مداومة التذكير بأعلى صوت وأوضح عبارة بأن الإسلام نظام للحياة، مبنى على ظواهرها محكوم بنواميسها، مردودة أحكامه إلى العلل المنضبطة التى تدركها العقول، وأن أحكام شريعته تدور مع هذه العلل ولا تنفصل عنها، ولو انفصلت فى عقول المسلمين وفى ساحات مجتمعاتهم لذهبت الرحمة وسقط العدل واستحال التكليف، وليس للإسلام باطن خفى مستور يستأثر بعلمه أقوام دون أقوام إلا أن يكون تجربة روحية ذاتية من حق أصحابها أن يخوضوها وأن يذوقوا ثمارها فى صمت وتواضع، دون أن يشغبوا على جماهير المؤمنين بحديث عنها كله رموز وإشارات تضر ولا تنفع، وتهتز بها فى عقولهم وضمائرهم الموازين، والقول بغير هذا فيما نرى مردود على أصحابه لتعارضه مع توجيه رسالة الإسلام للناس كافة وتيسير القرآن للذكر ليعمل به كل الناس..
نقول هذا ونحن نعرف أن التصوف جزء من تراث الإسلام وتاريخ المسلمين وثقافتهم، ذكر قلوبا غافلة، ونبه عقولا ناسية، وأدب كثيرين بأدب الإسلام، أما الإسلام الذى يجب أن نستودعه عقول الجيل الجديد من الشباب هو إسلام الحركة والقوة والصحوة والأخذ بالأسباب، لا إسلام الحروف والأشكال والاكتفاء بتقليد الأولين، والذهول عن السياق الجديد الذى تتبدى به المشاكل والتحديات.
أما المقلدون الجامدون الذين يتقاعسون عن الاجتهاد، ويغلقون أبوابه فعلا وإن لم يغلقوها قولا.. فإنهم يقفون عائقا دون تجديد الفقه ومراجعة الفكر، ويسدون على أنفسهم وعلى الناس كثيرا من أبواب الحق والخير.. لهذا لم يكن أمامنا بد من كسر هذه الحواجز الموهومة، واستهلال ثورة ثقافية تجدد الفكر وتصححه، ويتجدد بها الفقه ويزداد نفعه وتألقه..
والمسئولية عن هذه الثورة البيضاء المشرقة تستقر فى يد فريقين؛ فريق «الأمراء» وهم أولو الأمر من الحكام، وفريق «العلماء» الذين قال فيهم الإمام مالك رحمه الله أنهم يسألون يوم القيامة فيما يسأل عنه الأنبياء، والذين وصفوا بأنهم «ورثة الأنبياء» لأن «الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا ولكن ورَّثوا هذا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر».
وإذا كنا قد أشرنا فى أول هذه الدراسة إلى عواقب الجمود والتقليد وترك الاجتهاد الذى تستجيب به الشريعة لما لا ينتهى من مستجدات الحوادث والأمور، كما أشرنا إلى ظاهرة المسارعة إلى الفتيا من غير القادرين عليها والمؤهلين لها، مما يصل إلى الانفلات التام والعبث بمصائر الأمم والشعوب، فإننا لا نتردد فى تقرير أن إحجام العلماء أو ترددهم فى الاجتهاد بعد أن حازوا أدواته وعرفوا مداخله ومخارجه هو الذى يفتح الأبواب أمام من لاحظ له من أدوات الاجتهاد وشروطه، وأن وجوب الاجتهاد يقتضى تنظيم القيام به وإحكام أدائه من خلال تنظيمات مؤسسية لا تختلط معها الأفكار والآراء، ولا تعم بها الفوضى الفكرية على النحو الذى نراه ونشكو منه هذه الأيام، إذ إن «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، والأمر لم يعد يحتمل التهاون أو التردد أو التأجيل.
