أسعار الأسماك واللحوم اليوم 26 أبريل    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 26 أبريل 2024    مايكروسوف تتجاوز التوقعات وتسجل نموا قويا في المبيعات والأرباح    طريقة تغيير الساعة في هواتف سامسونج مع بدء التوقيت الصيفي.. 5 خطوات مهمة    «هنصحى بدري ولا متأخر؟».. سؤال حير المواطنين مع تغيير توقيت الساعة    المستهدف أعضاء بريكس، فريق ترامب يدرس إجراءات ضد الدول التي تتخلى عن الدولار    البنتاجون: أوكرانيا ستتمكن من مهاجمة شبه جزيرة القرم بصواريخ «ATACMS»    بلينكن ل نظيره الصيني: لا بديل عن الدبلوماسية وجهاً لوجه    عاجل - قوات الاحتلال تقتحم نابلس الفلسطينية    سيول جارفة وأتربة، تحذير شديد اللهجة من الأرصاد بشأن طقس اليوم الجمعة    «الإفتاء» تعلن موعد صلاة الفجر بعد تغيير التوقيت الصيفي    أذكار وأدعية ليلة الجمعة.. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا    بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024.. توجيهات الصحة بتجنُّب زيادة استهلالك الكافيين    مع بداية التوقيت الصيفي.. الصحة توجه منشور توعوي للمواطنين    جدعنة أهالي «المنيا» تنقذ «محمود» من خسارة شقى عمره: 8 سنين تعب    سرقة أعضاء Live.. تفاصيل صادمة في جريمة قتل «طفل شبرا الخيمة»    رئيس لجنة الخطة بالبرلمان: الموازنة الجديدة لمصر تُدعم مسار التنمية ومؤشرات إيجابية لإدارة الدين    نجم الأهلي السابق يوجه رسالة دعم للفريق قبل مواجهة مازيمبي    ناقد رياضي: الزمالك فرط في الفوز على دريمز الغاني    طارق السيد: ملف بوطيب كارثة داخل الزمالك.. وواثق في قدرات اللاعبين أمام دريمز    إعلان نتيجة مسابقة المعلمة القدوة بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    هيئة الغذاء والدواء بالمملكة: إلزام منتجات سعودية بهذا الاسم    عاجل.. رمضان صبحي يفجر مفاجأة عن عودته إلى منتخب مصر    أبرزها الاغتسال والتطيب.. سنن مستحبة يوم الجمعة (تعرف عليها)    إصابة 8 أشخاص في تصادم 3 سيارات فوق كوبري المندرة بأسيوط    انطلاق حفل افتتاح مهرجان الفيلم القصير في الإسكندرية    تشرفت بالمشاركة .. كريم فهمي يروج لفيلم السرب    بشرى سارة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال رسميًا    يونيو المقبل.. 21364 دارسًا يؤدون اختبارات نهاية المستوى برواق العلوم الشرعية والعربية بالجامع الأزهر    نقابة محاميين شمال أسيوط تدين مقتل اثنين من أبنائها    رمضان صبحي يحسم الجدل بشأن تقديم اعتذار ل الأهلي    «زي النهارده».. استقالة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من مشيخة الأزهر 26 أبريل 1935    ليلى زاهر: جالي تهديدات بسبب دوري في «أعلى نسبة مشاهدة» (فيديو)    "أكسيوس": مباحثات سرية بين مصر والاحتلال لمناقشة خطة غزو رفح    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميا    عاجل - محمد موسى يهاجم "الموسيقيين" بسبب بيكا وشاكوش (فيديو)    ذكري تحرير سيناء..برلماني : بطولات سطرها شهدائنا وإعمار بإرادة المصريين    "حزب الله" يعلن ضرب قافلة إسرائيلية في كمين مركب    عاجل - بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024 فعليًا.. انتبه هذه المواعيد يطرأ عليها التغيير    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    بالصور.. مصطفى عسل يتأهل إلى نهائي بطولة الجونة الدولية للاسكواش    هاني حتحوت يكشف تشكيل الأهلي المتوقع أمام مازيمبي    مواقيت الصلاة بالتوقيت الصيفي .. في القاهرة والإسكندرية وباقي محافظات مصر    برج العذراء.. حظك اليوم الجمعة 26 أبريل 2024 : روتين جديد    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    أنغام تبدأ حفل عيد تحرير سيناء بأغنية «بلدي التاريخ»    استشاري: رش المخدرات بالكتامين يتلف خلايا المخ والأعصاب    لوحة مفقودة منذ 100 عام تباع ب 30 مليون يورو في مزاد بفيينا    الأقصر.. ضبط عاطل هارب من تنفيذ 35 سنة سجنًا في 19 قضية تبديد    حكايات..«جوناثان» أقدم سلحفاة في العالم وسر فقدانها حاستي الشم والنظر    حدثت في فيلم المراكبي، شكوى إنبي بالتتويج بدوري 2003 تفجر قضية كبرى في شهادة ميلاد لاعب    عاجل - "التنمية المحلية" تعلن موعد البت في طلبات التصالح على مخالفات البناء    «اللهم بشرى تشبه الغيث وسعادة تملأ القلب».. أفضل دعاء يوم الجمعة    قيادي بفتح: عدد شهداء العدوان على غزة يتراوح بين 50 إلى 60 ألفا    المحكمة العليا الأمريكية قد تمدد تعليق محاكمة ترامب    أنغام باحتفالية مجلس القبائل: كل سنة وأحنا احرار بفضل القيادة العظيمة الرئيس السيسى    فيديو جراف| 42 عامًا على تحرير سيناء.. ملحمة العبور والتنمية على أرض الفيروز    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شيعة وسنة.. مقدمة في علم الفِرَق
نشر في الشعب يوم 23 - 12 - 2006


بقلم: السفير/محمد والي

الخلافة – انقلاب الخلافة إلى ملك – ظهور الفرق- عقيدة المهدي المنتظر – وجوب نصب الإمام – اختيار الإمام – رفض التسليم لسلطان الجاهلية


