«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإسلام والدولة المدنية
بقلم‏:‏ عبد الرحيم علي

الحلقة الأولي: الطاعة‏,‏ في الثقافة العربية‏,‏ فضيلة الفضائل‏,‏ والضمان الأكبر لاستقرار المجتمع وتماسكه‏,‏ وهي وفق هذا المنظور صالحة لكل زمان ومكان‏
مثل هذه الفضيلة الراسخة‏,‏ التي تتكيء علي مفهوم ديني‏,‏ وتستهدف المصالح الدنيوية ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمثابة الداء العضال الذي يفضي إلي شلل العقل‏,‏ ويقود الي العجز عن الإبداع والتجديد ويعرقل
كل رغبة في التفكير الحر المستقل‏,‏ وينتهي بنا إلي الاستسلام
السلبي لمتغيرات الواقع المعقد الذي لا يكف عن التغيير‏.‏إن الأنظمة الشمولية الديكتاتورية المتسلطة جميعا‏,‏ مع اختلاف النشأة والفكر الذي يحكمها‏,‏ تريد مواطنا مطيعا خائفا خاضعا لكل ما هو موروث جامد‏,‏ وكارها لكل ما هو جديد متجدد‏.‏
من المنطقي أن يقود الجمود‏,‏ والإعراض عن التجديد‏,‏ والتشبث بكل ما هو تقليدي استاتيكي‏,‏ إلي حالة فكرية خطيرة‏,‏ تتجلي أهم مظاهرها في الاعتقاد اليقيني بامتلاك الحقيقة المطلقة والصواب الذي لا يداخله الشك‏,‏ وهو إيمان يقترن بالماضي وحده‏,‏ ويتعلق بالأفكار القديمة مهما تنأي عن روح العصر وتتناقض مع إيقاعه المختلف‏.‏
مناقشة قضية مهمة مثل حرية الرأي والتعبير في الإسلام تستدعي التوقف أمام بعض الإشكاليات التي يتجاوزها من يقنعون بالظاهر السطحي‏,‏ ويقفزون إلي النتائج التي يرغبونها ويريدون البرهنة عليها‏,‏ دون نظر إلي المقدمات والجذور والممارسات المتراكمة عبر قرون مضت إلي أيامنا المعاصرة‏.‏
الإشكالية الأولي‏:‏
تتعلق بالتداخل بين النظري والعملي في التعامل مع التراث الإسلامي‏,‏ ففي نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وهي الأساس النظري ما يتيح القول بأن الإسلام يعلي من شأن الإنسان وحقوقه‏,‏ ويتيح حرية التعبير دون قيود‏.‏ وفي المقابل‏,‏ فإن التاريخ الإسلامي وممارسات المسلمين‏,‏ تقدم سلوكا عمليا يختلف جذريا عن ذلك الإطار النظري المثالي‏.‏ وفي هذا السياق‏,‏ يؤكد بعض الباحثين أن الإسلام سابق للمواثيق الدولية الحديثة التي تدعو إلي حقوق الإنسان وحريته في التعبير‏,‏ لكن هؤلاء يستندون في أحكامهم علي قراءة النصوص وحدها‏,‏ بمعزل عن السياق التاريخي الذي يفرز الضد‏,‏ ويشير إلي غلبة الممارسات التي لا تمت بصلة إلي القرآن والسنة‏.‏
الإشكالية الثانية‏:‏
تتمثل في ضرورة الانتباه إلي التمييز بين حرية التعبير في إطار الالتزام الديني‏,‏ وحرية التعبير في إطارها العام الذي يتعلق بالدنيا وشئونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية‏.‏
حرية التعبير قد تعني الحق في الاجتهاد والاختلاف من منطلق ديني صرف‏,‏ ولكن إطلاق الحق يصطدم بالكثير من المعوقات التي تقيد الحرية موضوعيا وتضع مرجعية مقدسة لا ينبغي تجاوزها‏,‏ ولا يمكن إهمالها أو إهدار خطورتها‏.‏