المفهوم الثالث:
المسلمون ليسوا أبدا وما كان لهم أن يكونوا فى حرب مع العالم وشعوبه، وإنما هم فى دعوة متجددة، تحتاج إلى تواصل ومحبة على طريق مشترك.. أداتهم فيها الكلمة الطيبة وتبادل الرأى جدالا «بالتى هى أحسن»، وهى مسيرة لا يستباح فيها العنف والعدوان وتبادل الأذى، وإنما ينبغى لها الرفق والمودة وحسن الصلة، ذلك أن الرفق كما يقول الحديث الشريف «ما دخل فى شىء إلا زانه وما نزع من شىء إلا شأنه».
أما حرمة الدماء فإن شأنها فى الإسلام شأن عظيم، وحرمتها أكبر عند الله من حرمة الكعبة المشرفة بيت الله الحرام الذى نتعبد بالطواف حوله يوم الحج الأكبر، وفى الحديث الشريف «أن المسلم لا يزال فى فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما».. ولن تفلح جهود الداعين للإيمان على بصيرة الحريصين على جمع عقول الناس وقلوبهم حول قيم الحق والعدل والرحمة والسلام إلا إذا احترموا محارم الله فى الأنفس والدماء والأموال والأعراض.. وإلا إذا أضاءت السماحة سيماهم وأشرقت وجوههم بابتسامة المُحب الحريص على الناس جميعا، تأسيا برسولهم وترجمان قرآنهم والذى كان، كما تقول أم المؤمنين عائشة «رضى الله عنها»: «هينا لينا بساما وكان أرق الناس».
وفى زماننا هذا اختلط الأمر على كثير من الدعاة والمتصدرين للفتوى دون أن يحوزوا شروطها، مستبيحين من حقوق الناس وحرماتهم ما لا يبيحه الإسلام، وقدموا الإسلام للدنيا كلها فى إيهاب من القسوة والعنف، فصار بعضهم وأسفاه نذر عذاب وقسوة، بينما كان نبيهم الذى يتحدثون باسمه واسم الرسالة التى بعثه الله بها رحمة للعالمين «عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم».
المفهوم الرابع محاربة الدعوة إلى العزلة:
فعزلة المسلمين من العالم مفهوم شديد الغرابة، شديد البعد عن روح الإسلام وتوجيهاته.. ونبينا «صلى الله عليه وسلم» لم يكد يستقر فى المدينة المنورة حتى بادر بالاتصال بالحكام والملوك وزعماء الناس فى شتى الأقطار، مناديا بالإيمان، وداعيا للهدى، ومبشرا بالسلام.
والرسالة السماوية التى حملها «صلى الله عليه وسلم» وبلغها وذكر بها زاخرة بالدعوة للتواصل وتذكير أتباع الأنبياء بأن هؤلاء الأنبياء «أبناء عِلات أمهاتهم شتى وأبوهم واحد».
والعزلة اليوم لم تعد ممكنة..
فضلا عن أنها لم تكن أبدا محققة مصلحة ولا مطلوبة لدنيا أو دين، ولا يجوز اليوم لمسلم واحد فى أى مكان فوق هذه الأرض أن يجهل أو أن تغيب عن عقله ووجدانه حقيقة التطور المذهل فى وسائل التعلم والانتقال والاتصال، حتى صارت أخبار الدنيا كلها تصل إليه وتمس جوانب حياته المختلفة وحياة أهله وجيرانه، وهو جالس فى مكانه، وقبل أن يقوم من مقامه أو يرتد إليه طرفه، فأنى له أن ينعزل عن ذلك كله فى حوزة مغلقة لا تخترقها الصور والأصوات ولا تقتحمها الأفكار والمذاهب وحرارة التنافس والتدافع بين الأفراد والشعوب.
إن تجاهل هذه الحقائق، والإصرار على الاحتماء من عناصرها بعزلة اختيارية يفرضها كثير من الناس على أنفسهم، يشكل فى تقديرنا جريمة جهل عمدى لا يشفع فيه عذر أو تعلل بأسباب ومعاذير.
نعم إن «الدولة» بمفهومها الحديث لاتزال حقيقة سياسية وقانونية قائمة، ولكن «العولمة» التى فرضتها ثورة أدوات الانتقال ووسائل الاتصال قد جعلت الثقافات التى تتوزع الأمم والشعوب فى حالة اتصال دائم وتبادل للتأثير..