الخلافة
لم يعرف العرب في جاهليتهم معنى الحكومة المركزية أو الخضوع لأمير عام؛ وإنما عاشوا قبائل متفرقة قد تتحالف أحيانا وقد تتصارع في أغلب الأحيان. ولم يعرف العرب كذلك في جاهليتهم أنظمة الحكم الوراثية؛ بل عرفوا نوعا من الشورى الفطرية - إن جاز هذا التعبير - فكانت القبيلة تختار من بينها أكثرهم تجربة أو أكبرهم سنا ليتزعمها، ويعاونه حكماء القبيلة من ذوي الأسنان والتجارب فيها. بينما مارست الحضارات القديمة المعاصرة للعرب في فارس ومصر والروم والصين أنظمة الحكم الوراثية، وعرفت ألوانا من الاستبداد ظل العرب في جزيرتهم بمنأى عنها. ولعل في هذه الحياة الحرة البعيدة عن معاني الاستبداد ومباني الاستعباد ما يفسر اختيار هذه الأرض القاحلة موطنا للرسالة الخاتمة للبشرية، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
وقد أكد القرآن الكريم هذا المعنى في قوله تعالى: )وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ( (124/البقرة). أي أن سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام طلب أن تكون الإمامة في ذريته؛ وأجاب المولى سبحانه وتعالى بقوله: "لا ينال عهدي الظالمين" يعني أن الإمامة لن تكون بالضرورة في ذريتك؛ قال النووي الشافعي في شرحه على المنهاج للرملي: إن هذا هو المختار عند أغلب العلماء أن الإمامة لا تكون بالوراثة.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم سارع المسلمون إلى بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لمعاني راعوها، وقاعدة دينية طبقوها: منها تقدم صحبته للرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها أنه صاحبه في الغار، ورفيقه في الأسفار، وأمينه في الأسرار، ومنها كبر سنه، ومنها وهو الأهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدمه للصلاة عند مرضه، والصلاة أولى مهمات هذا الدين؛ فقالوا: ارتضاه لديننا أفلا نرتضيه لدنيانا؟. وعهد أبو بكر رضي الله عنه إلى عمر رضي الله عنه؛ عن مشورة من كبار الصحابة وموافقة منهم. وجعلها عمر رضي الله عنه شورى في ستة من المهاجرين.
والفارق بين الخلافة والملك ليس مجرد تسمية، ولكنه فارق في منهاج الحكم؛ وإذا كان العرف قد جرى منذ صدر الإسلام حتى سقوط الخلافة عام 1924م على إطلاق اسم الخليفة على كل من قام بأمر المسلمين القيام العام؛ إلا أن كثيرا من السلف رضوان الله تعالى عليهم قد خص ذلك بما إذا كان الإمام جاريا على منهاج العدل وطريق الحق؛ فقد جاء في مآثر الإنافة للقلقشندي (أحمد بن عبد الله المتوفى 820ه) أنه "روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل طلحة والزبير وكعب وسلمان عن الفرق بين الخليفة والملك؛ فقال طلحة والزبير: لا ندري؛ فقال سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرعية ويقسم بينهم بالسوية ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله والوالد على ولده ويقضي بينهم بكتاب الله تعالى؛ فقال كعب: ما كنت أحسب أن في هذا المجلس من يفرق بين الخليفة والملك؛ ولكن الله تعالى ألهم سلمان حكما وعلما".[1]
وجاء في ثمار القلوب للثعالبي: "كان أبو الفتح البستي يستحسن قولي في كتاب المبهج: الخلافة خلافة عن الله في عباده وبلاده؛ ولن تستقيم خلافته مع مخالفته. وفي ترجمة أبي عبد الله المقري التلمساني من تكملة الديباج عنه أنه قال: سألني بعض الفقراء عن سوء بخت المسلمين في ملوكهم؛ إذ لم يلهم من سلك بهم الجادة بل من يغتر بدنياه غافل عن عقباه لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة؛ فأجبته بأن الملك ليس من شرعنا؛ بل هو شرع من قبلنا. قال تعالى ممتنا على بني إسرائيل: "وجعلناهم ملوكا" وقال: "قد بعث لكم طالوت ملكا" وقال: "هب لي ملكا"؛ ولم يشرع لنا إلا الخلافة فأبو بكر خليفته صلى الله عليه وسلم كما فهم الناس عنه وأجمعوا عليه؛ واستخلف عمر فخرج عن طريق الملك الذي يرثه ولد عن والده إلى الخلافة التي هي النظر والاختيار، ثم اتفق أهل الشورى على عثمان وأخرجها عمر عن بنيه لأنها ليست ملكا، ثم تعين علي بعد إذ لم يبق مثله فبايعه من آثر الحق على الهوى والآخرة على الدنيا، ثم الحسن كذلك، ثم كان معاوية أول من حولها ملكا والخشونة لينا، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم فصارت ميراثا ثم لما خرجت عن وصفها لم تستقم ملكان، وكان عمر بن عبد العزيز خليفة لأن سليمان آثر حق المسلمين فرغب عن بني أبيه وعلم اجتماع الناس إليه فلم يسلك طريق الاستقامة إلا خليفة؛ وأما الملوك فكما ذكرت إلا من قل وغالب حاله غير رضي.

انقلاب الخلافة إلى ملك

إلا أن هذا الأفق العالي الذي سما إليه الإسلام لم يستمر طويلا في التطبيق؛ إذ سرعان ما تحول الأمر إلى مُلك عضوض على يد معاوية حين بايع لابنه يزيد. روى ابن عبد ربه في "العُقد الفريد": "لما أراد معاوية أخذ البيعة لابنه يزيد بعث إلى الأمصار أن يفدوا عليه؛ فوفد عليه من كل مصر قوم؛ فقام الخطباء فخطبوا، ثم قام يزيد بن المقفع؛ فقال: أمير المؤمنين هذا مشيرا إلى معاوية؛ فإن هلك فهذا مشيرا إلى يزيد؛ فمن أبى فهذا مشيرا إلى سيفه؛ فقال معاوية: اجلس فإنك سيد الخطباء".[2] ويعلق ابن خلدون على رواية ابن عبد ربه بقوله: وهكذا انقلبت الخلافة إلى الملك، ولم يبق من الخلافة غير اسمها ورسمها، "ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم، وبقي الأمر ملكا بحتا كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق، يدينون بطاعة الخليفة تبركا، والمُلك بجميع ألقابه ومناحيه لهم، وليس للخليفة منه شىء. وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب.[3] وهذا الذي ذكره ابن خلدون بدأ في عهد الخليفة المعتصم العباسي (المتوفى 227ه) حين اعتمد على أجناد الترك فوضعوا الخليفة تحت سلطانهم ثم ما لبثوا بعد أن ازداد نفوذهم أن استبدوا بالدولة على عهد خلفائه حتى أن اسم الخلافة ذاته قد انتهى تقريبا في العصر العباسي الثاني بعد أن غلبت عليه ألقاب السلطنة والملك التي تسمى بها المتغلبون من الفرس والترك والديلم.
