إن القول بأن الاجتهاد تم تشريعه لفهم النصوص الدينية قول مجانب للصواب ومجاف للحقيقة تماما، بل إن القول بهذا فيه التفاف كبير علي النصوص التي تحدث بها الرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديثه عن الاجتهاد، وسوف نتبين ذلك حين نتناول أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام التي تحدث فيها عن الاجتهاد، فسوف نتبين أن تلك الأحاديث التي وردت فيها كلمة (الاجتهاد) لا تعني علي الإطلاق قضية فهم النص الديني، وإنما عنت ودلت علي مدلول آخر تماما كما سنري في المقالات القادمة. أما فهم النص الديني وتبين مدلولاته هو أمر آخر لا علاقة له بالاجتهاد، ذلك أن قضية فهم النص الديني هي قضية منفصلة تماما عن قضية الاجتهاد، هذه القضية لها إطارها الخاص ولها معوقاتها الخاصة التي نعاني منها، هذه المعوقات تتركز في غياب المنهج العلمي الحقيقي، الذي من خلاله يمكن الوصول إلي حقيقة مدلول النص الديني بطريقة سليمة متفق عليها، ومرجعية وحيدة يرتكن عليها من يقوم علي فهم النص الديني، وبما أننا معاشر العرب والمسلمين لا نري للمنهج العلمي أي أهمية في حياتنا الفكرية أو العلمية أو الثقافية بشكل عام، وليس لدينا مرجعية وحيدة تكون هي نقطة الانطلاق نحو فهم النص الديني فلا لوم أن تكون البعثرة والفوضي والاختلاف والتناحر هي السمات الغالبة التي تطبع حياتنا وتميزها عن حياة الأمم المتقدمة علميا وفكريا، أما الانطلاق إلي فهم النص الديني هكذا دون ضابط علمي ممنهج ودون مرجعية واحدة وحيدة متفق عليها لذلك الفهم، فإن ذلك يعد فتحا لأبواب شر لا تحمد عقباها، حيث إن المتطرفين والمتشددين والمغالين والمفرطين الجميع يدعي الاجتهاد في فهم النصوص الدينية دون أي ضابط علمي ممنهج، فالكل يفهم من النص ما يحلو له وما يوافق مذهبه وحزبه وفكره وأغراضه الشخصية وهواه، إن فهم النصوص الدينية دون ضابط علمي ممنهج ودون مرجعية واحدة وحيدة من باطن النص الديني ذاته يفتح أبواباً من جحيم الاختلاف والشقاق وسفك الدماء علي مصراعيها وهو ما نشاهده الآن في شتي أنحاء العالم الإسلامي، والله يقول: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً) فالاختلاف علي النص يجعله من عند غير الله، وحاشا لله، بل إن ما بين أيدينا وما في عقولنا وما في تراثنا من دين هو الذي من عند غير الله، وليس كلام الله. أما عن شرعية الاجتهاد بهذا الفهم الذي فهمه العلماء قديما وحديثا بأن يتم استيلاد واستنساخ أو اختراع أحكام جديدة غير ما نص الله عليها، فليس لهذا الاجتهاد أي مشروعية دينية، والفقهاء في كتب أصول الفقه قد ساقوا بعض الأدلة من القرآن والسنة علي مشروعية الاجتهاد لفهم النص الديني، وبالنظر في الأدلة التي وردت في الاجتهاد، نجد أن الفقهاء لم يذكروا في مشروعية الاجتهاد إلا آية واحدة وحديثين فقط لا ثالث لهما، أما الآية فهي آية النساء التي قال الله فيها: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلي الرسول وإلي أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} وهذا النص القرآني الذي استدل به الفقهاء علي حجية الاجتهاد، لا يمت بصلة من قريب أو بعيد إلي ما قصده الفقهاء من مشروعية الاجتهاد في فهم النص الديني بتشريع أحكام أو استنساخ أحكام زائدة علي ما بين الله في كتابه، فالآية تتحدث عن أمور الشائعات والأخبار التي لم تثبت صحتها أو كذبها، فإن كانت تتعلق هذه الأمور بالأمن أو الخوف فيجب ردها إلي أولي الأمر قبل إشاعتها بين الناس للتثبت من صحتها أو كذبها ومدي خطرها، حتي لا تحدث بلبلة واضطرابا بين الناس، ولا يفهم بأي حال من الأحوال من النص استنساخ أو اختراع أحكام أو تشريعات دينية من أولي الأمر، وإنما تحدثت الآية عن الرد إلي الرسول وإلي أولي الأمر في أمور الأمن والخوف لا أمور التشريع وفهم النص الديني، أما أحاديث الاجتهاد فسوف نتحدث عنها في المقال القادم إن شاء الله.