الأمر الذي يدعو إلي الاحتكام إلي الإسلام طلبا لكلمة سواء في هذا الأمر الخطير. وإذا كان إسلامنا قد علمنا أن معرفة الحق هي السبيل إلي معرفة أهله، وأن الإسلام هو الحاكم علي الرجال دون أن يكون في تصرفات الرجال إذا تنكبت طريق الحق ما يعيب الإسلام ومن ثم فإن علي مختلف الفرقاء الذين يدافعون عن الإسلام دفاع الدبة التي قتلت صاحبها من فرط حبها، غير الواعي - إياه وأيضا أولئك الذين يتلقفون صنيع هذه الدبة لتشويه الدعوة المقدسة والنبيلة من أجل استكمال أسلمة الواقع والقانون في مجتمعات المسلمين إن مختلف الفرقاء في هذه القضية يدعوون إلي الاحتكام إلي الحق، كما تمثل في أصول الإسلام - قرآنا وسنة - وفي فكر إعلامه وهي تطبيقات هذه الأصول ومناهج هؤلاء الأعلام ومنهم علماء وأعلام الأزهر علي امتداد تاريخه العريق. فالله سبحانه وتعالي يعلمنا بقرآنه الكريم تفرده وحده، واختصاصه دون سواه بالحكم علي العقائد والضمائر والأفئدة والقلوب، لأنه وحده صاحب العلم المحيط بما فيها لم يعط شيئا من ذلك لأحد سواه "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولاتقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيراً" النساء: "94". ولقد وقف أئمة تفسير القرآن الكريم وأعلامه أمام هذا التوجيه القرآني والفريضة الإلهية، وقفة ذات دلالة فقالوا لنا: إن في هذا التوجيه الإلهي من الفقه باب عظيم وهو أن الأحكام تناط بالمظان والظواهر، لا علي القطع وإطلاع السرائر فالله لم يجعل لعباده غير الحكم بالظاهر، فعلي الذين يقلدون الكهانة الكنسية، باسم الإسلام وأيا كانت مواقعهم يتقوا الله في الإسلام الذي لم يحفظوا كتابه ولم يفقهوا علومه، ولم يكتبوا في فكره كتابا واحدا؟ وعلي أعداء الشريعة وأنصار التغريب والمبشرين بالتبعية للحضارة الغربية أن يعلموا أن هذه الصغائر ليست من الإسلام في شيء ومن ثم فلا حجة فيها علي الإسلام. ورسول الإسلام صلي الله عليه وسلم هو الذي نتعلم منه النهج والقدوة في هذا المقام جاءه نفر من صحابته يحدثونه عن الوساوس التي جعلتهم يشكون في جوهر الدين ومحور التدين في ذات الله؟ فلم يجزع رسول الله صلي الله عليه وسلم ولم ينهرهم ولم يتصيد مواقف الضعف ليوجه الاتهامات بل وصف حالهم وقلقهم الفكري وشكهم المنهجي الباحث عن سبل اليقين بأنه صريح الإيمان ومحض الإيمان ولبه وجوهره ففي الحديث الذي يرويه أبوهريرة يقول جاء نفر من الصحابة إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالوا: " يا رسول الله، إن أحدنا يحدث نفسه بالشيء ما يحب أن يتكلم به وإن له ما علي الأرض من شيء وإنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به فأجابهم الهادي البشير "وقد وجدتموه" قالوا نعم فقال: "ذلك صريح الإيمان ذاك محض الإيمان". وإنها لشهية وحاسمة قصة ذلك الحديث الذي رواه بطلها أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال بعثنا رسول الله صلي الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات "مكان" فأدركت رجلا فقال لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلي الله عليه وسلم فقال: أقال لا إله إلا الله وقتلته؟ قال قلت يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح. قال: "أفلا شققت عن قلبه لتعلم أقالها أم لا؟" فمازال يكررها علي حتي تمنيت أني أسلمت يومئذ رواه مسلم وابن ماجة والإمام أحمد. وأمام هذا النهج النبوي والموقف الإسلامي الجامع يقف الإمام النووي وهو يشرح صحيح مسلم فيقول: إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان وأما القلب فليس لك طريق إلي معرفة ما فيه، فعلي الذين لم يفقهوا نهج الإسلام في صيانة العقائد عن عبث الأحكام وطائش القرارات، أن يتقوا الله في هذا النهج الذي تميز به الإسلام وامتاز علي غيره من الديانات. وعلي الذين يكيدون للإسلام ونهجه بتصيد العابث من الأحكام والطائش من القرارات أن يميزوا بين هذا النهج الراقي للإسلام الحنيف وبين عبث العابثين، فمعرفة الحق هو السبيل إلي معرفة أهله - وليس العكس - وليس في حكم الرجال ما ينهض حجة علي الإسلام؟ إن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والنهج الذي انتجهه أئمة الإسلام وأعلامه وجسدته مواقف الأزهر الشريف، عبر تاريخه العريق ما كانت إلا مقارعة الحجة بالحجة والدعوة إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة والتحرج كل التحرج من الكهانة والسلطة الدينية في الحكم علي الضمائر والعقائد والأفئدة والقلوب. إن طوق النجاة لهذه الأمة إنما يكمن في الإبداع والاجتهاد والتجديد الذي تصوغ به مشروعها الحضاري المتميز عن المشروع الغربي كشرط ضروري لنجاح جهادها المقدس لوضع هذا المشروع في الممارسة والتطبيق. وإن هذا البلاء المتمثل في ضيق الأفق وضيق الصدر الفكري إلي حد تكفير المخالفين هو أعدي أعداء الإبداع والاجتهاد والتجديد فليتق الله المخلصون الغافلون من مختلف الفرقاء.