وما كان يمكن أن يتم هذا التحول دون ثورة اجتماعية وسياسية؛ فلقد كان ذلك في عصر لا يزال فيه بقية الصحابة، وأقل ما يقال في يزيد بن معاوية أنه كان فاسقا وولاية الفاسق لا تجوز شرعا حتى في الولاية الصغرى؛ فما بالك بالولاية العامة على المسلمين، ثم إن بقية الصحابة والتابعين كانوا يدركون مدى مخالفة ذلك للإسلام؛ ويبين ذلك تلك الكلمة التي قالها عبد الرحمن بن أبي بكر حين أرادوا منه بيعة يزيد إذ قال: "إنكم تريدونها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل". والإسلام ما جاء إلا ليقضي على الهرقلية والكسروية وما تنطوي عليه. يقول إمام التابعين الحسن البصري (المتوفى 110ه): رجلان أفسدا أمر هذه الأمة ولولاهما لظل الأمر شورى إلى يوم القيامة أولهما: عمرو بن العاص (المتوفى 43ه) حين أشار على معاوية بالتحكيم، وثانيهما: المغيرة بن شعبة (المتوفى 50ه) حين أشار عليه ببيعة يزيد.[4]
وكان سبب تغلب بني أمية على أهل الحل والعقد من الأمة أن قوة الأمة الإسلامية الكبرى في عهدهم كانت قد تفرقت في الأقطار التي فتحها المسلمون، وانتشر فيها الإسلام بسرعة غريبة وهي مصر وسورية والعراق، وكان أهل هذه البلاد قد دربوا بمرور الأجيال على الخضوع لحكامهم المستعمرين من الروم والفرس؛ فلما صارت أزمة أمورهم بيد حكامهم من العرب استخدمهم معاوية الذي سن سنة التغلب السيئة في الإسلام على الخضوع له بجعل الولاة فيهم من صنائعه الذين يؤثرون المال والجاه على هداية الإسلام، وإقامة ما جاء به من العدل والمساواة، وصار أكثر أهل الحل والعقد الحائزين للشروط الشرعية محصورين في البلدين المكرمين: مكة والمدينة – وهم ضعفاء بالنسبة إلى أهل تلك الأقطار التي تعول الحجاز وتغذيه.
أخذ معاوية البيعة لابنه الفاسق يزيد بالقوة والرشوة، ولم يلق مقاومة تذكر بالقول أو الفعل إلا في الحجاز؛ فقد روى البخاري والنسائي وابن أبي حاتم في تفسيره – واللفظ له – من طرق أن مروان خطب بالمدينة، وهو على الحجاز من قبل معاوية؛ فقال: إن الله قد أرى أمير المؤمنين في ولده يزيد رأيا حسنا، وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر وفي لفظ - سنة أبي بكر وعمر – فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر، إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده، وفي رواية سنة كسرى وقيصر، إن أبا بكر وعمر لم يجعلاها في أولادهما، ثم حج معاوية ليوطئ لبيعة يزيد في الحجاز فكلم كبار أهل الحل والعقد أبناء أبي بكر وعمر والزبير؛ فخالفوه وهددوه إن لم يردها شورى في المسلمين؛ ولكنه صعد المنبر وزعم أنهم سمعوا وأطاعوا وبايعوا يزيدا وهدد من يكذبه منهم بالقتل. وأخرج الطبراني من طريق محمد بن سعيد بن رمانة أن معاوية لما حضرته الوفاة قال ليزيد: قد وطأت لك البلاد ومهدت لك الناس ولست أخاف عليك إلا أهل الحجاز؛ فإن رابك منهم ريب فوجه إليهم مسلم بن عقبة؛ فإني قد جربته وعرفت نصيحته. فلما كان من خلافهم عليه ما كان دعاه فوجهه فأباحها ثلاثا ودعاهم إلى بيعة يزيد وأنهم أعبد له وقن في طاعة الله ومعصيته. وأخرج أبو بكر بن خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بنت أسماء: سمعت أشياخ أهل المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر دعى يزيد؛ فقال له: إن لك من أهل المدينة يوما؛ فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإني عرفت نصيحته..الخ. أباح عدو الله مدينة الرسول ثلاثة أيام فاستحق هو وجنده اللعنة العامة في قوله صلى الله عليه وسلم عند تحريمها كمكة: "من أحدث فيها حدثا أو آوى فيها محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا"[5] أي لا فرضا ولا نفلا. فكيف استباح عدو الله فيها الدماء والأعراض والأموال؟.[6]
ولذلك كان خروج الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما على يزيد – من وجهة نظري – أمرا يختص بالعقيدة، لا بالسياسة فقد خذله أهل الكوفة، وسلموه إلى عدوه؛ كما خذلوا أباه من قبل وهو القائل لهم (أي الإمام علي كرم الله وجهه): "وددت لو لم أعرفكم ولو لم تعرفوني معرفة والله جرت ندما وأعقبت سَدَماً؛ لقد ملأتم قلبي قيحا وشحنتم صدري غيظا وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت العرب إن ابن أبي طالب رجل شجاع؛ لكن لا علم له بالحرب لله أبوهم، وهل أحد منهم أشد لها مراسا مني"[7] وأغلب الظن أن سيد الشهداء رضي الله عنه كان يدرك ذلك؛ ولكن البديل الآخر هو أن يوافق على بيعة يزيد؛ ولو فعلها لصارت سنة؛ ولقال الناس إن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجاز وراثة الحكم، والأخطر من ذلك أن يزيد في ذاته لم يكن صالحا للخلافة؛ وعندئذ تكون سابقة يقول بعدها الناس أجاز ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاية الفاسق.
في هذا الجو السياسي المشحون بالعواطف والحروب الدامية، نشأت الفرق الإسلامية نشأة سياسية بالأساس، ثم لما تبلورت المواقف أخذ كل فريق يبحث لنفسه عن مبررات عقائدية، لكي يبرر موقفه السياسي.