ومن هنا فإن غير المسلمين‏,‏ ومن خلال استقرائهم لمعطيات التاريخ الإسلامي‏,‏ قد يذهبون إلي القول بأن مفهوم حرية التعبير في الإسلام إنما يعني حق المسلمين وحدهم في اعتناق رؤي مختلفة تنم عن تباين فهمهم للدين واجتهادهم في التأويل علي أساس الانتماء إلي الإسلام‏,‏ وبذلك فإن الحق في التعبير ليس متاحا للجميع‏,‏ ولا يعني تجاوز الديني إلي الدنيوي‏.‏
الإشكالية الثالثة‏:‏
تتجسد في القراءة الانتقائية غير الموضوعية‏,‏ التي يلجأ إليها كثير من أنصار الإسلام وخصومه‏,‏ فكل فريق يقرأ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ويفسرها كما يحلو له‏,‏ وكل فريق يبحث عن دليل لإثبات وجهة نظره والانتصار لها‏,‏ ولا يبالي كلا الفريقين بما يختارون أوبما يهملون‏,‏ المهم هو البرهنة علي صواب الرؤية المراد إثباتها والتدليل عليها‏.‏
دراستنا هذه تسعي إلي التعرف الموضوعي علي مفهوم حرية الرأي والتعبير في الإسلام باعتباره الركيزة الأساسية التي بدونها تسقط كل فروع الدولة المدنية ومدعيها‏,‏ وذلك في إطار اجتهاد عقلاني‏,‏ يعي خطورة وأهمية الإشكاليات الثلاث التي أشرنا إليها آنفا‏.‏ وفي هذا السياق‏,‏ تضم الدراسة ثلاثة أقسام‏.‏
أولا‏:‏ القرآن وحرية الرأي والتعبير‏.‏
ثانيا‏:‏ سنة الرسول‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ وحرية الرأي والتعبير‏.‏
ثالثا‏:‏ حرية الرأي والتعبير في الفكر الإسلامي‏.‏
وغاية ما يأمله الباحث أن يكون اجتهاده نافعا في تسليط الضوء علي قضية خطيرة‏,‏ تتعلق بالفكر الإسلامي من ناحية‏,‏ وهو الذي يتعرض لكثير من سوء الفهم من قبل كثير من الجاهلين به والمحسوبين عليه‏,‏ خاصة أولئك الذين رفعوا شعاراته زورا وبهتانا في محاولة للمرور عبرها إلي ما يخططون له‏,‏ وهو الدولة الدينية‏,‏ وتتعلق بواقع المسلمين ومستقبلهم من ناحية أخري‏,‏ من منطلق أنهم جزء من المنظومة الإنسانية الشاملة‏.‏
قضايا جوهرية‏:‏
يهدف هذا التمهيد إلي مناقشة بعض المصطلحات والقضايا الجوهرية‏,‏ التي يري الباحث أن الوعي بأبعادها يمثل مدخلا لاغني عنه‏,‏ من أجل الإدراك الصحيح المتكامل لمفهوم حرية الرأي والتعبير في الإسلام‏:‏
مكانة الإنسان في الإسلام
ثنائية الجبر والاختيار
معني الاجتهاد وأهميته
مكانة الإنسان في الإسلام‏:‏
إذا كان حق الإنسان في التعبير الحر عن آرائه وأفكاره ومعتقداته مطلبا لاغني عنه ولا تفريط فيه‏,‏ كما تدعو مفاهيم وقيم العصر الحديث‏,‏ فإن الإحاطة الواعية الموجزة بنظرة الإسلام إلي الإنسان‏,‏ تبدو ضرورية قبل التطرق إلي مناقشة موقف الإسلام من حرية الرأي والتعبير‏.‏
ينظر القرآن الكريم إلي الإنسان علي اعتبار أنه قيمة غالية ثمينة‏,‏ فهو خليفة الله علي الأرض‏,‏ والمسئول عن تحمل الأمانة الثقيلة التي لا تطيقها الكائنات والمخلوقات الأخري‏:‏
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعملون‏(‏ البقرة‏:30)‏
لقد وردت مفردة الإنسان في عشرات من الآيات القرآنية‏,‏ وكثيرة هي الدراسات التي توقفت أمام صورة الإنسان في القرآن الكريم‏(‏ عباس محمود العقاد‏:‏ الإنسان في القرآن‏,‏ دار الهلال‏,‏ القاهرة‏,1966).‏ لا تتسع المساحة هنا لتقديم عرض تفصيلي للجوانب المختلفة عن طبيعة الإنسان في القرآن‏,‏ ولكن الركائز المهمة لهذه الصورة‏:‏