ونحن العرب والمسلمين نحتاج اليوم إلى استرداد ثقتنا بأنفسنا وفهمنا للمضامين الإنسانية الكبرى لثقافتنا العربية والإسلامية ومقاومة تيار «الانقلابيين» الذين بدا لهم فى ساعة غفلة أو ساعة عبث أن التخلى عن قيم هذه الثقافة ومعالمها الكبرى هو الطريق الذى لا طريق غيره للدخول فى «دين الحداثة الجديد»، الذى تحكمه ثقافة غربية لا نقول إن كل ما فيها شر ينبغى تجنبه، وإنما نقول إنها نتاج بشرى له ما له وعليه فى مراحله المختلفة ما عليه وأن التواصل بين الثقافات ينبغى أن يجرى فى إطار من الندية، والوعى بالأخطار المشتركة وتعظيم فائدة التبادل الذى يحقق المنافع المطلوبة ويقلل المفاسد المتوقعة.
ولنتذكر جميعا أن الله ليس بينه وبين أحد نسب، وإنما هى أعمالنا ترد إلينا.. ولن يستطيع العرب والمسلمون أن يبنوا مجتمعاتهم ويجددوا نهضتهم إلا بأمور ثلاثة:
1 الوعى بالذات الثقافية، وتعزيز القيم الكبرى التى تعبر عن هذه الذات والتمسك بها فى وجه نداءات «العولمة الثقافية» التى تجرد الشعوب من هويتها، مهددة بهذا التجريد عنصر «التعددية» والتنوع فى المسارين الثقافى والسياسى للنظام العالمى.
2 الأخذ «بالعلم» فى جميع فروعه وساحاته تأهيلا للأجيال، ومنهجا لكل فكر، وأساسا لكل قرار.. وسلاحا لا يعلو عليه سلاح فى معارك التدافع والمنافسة بين الشعوب «ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض» (سورة البقرة الآية 251).
ثورة ثقافية شاملة تضبط «الكلمة» وتعلم الناس القراءة وتحملهم عليها، فإنما العلم بالتعلم، وطلبه كان ولايزال فريضة تعلى من جديد قيمة العمل، وتعتبر تجويده وإتقانه حجر الزاوية وضمان النجاح لكل مجهود تبذله الأمة على طريق إصلاح ما فسد، وتقويم ما اعوج من أمورها..
بعد أن اختلطت فى حياتنا الأولويات، وغلبت الأشكال على المضامين، وانشغل كثير منا بالبحث الطويل فى أمور العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر، وامتلأت الكتب والصحف بجدل طويل حول قضايا فرعية أو جزئية ليس لها مكان الصدارة بين أولويات المهام الكبرى التى يتحملها هذا الجيل من المصريين ومن العرب والمسلمين، كما قامت حروب كلامية وملاسنات حادة وجارحة حول قضايا سياسية يحتاج بحثها فى سياقها الجديد إلى جهد معمق وتفكر طويل، كقضية الحكم فى المجتمع الإسلامى، وحقيقة الخلافة التى يراد إحياؤها، ونسى كثيرون من أطراف هذا الحوار أن العبرة عند الله وعند الناس إنما هى بالمقاصد والمعانى وليست بالأشكال والمبانى، وأن الحكم أيا كان اسمه ووصفه لا يكون «إسلاميا» عند الله وعند الناس، إلا إذا قام على الشورى بأوسع معانيها، وأقام العدل الذى جعله القرآن اسما من أسماء الله تعالى، وساوى بين الناس الذين خلقهم الله سواسية كأسنان المشط، ونصر الضعفاء وقام بحقوق ذوى الحاجات.. والتجارب الإنسانية لا ترفض أبدا لمجرد أنها نمت وجرت فى أرض غير مسلمة أو تحت راية غير راية الإسلام، فالحق هو الحق، والعدل هو العدل، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها التقطها وهو أولى الناس بها.
3 إصرار على جمع الكلمة، وضبط منهج «الاختلاف فى الرأى وزوايا النظر وترتيب الأولويات»، وإدراك المقاصد والغايات وتصور العواقب والمآلات عند اتخاذ القرارات وإصدار الفتاوى ووضع التشريعات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.