ظهور الفِرَق

أما الخوارج فكانوا أول هذه الفرق ظهورا؛ فهم الذين خرجوا على الإمام علي كرم الله وجهه بعد وقعة التحكيم وقالوا: لم حكَّمت الرجال، لا حكم إلا لله. وقال الإمام علي عن هذه المقولة: "كلمة حق أريد بها باطل". لقد أجمع الخوارج على تكفير علي ومعاوية والحكمين كما أجمعوا على تكفير مرتكب الكبيرة عموما، ودخلوا في صراعات مع الحكومات الإسلامية المتعاقبة، كان مبعثها - على ما أظن – فقدان العدل، فلما نعم الناس بالعدل في عهد الإمام العادل عمر بن عبد العزيز سكنت حركة الخوارج. ثم انقسم الخوارج إلى فرق عديدة كفر بعضها بعضا، ثم انطمرت في لجة التاريخ ولم يبق منهم الآن سوى الإباضية في عُمان، ولعل سر بقائها هي أنها اعتبرت مخالفيها كفار نعمة لا كفار عقيدة.
لقد كان الخوارج من الأعراب الذين أسلموا بعد الفتح، لم يستكثروا من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ولا هذبتهم سيرته وآدابه ولا ارتاضوا بخلقه، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كثر قراؤهم وقَلَ فقهاؤهم، مع ما كان فيهم من الجفاء والغِلظة والعصبية والتفاخر بالأحساب والأنساب والبعد عن سكينة الإيمان. ثم أنهم لما رأوا المكانة الخاصة لأهل مكة والمدينة من المهاجرين والأنصار السابقين الأولين إلى الإسلام تمردوا على طاعتهم ورأوا أنفسهم أولى بالأمر منهم لما لهم من القبيل والعصبية.
وفي وقت متزامن تقريبا ظهر الشيعة كطرف مناقض للخوارج، الخوارج عادوا عليا، والشيعة والوه. وكان التشيع إذذاك في أضعف أدواره، فلما استحكم الباطل وصفا الأمر لمعاوية وحزبه وقًتل الإمام الحسين بن علي مظلوما ظهر التشيع واضحا جليا. حين اختلف الناس كان الحق مع علي، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "علي والقرآن لا يفترقان حتى يردا عليَ الحوض"، وقال له: "يا علي لايحبك إلا مؤمن، ولايبغضك إلا منافق". وحين كان يبني مسجده صلى الله عليه وسلم بالمدينة كان الصحابة رضوان الله عليهم ينقلون حجرا حجرا وكان عمار بن ياسر ينقل حجرين حجرين، فيمسح النبي صلى الله عليه وسلم التراب عن صدر عمار، ويقول: "ويح عمار، ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار". وقد قتلته فئة معاوية في صفين حين كان يحارب مع علي كرم الله وجهه. وهذا موقف إسلامي عام وليس تشيعا بالمعنى الاصطلاحي، وإذا كان هذا واضحا فكيف تمكن معاوية من السيطرة على مقاليد السلطة وتحويل الخلافة إلى ملك؟.
هل نقول إن الإسلام كان ثورة كبرى، وأنه في كثير من الأحيان بعد أن يقوم المخلصون بالثورة يركب موجتها الانتهازيون والنفعيون؟. هنا يجب أن نتذكر أن علي كرم الله وجهه كان فتى الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي". وأنه حارب في جميع المواقع مع النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن العرب بعد أن بدأت الدنيا تقبل عليهم وتأتيهم الغنائم من كل مكان أرادوا أن يستأثروا بثمار الفتح كأمة غالبة، وربما ضاقوا ذرعا بالمساواة المطلقة التي يفرضها الدين.
حين بدأت تقبل الثمار سوى أبو بكر رضي الله عنه بين المسلمين في العطاء. وحين تولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى ألا يسوي بين من حارب مع رسول الله ومن حارب ضد رسول الله فقسم الأعطيات بحسب سابقة الجهاد والقربى، ثم رجع عن رأيه في التفرقة بين المسلمين في العطاء حينما رأى نتائجه الخطيرة إلى رأي أبي بكر. وكذلك جاء رأي علي مطابقا لرأي الخليفة الأول- ونحن نميل إلى اعتبار خلافة علي كرم الله وجهه امتدادا طبيعيا لخلافة الشيخين قبله، وأن عهد عثمان الذي تحكم فيه مروان بن الحَكَم كان فجوة بينهما. بل لعل هذا بعينه ما دعا أهل الشورى الذين اختارهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتفضيل عثمان على علي عند اختيار الإمام بعد عمر؛ إذ عرفوا أن عليا يسير بهم على نهج عمر من العدالة الصارمة والتشدد في الحق والتسوية في العطاء التي اعتزم عمر العودة إليها ومراقبة العمال والولاة، ومن ثم لم يكونوا ليرضوا بالمساواة بين المسلمين جميعا عربهم وعجمهم وقريشهم وغير قريشهم مما التمسوه من سيرة علي وخلقه.
اختار علي مبدأ المساواة في العطاء وقد نص عليه في خطبته الأولى حيث قال: "ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله يرى أن الفضل له على سواه لصحبته؛ فإن الفضل غدا عند الله؛ وثوابه وأجره على الله. ألا وأيما رجل استجاب لله ولرسوله فصدق ملتنا ودخل ديننا واستقبل قبلتنا؛ فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله؛ يقسم بينكم بالسوية، ولا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين غدا عند الله أحسن الجزاء".
ومنها كما يقول ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة: من أنه وترها وسفك دماءها ونفوس العرب وأكبادها كما تعلم وليس الإسلام بمانع من بقاء الأحقاد في النفوس فقد كان عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة قريبا، وسيف أمير المؤمنين علي عن دماء المشركين من قريش وغيرهم لم يجف بعد والضغائن في صدور القوم في طلب الثأر كما هي؛ فما كانت القلوب تميل له كل الميل، ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد.
وأما المعتزلة وإن بدا للوهلة الأولى أنهم فرقة كلامية بحتة إلا أن الحقيقة أن نشأتهم لم تكن بعيدة عن هذا الجو السياسي المشحون. نعم الرواية الشائعة عن نشأة الاعتزال تقول إن أحد الناس سأل الحسن البصري في مجلسه بمسجد البصرة عن حكم الفاسق (مرتكب الكبيرة) فأفتى بأنه مؤمن وإن كان عاصيا، ولم تعجب الفتوى تلميذه واصل بن عطاء، وقال إن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين لا هو مؤمن ولا هو كافر، وغادر مجلس أستاذه الحسن البصري وتحلق حوله عدد من الأتباع، فقال الحسن: اعتزلنا واصل فسمي وأصحابه معتزلة، وكان هذا بداية نشأة الاعتزال.
ومن هذه الرواية الشائعة عن نشأة الاعتزال، نشتم رائحة العامل السياسي الكامن وراء هذا البحث، وإن بدا نظريا، إذ تساءل الناس عن هذه الفتن بين علي ومعاوية وعلي والخوارج من المخطيء ومن المصيب، وما حكم المخطيء فيها. ورغم شيوع هذه الرواية عن أصل الاعتزال، فقد ذكر النوبختي في فرق الشيعة ما يدل صراحة على الأصول السياسية للاعتزال، فقال: إن المعتزلة كانوا من الشيعة، فلما سلم الحسن بن علي الأمر لمعاوية لم يرضوا بذلك، وقالوا نعتزل الحسن ومعاوية وجميع الناس، ونتفرغ للعلم والعبادة. وقد تفرق المعتزلة إلى فرق عديدة انطمرت في لجة التاريخ، بعد أن تركت ثروة فكرية هائلة وصل إلينا بعضها وضاع بعضها.
كان الشيعة الإمامية أول من وضع نظرية سياسية في الثقافة الإسلامية، والطريف أنهم وضعوها في الكتب الكلامية لأن الإمامة عندهم قضية أصولية، وهذا طبيعي ووجه الطرافة هنا أن أهل السنة يعتبرون السياسة من القضايا العملية؛ ولذا فهي من مباحث الفقه لا من مباحث الكلام إلا أنهم لما احتاجوا للرد على الشيعة أدخلوا مباحث السياسة أيضا في كتب التوحيد، وبذلك استقر التقليد الإسلامي على اعتبارمباحث السياسة جزءا من مباحث الأصول سواء عند الشيعة أو عند السنة.
انقسم الشيعة أيضا إلى فرق كثيرة، بعضها خرج على الإسلام باعتراف الشيعة أنفسهم لأن في بعض العصور كان التشيع لآل البيت ستارا لأهل الأهواء والبدع ينفثون من خلاله سمومهم، ولكن معظم هذه الفرق قد انطمر في لجة التاريخ، ولم يعد يُطلق اسم الشيعة الآن إلا على عدد محدود من الفرق رغم أنها كانت في وقت من الأوقات تُطلق على أكثر من مائة فرقة ببعض الاعتبارات والفوارق.
الشيعة لغة هم الصحب والأتباع، واصطلاحا هم الذين شايعوا عليا على وجه الخصوص؛ وقالوا بإمامته وولايته نصا ووصاية إما جليا وإما خفيا، فالإمامة عندهم ركن الدين وحصنه الحصين لا يجوز للرسول إغفاله وإهماله ولا تفويضه إلى العامة وإرساله. وما كان في الدين والإسلام أمر أهم من نصب الإمام حتى يترك النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا وهو على فراغ قلب من مسألة الإمامة فيذهب كل واحد من الناس فيها مذهبا، ويرى كل واحد منهم فيها رأيا، وإنما عين لهم مرجعا يرجعون إليه في الحكم، كما يرجعون إليه في التفسير والتأويل. ولذلك فقد عين ابن عمه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في مواضع تصريحا وفي مواضع تلميحا.
أما الزيدية من الشيعة[8] (في اليمن) فيرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى الإمام بعده بالوصف دون التسمية، وأن الإشارة كانت لعلي كرم الله وجهه؛ لكن الناس أخطأوا في فهم الوصف ومعرفة الوصي. ولا يشترطون أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه، إذ يجوز عندهم تولية المفضول مع وجود الأفضل، ولذلك يرون اختيار الإمام من بين الحائز على شروطها من ذرية علي. ولذا سنقصر كلامنا على الشيعة الإمامية، على اعتبار عدم وجود فوارق جوهرية بين الشيعة الزيدية وبين جمهور المسلمين من أهل السنة والجماعة، وهنا يجب أن نتذكر أن أهل السنة والجماعة إنما هو وصف عام لجمهور المسلمين ممن لم ينتمي إلى فرقة بعينها من الفرق الكلامية.
أما عند الشيعة الإمامية – في العراق وإيران، فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة علي كرم الله وجها نصا ظاهرا ويقينا صادقا. ونص علي على إمامة الحسن والحسن على إمامة الحسين، وهكذا إماما بعد إمام ينص المتقدم منهم على المتأخر. وهؤلاء هم الأئمة الإثنى عشر بدءا بالإمام علي كرم الله وجهه (الرضى) إلى الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن (المهدي المنتظر). وهؤلاء الأئمة الإثنى عشر لهم صفة الإمامة الحقة، وبه سميت هذذه الفرقة إمامية وإثنى عشرية.
وهؤلاء الأئمة معصومون حالهم في ذلك حال النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل الذي يقتضي عصمة النبي عندهم هو نفس الدليل الذي يقتضي عصمة الإمام. و بغض النظر عن رأينا في هذه المسألة، وهو أن عصمة النبي ضرورة شرعية؛ والقول بغير ذلك يهدم أساس الشريعة فهو المبلغ عن ربه ولا يجوز عليه الخطأ أو السهو أو النسيان فيما يبلغ عن ربه، وهذا الدليل لا يقتضي عصمة الإمام لأنه لا يبلغ عن ربه، وإنما دوره هو تطبيق الشريعة المبلغة عن النبي. وبغض النظر عن هذا الخلاف فهو يبدو الآن غير ذي قيمة لأن هؤلاء الأئمة ماتوا إلى رحمة الله، باستثناء الإمام الأخير؛ الذي هو عندهم المهدي المنتظر وصاحب الزمان.
الإمام الثاني عشر – محمد بن الحسن – ولد سنة 256ه - واختفى في سرداب وعمره إثنا عشر عاما أو أقل باختلاف الروايات، ويعتقد الشيعة الإمامية أنه سيعود في آخر الزمان ليملأ الدنيا عدلا كما ملئت جورا. ويرمزون إليه بالحرفين (عج) بمعنى عجل الله فرجه. وإذا سألت علماء الشيعة المعاصرين عن هذا الأمر، وكيف يمكن لإنسان أن يظل حيا طول هذه المدة؟، فسيقولون لك: إنها من المرويات والآثار التي وصلتهم ولا يستبعدون وقوعها.