‏1‏ الإنسان خليفة الله علي الأرض‏.‏
‏2-‏ وهو المسئول عن إعمار الكون واستمرار وجوده‏.‏
‏3‏ مثل هذه المهمة الجليلة لا تنافي محدودية الكائن الإنساني‏.‏
‏4-‏ يختلط الخير والشر في أعماق الإنسان‏,‏ فهو ليس ملاكا ولا شيطانا‏.‏
‏5-‏ هذا الاختلاط والتداخل هو ما يجعل من الإنسان كائنا متفردا‏,‏ ذا إرادة وقدرة علي التمييز بين الخير والشر‏.‏
الإنسان مجبول علي الفساد والإفساد وسفك الدماء‏,‏ والإنسان وهذا سر عظمته وتميزه يمتلك التي تتيح له أن يسعي إلي الإرتقاء والسمو‏,‏ ولابديل عن امتلاكه للأدوات التي تتطلبها الإرادة‏:‏ إعمال العقل‏,‏ والقدرة علي التعبير‏,‏ والحق في إبداء الآراء المخالفة للسائد والشائع‏.‏
لا يمكن‏-‏ منطقيا أن يكون خليفة الله علي الأرض عرضه للاضطهاد والظلم والقهر والقمع والكبت‏,‏ والقرآن الكريم يمنحه ما يستحق من الاحترام والتقدير والتبجيل‏,‏ لكن المشكلة فيمن يفهمون القرآن ويفسرونه ويحولون أحكامه الإلهية السامية إلي دولة وسلطان وسياسة قوامها المصلحة والمنفعة‏.‏
المحافظون المتزمتون‏,‏ يدعون إلي الأخذ بالنص الحرفي للعقيدة بلا تصرف‏,‏ ولايعترفون إلا بالأوضاع التي وردت في ذلك النص والحلول التي أتي بها لهذه الأوضاع‏.‏ ومن الواضح أن هذا الموقف يؤدي إلي ايجاد هوة سحيقة‏,‏ وازدواجية عميقة‏,‏ بين المصدر الذي يستمدون منه أفكارهم ويبنون عليه تصرفاتهم‏,‏ وبين الظروف الفعلية التي يعيشون فيها‏.‏ وتنعكس هذه الازدواجية بوضوح علي إخفاقهم في التصدي لمشكلات العصر‏,‏ ومخاطبتهم الجماهير‏,‏ والأجيال الجديدة بوجه خاص‏,‏ بلغة يصعب أن نجد لها انطباقا علي الواقع‏.(‏ د‏.‏ فؤاد زكريا‏:‏ الصحوة الإسلامية في ميزان العقل‏,‏ ص‏110)‏
المفارقة‏,‏ التي تستحق الاهتمام والتأمل‏,‏ أن النص القرآني يتسع للكثير من الحقوق التي لا يقر بها من يعتقدون أنهم أوصياء علي الإسلام ومحتكرون لفهمه واستنباط أحكامه وشرائعه‏.‏
ثنائية الجبر والاختيار‏:‏
الجبر والاختيار‏..‏من القضايا التي شغلت الكثير من فقهاء الإسلام علي مر العصور‏,‏ وانقسموا حولها الي فريقين‏:‏ فريق يقول إن الإنسان مجبر‏..‏أي مسير لاحيله له ولا إرادة ولا اختيار‏,‏ لأنه محكوم بما حددته له الإرادة الإلهية‏.‏ وفريق يقول إن الإسلام يعلي من قيمة العقل والتبصر‏,‏ والإنسان يجني ثمار أعماله واختياراته في الدنيا والآخرة‏.‏
يقول الشيخ محمد الغزالي‏:‏ لقد شاء الله لحكمة لانعلمها أن يخلقنا ويكلفنا‏,‏ وقال في وضوح‏:‏الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفورالملك‏:2‏ فجاء من يزعم أن الحياة رواية تمثيلية خادعة‏!‏ وأن التكليف أكذوبة‏!‏ وأن الناس مسوقون الي مصايرهم المعروفة أزلا طوعا أو كرها‏!‏ وأن المرسلين لم يبعثوا لقطع أعذار الجهل‏,‏ ومنع الاحتجاج المرفوض‏,‏ بل المرسلون خدعة تتم بها فصول الرواية أو فصول المأساة‏..!(‏ محمد الغزالي‏:‏ السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص‏172)‏
