(عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر». (متفق عليه) أول ما يلفت انتباه القارئ لهذا الحديث أنه ينص علي الحاكم، وليس الفقيه أو رجل الدين، والحاكم هو من يقوم علي أمر الناس ويسوسهم، أو من يقضي بين الناس ويحكم في خصوماتهم، والمفهوم البين الواضح لأي قارئ لهذا الحديث لا يمكن أن يفهم منه سوي أن الحاكم إذا حكم بين الناس بالحق ولم يتبع الهوي وحكم بما بان له وبما توافر لديه من أدلة قطعية وقرائن واضحة تطمئن نفسه إليها، ثم أصاب في حكمه فله أجران أجر علي تحريه الحق والصواب وبذل الجهد في ذلك، أي أنه لم يكتف بما توافر لديه من أدلة وقرائن فحسب، بل إنه بذل جهدا في التحقق والتدقيق من تلك الأدلة فأصاب لذلك في حكمه فله أجران، أجر بذل الجهد، وأجر الإصابة في الحكم. أما لو قام الحاكم ببذل الجهد في التعرف علي الأدلة والبراهين والقرائن واستبان له بعد ذلك الجهد أن الحق لطرف علي آخر إلا أنه لم يصب في حكمه هذا، أي أنه قد أخطأ في إنزال الحكم علي الواقعة أو أخطأ الظرف الزماني أو المكاني أو أخطأ الشخص الذي له الحق وحكم لغيره بعد اجتهاده في تقصي الحقيقة وبذل قصاري جهده، ثم أخطأ في حكمه هذا، فعندها "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" وهو معذور لأن خطأه غير متعمد وغير مقصود ويجري عليه قول المولي عز وجل: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم}، وهذا الخطأ يكون في أن الخصم الذي عليه الحق أكثر جدلا وأدق تعبيرا وقدم ما يثبت أن الحق له وهو ليس كذلك، والطرف الآخر الذي له الحق لم يستطع أن يقدم ما يثبت حقه وما يقنع به الحاكم أو القاضي كأن يكون من العوام الذين لا يملكون فصاحة اللسان ودقة التعبير عن الحق، فلم يستطع أن يثبت للقاضي بصورة جلية واثقة أحقيته بالأمر، والقاضي لا يعلم الغيب ولا يطلع علي ما في صدور الناس، فيحكم لمن استطاع أن يبرهن ويقدم حججا قوية تثبت حقه حتي ولو كان ليس له حق بالفعل، وهنا يكون الحاكم أو القاضي غير آثم لو حكم لمن ليس له الحق فعلا إذا بذل جهده في تحري الحقيقة. هذا هو مفهوم الاجتهاد الذي يفهمه أي قارئ لهذا الحديث، هذا لو افترضنا صحة الحديث وأنه بالفعل قاله النبي صلي الله عليه وسلم، فإن الاجتهاد الذي يفهمه أي أحد من الحديث هو في الجهد الذي يبذله الحاكم في إنزال الحكم علي واقعة ما، أو في تحري الأدلة والحقائق قبل إصدار الحكم، وعندها إذا أخطأ الحاكم فلا إثم عليه ما دام قد بذل جهدا في تحري الحق والعدل وتجنب الهوي والجور، وليس كما ذهب العلماء والفقهاء من أن الاجتهاد هو فهم النص الديني، أو وضع أحكام جديدة لم يذكرها الله في كتابه قياسا علي نصوص نزلت في أشياء بعينها، فالقول بهذا هو قول علي الله وعلي رسوله بلا علم وشيء لم يذكره الله في كتابه الكريم، ومحال أن يقول به رسول الله عليه الصلاة والسلام. أما لو لم يكن الحديث صحيحا في نسبته للرسول عليه الصلاة والسلام وكان من بنات أفكار عمرو بن العاص، كما افتعل فكرة رفع المصاحف في واقعة التحكيم بين علي ومعاوية، فربما يكون القصد من ورائه تبرير جرائم الحاكم في حق الرعية والمحكومين، وربما يكون عمرو بن العاص قد قام بتأليف هذا الحديث ليبرر لحليفه معاوية بن أبي سفيان جرائمه وطغيانه في حق الناس، فمعاوية كان حاكما وكذلك عمرو بن العاص كان حاكما، ولو كان هذا هو المقصود بالفعل فيكون الحديث مسوغا مشروعا للحاكم أن يفعل ما يشاء في حكمه بين الناس سواء بالصواب أو بالخطأ، بالحق أو بالباطل، وإذا عاتبه الناس علي خطئه في حكمه يكون ذلك الحديث مسوغا ومبررا لأخطائه، بل هذا الحديث يجعله مأجورا علي أخطائه في حق الناس.