عقيدة المهدي المنتظر

على كل حال عقيدة المهدي المنتظر ليست قاصرة على الشيعة؛ فهي موجودة عند باقي المسلمين من غير الشيعة، كما هي موجودة في الديانات الكبرى الثلاث: اليهودية والنصرانية والإسلام على صور متعددة.
أما عند باقي المسلمين، من غير الشيعة الإمامية، فإن الأحاديث المتعلقة بالمهدي لم ترد لا في صحيح مسلم ولا في صحيح البخاري، ولذلك شكك فيها بعض العلماء قديما وحديثا، فقد شكك فيها ابن خلدون قديما، وشكك فيها أحمد أمين، وناصر الدين النشاشيبي حديثا. أما ابن خلدون فهو مؤرخ وسياسي وعالم اجتماع؛ ولكنه ليس مرجعا في علم الحديث؛ وأما المحدثين مثل أحمد أمين وغيره فلم يعرف عن أحد منهم تبحره في علم الحديث حتى يؤخذ قوله مأخذ الجد. وأما أن أخبار المهدي لم ترد لا في البخاري ولا في مسلم؛ فلم يقل أحد من العلماء إن كتابي البخاري ومسلم قد استوعبا الأحاديث الصيحة؛ ولم يبق صحيح في غيرهما، كما أنهما لم يدعيا ذلك؛ وقد وردت هذه الأخبار في كتب أخرى كثيرة تلقتها الأمة بالقبول، فقد أورد أبو داود عدة أحاديث عن المهدي أولها عن أم سلمة: "قالت سمعت رسول الله صلى اللهم عليه وسلم يقول المهدي من عترتي من ولد فاطمة"، وثانيها عن أبي سعيد الخدري: "قال: قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما يملك سبع سنين". وثالثها عن زر بن حبيش عن عبد الله: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي زاد في حديث فطر يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا". وقال في حديث سفيان لا تذهب أو لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي".[9] وأوردها الترمذي كذلك: قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم: "لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي"؛ قال أبو عيسى الترمذي وفي الباب عن علي وأبي سعيد وأم سلمة وأبي هريرة وهذا حديث حسن صحيح. وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي أجلى أقنى يملأ الأرض عدلا كما ملئت قبله ظلما يكون سبع سنين"[10] وفي حديث آخر: "لتملأن الأرض جورا وظلما فإذا ملئت جورا وظلما يبعث الله رجلا اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي فيملؤها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما فلا تمنع السماء شيئا من قطرها ولا الأرض شيئا من نباتها يمكث فيكم سبعا أو ثمانيا فإن أكثر فتسعا".[11]
ولكني على كل حال يجب أن أعترف بأني لست متخصصا في هذا الميدان، علم الحديث، ولا أنا ابن بجدته، ولا فارس نجدته؛ وكل ما أستطيع قوله: هو أن عقيدة المهدي تتفق مع الأصول العامة للدين، فقد وعد الله سبحانه وتعالى بأن يتم نوره؛ ولما كانت هذه الرسالة هي الرسالة الخاتمة فلا يمكن أن تنتهي إلى أن تفنى الدنيا: ]وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون[ (8/الصف)، ولقوله تعالى: ]وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لايُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون[ (55/النور). ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله".[12] وقوله: "مثل أمتي مثل المطر، لا يُدرى أوله خير أم آخره".[13] وقوله: "إن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعته".[14]
وأما من زاوية علم النفس السياسي؛ فإن الاعتقاد في الانتصار النهائي للحق عامل مهم في عدم ذوبان هذه الأمة، وفي تماسكها لأنه يستند إلى أساس متين من الثقة بالله، ثقة تدفع إلى التفاؤل بالمستقبل؛ رغم كل ما مر بها من كوارث. على كل حال، عقيدة المهدي – عند أهل السنة – ليست من القضايا الأصولية، وعند كثير من الشيعة الإمامية أيضا؛ فإن الاعتقاد في المهدي صاحب الزمان ليس من أصول المذهب، ولذا فالخلاف فيها ليس بذي بال، عند الفريقين.
وأما الخلاف في الفروع الفقهية فهو يسير كما أنه قائم داخل الاجتهادات في كل فرقة، والشيعة الإمامية لا يصححون الحديث إلا إذا كان في سلسلة الرواة أحد الأئمة المعصومين (عندهم). وبالرغم من ذلك، فإن الخلاف في الأحاديث يسير؛ لأن الباب الذي انتقل منه علم النبي كان آل البيت، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم وهذا عليٌ بابها".[15] ولأن معظم الأحاديث قد انتقلت إلى الأمة فعلا عبر أئمة آل البيت وخاصة علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وابنه محمد الباقر، وحفيده جعفر الصادق. وجعفر الصادق (المتوفى 148ه) بالذات روى عنه الحديث أكثر من ألفين راوي، وتلمذ على يديه لمدة عامين الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان قال عنهما: "لولا السنتان لهلك النعمان".