والواقع أن عقيدة الجبر تطويح بالوحي كله‏,‏ وتزييف للنشاط الإنساني من بدء الخلق الي قيام الساعة‏,‏ بل هي تكذيب لله والمرسلين قاطبة‏..‏ ويواصل الغزالي‏:‏ كل ميل بعقيدة القدر الي الجبر فهو تخريب متعمد لدين الله ودنيا الناس‏,‏ وقد رأيت بعض النقلة والكاتبين يهونون من الإرادة البشرية‏,‏ ومن أثرها في حاضر المرء ومستقبله‏,‏ وكأنهم يقولون للناس‏:‏ أنتم محكومون بعلم سابق لافكاك منه‏,‏ ومسوقون الي مصير لادخل لكم فيه فاجهدوا جهدكم فلن تخرجوا عن الخط المرسوم لكم مهما بذلتم‏!‏
إن هذا الكلام الرديء ليس نضح قراءة واعية لكتاب ربنا‏,‏ ولا اقتداء دقيق بسنة نبينا‏,‏ إنه تخليط قد جنينا منه المر‏..!!‏ المرجع السابق ص‏176‏ إن القراءة الواعية للقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة تقودنا الي مجموعة من المباديء العامة التي تحكم نظرة الإسلام الي حرية الرأي والتعبير‏,‏ وهي مباديء يمكن استنباطها من حقيقة أن الإنسان حر ذو إرادة‏,‏ وأنه ليس محكوما بالإجبار والجبر‏:‏
إن الإيمان والكفر قضية شخصية لاتهم إلا صاحبها‏,‏ بمعني أنها ليست من القضايا التي تندرج تحت سلطة النظام العام‏,‏ وبالتالي فلا تدخل ولا إكراه عليها من أي جهة
إن الرسل ليسوا إلامبشرين ومبلغين‏,‏ ليس لهم سلطة الإكراه علي أحد‏.‏
إن الهداية إنما هي من الله وطبقا لمشيئته‏,‏ والأنبياء أنفسهم لايمكلون وحدهم هداية الناس‏.‏
إن الاختلاف والتعدد بين البشر مما أراده الله‏,‏ ومما يفصل فيه يوم القيامة‏,‏ وأن الإسلام يؤمن بجميع الرسالات السابقة ويدعو الي احترام معتنقيها وعدم المساس بحريتهم سواء في الاعتقاد أو الدعوة إلي مباديء عقائدهم شرط ألا يفتنوا المسلمين عن طريق استخدام القوة للتحول عن دينهم الذي ارتضوا‏.‏
إنه لايوجد عقاب دنيوي علي ترك الإنسان‏(‏ أي إنسان‏)‏ لدينه والتحول الي دين آخر‏(‏ المزيد من التفاصيل في ثنايا الدراسة‏,‏راجع‏:‏ جمال البنا‏:‏ حرية الفكر والاعتقاد في الإسلام ص‏7)‏
لكن‏:‏ ما الذي أوصل المجتمع الإسلامي إلي ماوصل اليه من تعصب أعمي‏,‏ وتطرف مذموم أصاب الأمة الإسلامية بجمود فكري لا حدود له‏,‏ أصبح معه القبول بالاستبداد السياسي‏,‏ وتقديس الشخصيات التاريخية‏,‏ والأفكار التي تدعو إلي قهر الآخر وإجباره علي اعتناق فكر بعينه‏,‏ هي البضاعة السائدة في مجمل تراثنا الثقافي والفكر المعاصر؟ غلق باب الاجتهاد أمام العقل المسلم هو الذي أدي بنا إلي هذه الحالة المأسوية التي ندفع ومازال يدفع ثمنها الملايين من أبناء هذه الأمة المحبطة‏.‏
من هنا‏,‏ كان لابد لنا ونحن نمهد لهذا البحث‏,‏ عن حرية الرأي والتعبير في الإسلام‏,‏من توضيح لمعني وأهمية الاجتهاد من منظور إسلامي‏.‏
معني الاجتهاد وأهميته‏:‏
الاجتهاد‏,‏ الذي أمرت به نصوص عديدة من القرآن والسنة‏,‏ معناه بذل الجهد العقلي والفكري في التعرف علي الحكم الشرعي لما يعرض للفقيه أو المفتي أوالقاضي من مسائل‏.‏
وأصل الاجتهاد مقرر في الشريعة بفعل النبي‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ نفيه‏,‏ وبأمره أصحابه بالاجتهاد في حضرته‏,‏ وبإقراره اجتهاد من اجتهد منهم في غيبته‏,‏ ووقائع ذلك مذكورة بالتفصيل في كتب أصول الفقه وفي كتب تاريخ التشريع وفي كتب عديدة خصصها مؤلفوها لموضوع الاجتهاد دون سواه‏.‏
وفي النصف الثاني من القرن الرابع الهجري‏,‏ نشأ القول بمنع الاجتهاد وعرفت المسألة باسم‏:‏ قفل باب الاجتهاد وقيل بعد ذلك بوجوب التقليد مطلقا دون تحديد من الذي يجب تقليده من العلماء‏...‏ثم تطور الأمر إلي القول بوجوب تقليد واحد من الأئمة الأربعة‏.‏ وعلي الرغم من أن مسألة القول بقفل باب الاجتهاد لم يرد فيها نص من الكتاب ولا السنة فقد لجأ إليها القائلون بها من العلماء لأسباب من أهمها‏:‏
تدوين المذاهب وتكامل نصوص مؤسسيها وأتباعهم‏.‏
الضعف السياسي الذي أصاب هيكل الدولة الإسلامية فتفتت الي دويلات متنافسة
تولية القضاء لأتباع المذاهب فشاع تقليدها طعما في الولايات الدنيوية‏.‏
أهم من ذلك كله أن العلماء وجدوا من لم يتأهلوا للاجتهاد يدعون أنهم مجتهدون ويفتون الناس بآرائهم‏,‏ فأرادوا سد الطريق أمام هؤلاء المدعين فقالوا بقفل باب الاجتهاد‏,‏ بل قالوا بأن هذا محل إجماع فلم يكن الذين قالوا بمنع الاجتهاد من أعداء الأمة أو أعداء الدين كما قد يفهم البعض ولكنهم كانوا فقهاء أرادوا تحقيق هدف نبيل لكنهم أخطأوا الطريق إليه‏.‏
أرادوا منه أولئك المدعين من إضلال العباد باجتهادهم المزعوم‏,‏ وأخطأوا بادعاء ماليس لهم أن يدعوه‏(‏ د‏.‏ محمد سليم العوا‏:‏ الفقه الإسلامي في طريق التجديد‏,‏ص‏25‏
ولذلك‏,‏ فإن الصحيح الذي يذهب اليه الفقه العصري‏,‏ بلسان أعلامه وأقلامهم‏,‏أن الاجتهاد باق مابقي الإسلام نفسه لايملك أحد منع من استكمل التأهل له من ممارسته‏.‏
ومن أعجب الآفات التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية اليوم آفة طلب كل ذي رأي أن يكون له الحق والحرية في إبداء رأيه وإعلانه والدعوة إليه‏,‏ ثم حجره هو نفسه علي الآخرين أن يتمتعوا بمثل هذا الحق وأن يمارسوا مثل تلك الحرية‏.‏
والإيمان بالحق في الاجتهاد يقضي علي هذه الآفة ويحاصرها ويمنع انتشارها ويئد مضارها الكثيرة‏,‏ وأخطرها نشوء أجيال من المتعصبين الذين لايرون إلا رأيهم ولايسلمون إلا بحقوق أنفسهم‏,‏ وهؤلاء هم وقود الغلو‏(‏ الذي يسميه الناس تطرفا‏)‏ الذي يقضي في نهاية مطافه علي الأخضر واليابس من حياتنا الفكرية والثقافية‏(‏ المرجع السابق‏,‏ ص‏29)‏ هل يعقل أن يظل المسلمون أسري ما قاله علماء أجلاء في القرون السابقة في وصف نظم الحكم التي كانت سائدة لديهم وهي كلها نظم فردية محورها هو الحاكم الذي تدين له بالطاعة‏,‏ وتستمد منه القدوة‏,‏ سائر السلطات والهيئات والأفراد؟
وهل يعقل أن يظل المسلمون يحتكمون ويرجعون في علاقاتهم بغير المسلمين من مواطنيهم الي أفكار وآراء صيغت لتناسب حال الحرب التي كانت سائدة في وقت ما‏,‏بعد أن مضت علي الحياة المتآخية بين الفريقين قرون؟
إن النصوص الصريحة واجبة الإتباع‏.‏