وجوب نصب الإمام

أما القضية الكبرى التي وقع فيها وبسببها الخلاف فهي قضية الإمامة. لقد انعقد الإجماع على وجوب نصب الإمام، هذا النوع من الإجماع؛ هو ما يسميه العلماء "إجماع الأصول"؛ وهو اتفاق جميع الأمة مجتهديها وغير مجتهديها، خاصها وعامها، على العلم بما أجمعت الأمة عليه؛ لثبوته بالنص المقطوع به الذي ليس محلا للنظر، ولا يسع مسلم أن يجهله؛ كالإجماع على أركان الإسلام، والإجماع على فرضية الصلاة وأن صلاة الظهر أربع ركعات أو بصفة عامة الإجماع على ما علم من الدين بالضرورة.
وقد قال بعض المتكلمين إن نصب الإمام واجب على الأمة عقلا. يقول الفخر الرازي (المتوفى 606ه): "نصب الإمام واجب على أمته، والخوارج يقولون: ليس بواجب، والروافض (الشيعة) يقولون: إنه واجب على الله. والدليل على صحة ما ذكرناه؛ أنا رأينا أن كل زمان كان في العالم ملك عادل، مهيب حازم؛ فإن أهل الشر والفسق يخافون منه ويمتنعون من أفعالهم القبيحة، وينتظم أمور العالم، وإن كان ضعيفا عاجزا بحيث لا يخاف أحد منه، فإنه يختل أمر العالم، وتتشوش أفعال الخلق. فإذا ثبت هذا تبين أن نصب الإمام لدفع الضرر، ورفع الضرر عن نفس الخلق واجب، وكذلك يجب معرفة الإمام، برهانه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات ولم يعرف إمام زمانه، فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا".[16]صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وتسليم النظر إليه في أمورهم. وكذا في كل عصر من بعد ذلك. ولم تترك الناس فوضى في عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعا دالا على وجوب نصب الإمام".[18]الله تعالى، وإما حكمة عقلية واجبة؛ كان الثاني واجبا. وأما السمع؛ فإن الله تعالى قد أمر بمتابعة أولي الأمر وطاعتهم فقال: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا( [19] (59/النساء). "وقالت الشيعة الإمامية: الإمامة واجبة في الدين عقلا وشرعا، كما أن النبوة واجبة في الفطرة عقلا وسمعا. أما وجوب الإمامة عقلا؛ لأن احتياج الناس إلى إمام واجب الطاعة، يحفظ أحكام الشرع عليهم، ويحملهم على مراعاة حدود الدين كاحتياج الناس إلى نبي مرسل؛ يشرع لهم الأحكام، ويبين لهم الحلال والحرام. واحتياج الخلق إلى استبقاء الشرع كاحتياجهم إلى تمهيد الشرع، وإذا كان الأول؛ واجبا إما لطفا من فإذا ثبت هذا؛ لزم أن يكون نصب الإمام واجبا على أمته، ومعرفته أيضا واجب".[17] ولكن هذا الوجوب العقلي ليس خاصا بالإمامة؛ بل هو لوجوب الرئاسة بصفة عامة، أو السلطة كظاهرة ضرورية لانتظام حياة الناس. أما وجوب الإمامة كنظام خاص ملتزم بالشرع، وليس أي حكومة كانت؛ فإن مناط الوجوب فيه هو الشرع. يقول ابن خلدون: "ثم إن نصب الإمام واجب؛ قد عُرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين؛ لأن أصحاب رسول الله
ولم يشذ عن هذا الإجماع سوى النجدات من الخوارج – وهم أتباع نجدة بن عويمر الحنفي (المقتول 68ه) والأصم من المعتزلة – عبد الرحمن بن كيسان الأصم (المتوفى 200ه) - وهؤلاء نقلوا الإمامة، من مرتبة الوجوب إلى مرتبة الجواز، ولم يقولوا بعدم ضرورتها أصلا، فرأوا أن الإمامة لا تكون واجبة إذا تناصفت الأمة، ولم تتظالم، وتعاطت الحق بينها. ولذلك فسر المتأخرون من المعتزلة هذا القول من الأصم بأنه غير مخالف لما عليه الأمة؛ لأنه إذا كان لا يجوز في العادة أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس يحكم بينهم، وسلطان يدفع عدوان بعضهم على بعض؛ فقد قال بوجوب الرئاسة على كل حال؛ اللهم إلا أن يقول: "إنه يجوز أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس"، وهذا بعيد. وعلى كل حال؛ فإن الأول من الخوارج الذين لا يعتد بهم في وفاق أو خلاف، وأما الثاني فإن أصحابه المعتزلة: إما أنهم لم يوافقوه في قوله، أو فسروه بما لا يخالف إجماع الأمة؛ وهو – في جميع الأحوال - لم يلحظ في وظيفة الحكومة إلا الجانب الردعي؛ المتمثل في الشرطة والقضاء، وأغفل الجانب الرسالي الحضاري؛ فمقتضى تعليله أن الحاجة إلى الإمامة هي لمنع التظالم؛ ونحن لا نقبل بهذا التعليل، ونرى أنه حتى لو فرضنا إمكان أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس يحكم بينهم، تبقى الحاجة إلى الإمامة – من وجهة النظر الإسلامية – قائمة لأداء الوظيفة الرسالية الحضارية للإسلام.
وأما مستند الإجماع؛ فهو أن انتظام أمور الدنيا ضروري لانتظام أمور الدين الذي به جماع أمور الدنيا والآخرة؛ وإذا كانت الآخرة مقصودة بالذات، فإن الدنيا مطلوبة بالعَرَض؛ لأن المرء لن يصل إلى الآخرة إلا عن طريق الدنيا لأنها مزرعة الآخرة؛ ولأن الدنيا إما أن تكون محكومة بالقرآن أو محكومة بالشيطان. وما لم ينتظم المسلمون في دولة وإمامة ورئاسة توحدهم، فسيكونون لقمة سائغة لغيرهم، ولن تنتظم أمورهم، ولسوف يمنعهم الأغيار من عبادة ربهم ومن ممارسة شعائرهم؛ وأهم من ذلك كله من القيام برسالة ربهم؛ وهي أن يكون الأمر كله لله. إن العبادة ليست مرادفة للدين – كما قد يظن الغافلون – بل هي مقدمة للدين أو تمهيد للدين. وكلمة "عبادة" مشتقة من "عبَّد" الطريق: إذا أعده ومهده وجعله صالحا للسير. وكل عبادات الإسلام تعد المسلم لكي يتحمل مسؤولياته التي تفوق وجوده الفردي، كما تعد الجماعة المسلمة لتتحمل مسؤولياتها التي تفوق نطاق وجودها الإقليمي: انظر إلى الصلاة وكيف أنها تعود المسلم الدقة في ضبط الوقت، فضلا عن دوام صلته بالله الذي يستمد منه العون والتأييد، ثم انظر كيف ينتظم المسلمون صفوفا في صلاتهم؛ فتتوحد قلوبهم بتوحد صفوفهم وتوحد حركاتهم وقيامهم وركوعهم وسجودهم وتوحد قبلتهم. ومن هنا كانت صلاة الجماعة تفوق صلاة الفذ (الفرد) بسبع وعشرين درجة – كما جاء في الحديث. وانظر إلى الزكاة؛ وكيف تعبر عن التضامن الاجتماعي وتحمل الغني لمسؤولياته إزاء الفقير، وانظر إلى الصوم؛ وكيف يربي في الفرد المسلم استحضار مراقبة الله عز وجل، ويعمق فيه الشعور بحاجة المحتاج، وانظر إلى الحج؛ وكيف يمثل مؤتمرا سنويا يجتمع فيه المسلمون على طاعة ربهم فتجتمع قلوبهم. انظر إلى ذلك كله لتعرف كيف أن العبادة تعد المسلم لكي يتولى مسؤولياته في مجتمعه، وتعد الأمة المسلمة لكي تتولى مسؤولياتها في قيادة الإنسانية باعتبارها أمة الخلافة – خلافة الاصطفاء. ثم انظر إلى حالنا بالأمس وحالنا اليوم لكي تعرف الفرق.