وإن هدف الاجتهاد هو تطبيق هذه النصوص في الزمن الذي يقع الاجتهاد فيه‏(‏ نفسه‏,‏ ص‏142)‏ إن في الإسلام سماحة ويسرا‏,‏ تنطق بهما آيات الكتاب الكريم‏,‏ وتجسدهما سيرة النبي العظيم وتقوم عليهما شرائعه وشعائره وآدابه‏..‏إن الإيمان لايلغي دور العقل‏..‏وشمول الإسلام لا يعني أن النصوص تعالج كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة‏,‏ فذلك فضلا عن استحالته غير مقبول في ظل ماتركه الإسلام للعقل من حرية الحركة وواجب الاجتهاد‏..‏وخلود الإسلام لايعني جمود شريعته وإنما يعني قدرتها علي التجدد والإبداع لملاقاة حركة الحياة وتغير أشكالها وأصالة المسلمين لاتعني عزلتهم عن الناس وانغلاقهم علي أنفسهم‏,‏ وإنما تعني الاتصال بالناس والعيش معهم‏.‏
إن الشريعة غير الفقه‏,‏ كما أن الدين غير التدين‏..‏فالشريعة هي مجموعة أحكام الله تعالي الثابتة عنه وعن نبيه‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏),‏ والتي تنظم أفعال الناس‏..‏ومصدرها كتاب الله وسنة نبيه‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ أما الفقه فهو عمل الرجال في الشريعة‏,‏ استخلاصا لأحكامها وتفسيرا لنصوصها وقياسا علي تلك النصوص فيما لم يرد فيه نص‏,‏ وطلبا للمصلحة فيما يعرض من أمور السياسة‏,‏ وإذا كانت الشريعة حاكمة كما يقال‏..‏فإن الفقه محكوم بكل مايحكم عمل الرجال وسلوكهم في الجماعة‏.‏
والطاعة الواجبة علي المسلم إنما هي طاعة الشريعة‏..‏وليست طاعة الفقه ورجاله‏..(‏د‏.‏ أحمد كمال أبو المجد‏:‏ حوار لامواجهة ص‏89)‏
إن مجال الاجتهاد في التشريع مجال واسع وكبير‏,‏ لأن مالم تتناوله النصوص كثير بالقياس إلي ماتناولته‏.‏
وليس ذلك كما يتوهم البعض قدحا في الشريعة ولا هو نيل من قول الله تعالي‏(‏ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ‏)‏ بل هو آية الحكمة ودليل الكمال في شرع الذي خلق الإنسان ويعلم ماتوسوس به نفسه والذي يعلم وله المثل الأعلي أن العالم يتطور‏,‏ وأن أشكال الحياة تتغير‏,‏ وأن مشاكل الناس تتبدي في قوالب جديدة‏..‏لأنه سبحانه كما أودع ناموس الحركة في الكون والمجتمع‏,‏ أودع نعمة العقل في الرؤوس ليلاقي شرعة الحركة بمثلها وليستجيب للتطور في الحياة بتطويرفي الأحكام‏,‏ وهو وحده الكفيل بحماية الشريعة وتحقيق مقاصدها الدينية‏.‏
الواقعة الاجتماعية هي السند المادي لكل نشاط تشريعي فقهي‏..‏ومعني هذا أن جزءا كبيرا من الاجتهاد يجب أن يتجه الي رصد الظواهر الاجتماعية وفهمها وتحليلها وتصور الحلول التشريعية المختلفة التي تتعامل معها‏,‏ وتحليل النتائج العملية التي تترتب علي كل اختيار فقهي مطروح‏..‏ذلك أن التشريع ليس نظرا فلسفيا ولا رياضة عقلية‏,‏ وإنما هو رعاية لمصالح الناس بسلطان الحكم‏,‏ ولذلك قال الإمام الشاطبي بحق إن التكاليف الشرعية ترجع كلها إلي تحقيق مقاصدها في الخلق‏.‏
وحين يمارس الاجتهاد‏,‏وتعرض علي المشرع والفقيه ورجل السياسة حلول متعددة تقبلها الشريعة الإسلامية وتتسع لها‏,‏ فإن الاختيار حينئذ لابد أن يحكمه فهم الواقع الاجتماعي وتحليل حركته‏,‏ لذلك وجب أن يستقر في ذهن دعاة الإسلام والمنادين بتطبيق الشريعة أن الجهد الفقهي الخالص لابد أن يتممه عمل اجتماعي واسع‏,‏ حتي تأتي ثمرته رحمة حقيقية للناس‏,‏ ومخرجا لهم من الضيق‏,‏ ورفعا للحرج‏(‏ المرجع نفسه‏,‏ ص‏91)‏
ولكن لماذا يحجم علماء الإسلام عن الاجتهاد في العصر الحديث؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.