اختيار الإمام

إن الموقف الفقهي السني يقتضي البناء على أحد الفروض الفقهية الكلامية في تعيين الحاكم الإسلامي في الدولة الإسلامية، وإذا استبعدنا الاستيلاء على الحكم بالتغلب والقوة أو الوراثة؛ فإن أسلوب تعيين الحاكم الإسلامي ينحصر في اعتماد مبدأ الشورى بإحدى صيغتيه وهما:
o ما اصطلحنا عليه بالشورى العامة وهي ما يعرف الآن بالانتخاب العام.
o الشورى الخاصة وهي ما اصطلح عليه الفقهاء بشورى أهل الحل والعقد.
فعلى أساس أحد هذين المبنيين الفقهيين في مسألة الشورى يمكن للمسلمين أن ينتخبوا حاكما ويشكلوا حكومة إسلامية. ويمكن الجمع بين هذين الفرضين بأن تكون شورى أهل الحل والعقد بمثابة ترشيح، والشورى العامة بمثابة انتخاب. والحاكم المنتخب بهذه الطريقة حاكم شرعي أصيل – إذا كان جامعا للشرائط المعتبرة بحكم الولاية المعطاة له من الأمة.
وأما الموقف الشيعي المشهور والمعروف؛ فإنه يختلف اختلافا أساسيا عن الموقف الفقهي السني في هذه المسألة. حيث إنه بناء على الموقف الكلامي الشيعي؛ فإن الإمام المعصوم حي موجود وهو إمام الزمان، والفراغ في السلطة الإسلامية ليس ناشئا عن عدم وجود الإمام؛ وإنما هو ناشئ عن غيابه الذي تسببت به أوضاع الأمة نفسها بسيطرة حكام الجور عليها.
"ويناقش جمهور فقهاء الشيعة مبدأ الشورى، ولا يسلمون بكونه أساسا صالحا لإعطاء شرعية للحاكم المنتخب أو المعين على أساسه؛ ومن ثم فلا تكون سلطته شرعية من وجهة النظر الفقهية الكلامية الإسلامية – عند الشيعة الإمامية. ولا يرون في آيتي الشورى وفيما ورد في شأن مبدأ الشورى في السنة ما يصلح دليلا شرعيا في هذه المسألة. والحاكم على أي حال – لا يمكن أن يكون حاكما أصيلا مع وجود الإمام المعصوم الغائب الذي هو الحاكم الأصيل بمقتضى عقيدة الشيعة الإمامية في مسألة الإمامة.
"وهنا يبرز عند فقهاء الشيعة موقفان فقهيان:
o أحدهما: الموقف الذي يذهب أصحابه إلى عدم مشروعية إقامة حكم إسلامي في عصر الغيبة الكبرى؛ لأن إقامة الحكم وتعيين الحاكم يقتضي ممارسة الولاية العامة، والتصرف في أموال المسلمين وأنفسهم بمقتضى هذه الولاية العامة. والأصل الأولي في مسألة الولاية هو أن الولاية – في الأصل – لله وحده وعدم ولاية أحد على أحد، والقدر المتيقن مما علم خروجه عن هذا الأصل الأولي هو ولاية التصرف العامة على المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم والإمام المعصوم دون من عداهما؛ فيبقى كل من عداهما مشمولا بالأصل الأولي القاضي بعدم ولاية أحد على أحد. وأما الفقيه الجامع للشرائط؛ فقد دل الدليل على ثبوت بعض الولايات الخاصة المحدودة والمحددة له في بعض الموارد؛ فيقصر على ما علم ثبوته منها دون المشكوك فيه، فضلا عن الولاية العامة. ونتيجة هذا الموقف الفقهي هي – كما قدمنا – عدم مشروعية السعي إلى إقامة حكم إسلامي في عصر الغيبة. ولعل هذا الرأي هو المعروف المشهور بين قدماء فقهاء الشيعة الإمامية. ويبدو أن القول بعدم مشروعية السعي إلى إقامة حكم إسلامي في عصر الغيبة كان هو المعروف عن الشيعة في أوساط مخالفيهم؛ فهذا أبو الحسن الأشعري (المتوفى 330ه) يقول: "وأجمعت الروافض على إبطال الخروج وإنكار السيف ولو قتلت حتى يظهر لها الإمام وحتى يأمرها بذلك".[20]
o ثانيها: الموقف الذي يذهب أصحابه إلى مشروعية إقامة حكم إسلامي في عصر الغيبة. والمشروعية هنا تساوق الوجوب؛ فإقامة الحكم الإسلامي من القضايا التي يقال فيها: إنها من الأمور التي إذا جازت وجبت؛ فيجب على المسلمين أن يعملوا من أجل إقامة حكم على أساس الإسلام يطبق أحكام الشريعة الإسلامية، ويصوغ حياة المسلمين على أساس هذه الأحكام. ومستند هذا الموقف الفقهي عند معظم الذاهبين إليه هو ما اصطلح عليه بولاية الفقيه حيث يرى الذاهبون إليه أن الدليل قد دل على أن الإمام المعصوم قد نصب الفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة الكبرى وليا عاما ولاية تصرف على المسلمين، وقد ثبت للفقيه بمقتضى هذه الولاية جميع ما ثبت للإمام المعصوم الولاية عليه. وهذا الفقيه الجامع للشرائط هو الحاكم الإسلامي المعين بالنصب العام حاكما على المسلمين، وهذا هو أساس مصطلح "ولاية الفقيه". وعلى هذا فعلى المسلمين إقامة حكم إسلامي في عصر الغيبة على أساس ولاية الفقيه الذي يعطي – بما له من الولاية العامة في التصرف – الشرعية لكل التصرفات التي يتوقف عليها إنشاء الدولة الإسلامية وإقامة الحكومة الإسلامية واستمرارها وممارستها لسلطتها على أموال الناس وأنفسهم، كما هو الشأن في سائر الحكومات ولكن على أساس تطبيق الشريعة الإسلامية".[21]
وهكذا أدى تطور المذهب الشيعي خلال المائة سنة الأخيرة إلى بلورة نظرية "ولاية الفقيه" التي سمحت للشيعة بالسعي إلى إقامة حكومة إسلامية، وقد صاغ الإمام الخميني هذه النظرية وعلى أساسها قامت الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛[22] وليس من شأننا في هذا المقال البحث في تطور هذه النظرية ونشأتها وتاريخها إذ يمكن للقارئ أن يرجع إلى هذا الموضوع في مظانه،[23] وكل ما نود أن نذكر القارئ به هو أن الشيعة الإمامية بذلك قد عادوا إلى مبدأ الاختيار؛ لأن معرفة الفقيه الجامع للشروط وتنصيبه يعود إلى الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد مما لا يختلف كثيرا عن النظرية السياسية لدى أهل السنة – كما سبق وأوضحنا أن مبدأ الشورى يعد أساسا كافيا عندنا؛ بل ولا أساس غيره لإقامة الحكومة الإسلامية – وهكذا يمكننا القول بأن هذه النقطة قد أصبحت عامل تقريب بين الشيعة والسنة، والتأمل في الموقف السياسي والفكري الراهن يؤيد حدسنا؛ فقد تم إقامة جمهورية إسلامية في إيران الشيعية، وتم تعيين رئيس الجمهورية بالانتخاب العام – الشورى العامة – وتم اختيار مرشد الجمهورية – الفقيه أو نائب الإمام – باختيار المراجع الشيعية – أي الشورى الخاصة.

رفض التسليم لسلطان الجاهلية

إن الظروف التي تواجه الأمة اليوم تختلف اختلافا كبيرا عن الظروف التي واجهتها في القرن الأول، والخلاف السياسي لم يعد خلافا حول تحديد أهلية الإمام ومن هو بالإمامة أولى، فإن سقوط الخلافة أو إسقاطها وخضوع العالم الإسلامي للاحتلال الأجنبي أولا وملحقاته ثانيا من الغزو الفكري جعل التحدي الذي تواجهه الأمة تحديا مصيريا: أن تكون أو لا تكون، ولن ينفع الأمة الآن بكل تأكيد إعادة إنتاج الخلافات الماضية، التي ليس لها إلا معنى واحد هوتشتيت جهدها وشلها عن الحركة حتى تستسلم لأعدائها المتربصين بها الدوائر. لقد أدى سقوط الخلافة إلى أوضاع بالغة السوء بالنسبة للمسلمين فقد سقطت وحدة العالم الإسلامي أولا ثم إن الدول التي قامت على أنقاض الخلافة ثانيا قامت على التصورات السياسية الغربية المناقضة للإسلام. وأصبحت قضية السياسة والحكم قضية أصولية بالفعل.
إن وفاة النبي لا تعني انتهاء رسالة الإسلام لقوله تعالى: )وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ( (144/آل عمران). "ومن المعلوم المتفق عليه أن الآية المباركة نزلت في عتاب وتعليم المسلمين الذين شاركوا في معركة أحد حيث انهزموا من المشركين بعد أن نادى منادي هؤلاء إن محمدا قد قتل على إثر نكسة حلت بالمسلمين في المعركة بسبب مخالفة بعض الجيش لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم، وتخليه عن موقعه الذي أمره النبي عليه السلام أن يبقى فيه مهما كانت تطورات المعركة؛ فقد عبر هؤلاء بانهزامهم بعد سماعهم النداء بقتل النبي صلى الله عليه وسلم عن تخليهم عن مبدأ الجهاد، واستسلامهم لسلطة المشركين السياسية. وقد عبر بعضهم بصراحة عن ذلك حيث تجمع أكثر الفارين وقال بعضهم: "ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم".[24]
"ولا شك أنهم لم يتخلوا عن الإسلام بما هو عقيدة وعبادة؛ وإنما تخلوا عن فكرة المجتمع السياسي والحكومة والدولة؛ فإن هذه الفكرة هي التي فجرت الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من ناحية، وقيادات المجتمع المكي وسائر المشركين من جهة أخرى. فبين الله تعالى لهم في الآية المباركة أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس إلا رسولا قد سبقه رسل ماتوا أو قتلوا، واستمرت الرسالة من بعدهم؛ فالرسالة هي الأمر الثابت الذي لا يزول ولا يتغير بموت الرسول أو قتله. والاستفهام الاستنكاري في الآية يدل على لزوم الاستمرار في النهج الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم، وسار عليه في حياته، وقاتل وقوتل عليه؛ وهو: تكوين المجتمع السياسي الإسلامي، وإقامة الدولة والحكومة، وتنفيذ أحكام الله في ذلك. وهذا هو ما ظهر من مسلكهم، وأقوال بعضهم بعد الهزيمة أنهم تخلوا عنه، ولقد سمى الله تعالى التخلي عن مبدأ الجهاد في هذه الواقعة، وما يستلزمه ذلك من تخلٍ عن مبدأ إقامة المجتمع السياسي المتمايز ذي الرسالة التي تعبر عنها الأمة من خلال دولة وحكومة تقود ذلك المجتمع انقلابا على الأعقاب؛ أي عودة إلى ما كانوا عليه قبل الإسلام أو قبل الهجرة وتأسيس الدولة الإسلامية من التسليم لسلطان الجاهلية في المسألة السياسية الاجتماعية".[25]
وهذا التسليم لسلطان الجاهلية في المسألة السياسية والاجتماعية هو ما حدث بعد سقوط الخلافة. إن المعضلة التي تواجه المسلمين اليوم هي استعادة الخلافة التي هي رمز وحدتهم وعزتهم، والعودة إلى الخلافة لن تكون بالعودة إلى المُلك العضوض الذي استنه معاوية بن أبي سفيان والتي أسميناها بالخلافة الناقصة تمييزا لها عن الخلافة الراشدة من ناحية، والدول التي نشأت في العالم الإسلامي عقب سقوط الخلافة من ناحية أخرى. سر هذه التسمية أن الخلافة الناقصة حافظت على وحدة العالم الإسلامي والتزمت بأحكام الشريعة، وإن لم تلتزم بالشورى في مسألة تعيين الإمام. وسواء أكانت المشكلة في عدم وجود إمام للمسلمين – عند السنة أو في غياب الإمام - عند الشيعة الإمامية؛ فإن النتيجة واحدة في أنه يتعين على المسلمين اختيار إمام لهم، ولن يكون ذلك إلا بالشورى.
إن تعثر المشروع الصهيوني الأمريكي في أفغانستان والعراق ولبنان، جعلهم يحاولون نقل الصراع من صراع إسلامي صهيوني إلى صراعات داخلية في العالم الإسلامي بتذكية الخلافات المذهبية بين الشيعة والسنة، والتي أصبحت في غالبيتها مسألة تاريخية مقطوعة الصلة بهموم اليوم والغد. وهذه حيلة واضحة وضوح الصبح لذي عينين، ولا يمكن أن تنخدع بها هذه الأمة العريقة.
إن الصراع الداخلي الحقيقي اليوم هو صراع بين المخلصين وبين المنافقين؛ صراع بين من ساند المحتل وبين من يقاوم المحتل، ويستوي أن يكون من ساند المحتل سنيا أو شيعيا أو أن يكون من يقاوم الاحتلال من هذا الفريق أو ذاك. إن بعض الأنظمة العربية الخاضعة للصهيونية، والتي تحاول أن تقوم بدور الرافعة التي ترفع المشروع الأمريكي الساقط في وحل العراق تعيد إنتاج تلك المقولات التي تحاول بها تقسيم الأمة وتفتيت وحدتها، خاصة بعد صعود نجم حزب الله بتصديه للعدوان على لبنان. وفي هذا الإطار يثيرون مسألة سب الصحابة ويذيعون على سبيل المثال أن الشيعة يسبون أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وهذا غير صحيح؛ فهم يسبون عمر بن سعد قائد الجيش الذي قتل الإمام الحسين، وربما بعض العوام من الشيعة لا يفرقون بين عمر بن سعد وعمر بن الخطاب.
نحن من جانبنا لا نوافق على مواقف بعض المراجع الشيعية المهادنة للاحتلال مثل علي السيستاني، ولا مواقف أولئك المساندين للاحتلال مثل عبد العزيز الحكيم الذي ذهب إلى أمريكا للمطالبة ببقاء قوات الاحتلال، ولكننا لا ندين موقف إخواننا الشيعة بمواقف هذه الزعامات التي لا تعبر عن عموم الشيعة، كما لا تعبر الحكومات العربية المتحالفة مع إسرائيل عن موقف جمهور السنة. إن هذه الأمة مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى للوقوف صفا واحدا ضد الاحتلال والتبعية والتغريب. وفي هذا الصراع الشامل ستجد مساندة من كل قوى الخير في العالم أيا كانت مذاهبهم أو نحلهم أو عقائدهم، ونحن على يقين من نصر الله.
ولذلك فقد تعجبنا غاية التعجب من بيان نُشر في الإعلام منسوب إلى مجموعة من العلماء والمثقفين في المملكة العربية السعودية يدعون فيه حكومتهم إلى نصرة أهل السنة في العراق. تعجبنا غاية التعجب لأن العلماء هم ضمير الأمة، فكيف ينزلقون إلى هذا المنزلق الخطير، الذي لا يحقق إلا مصلحة الاحتلال؟. من الواضح أن أمريكا تعاني من مأزق حقيقي في العراق، وأنها تريد أن تستبدل وجودها هناك بحرب طائفية في العراق، فما بالك وهؤلاء عن قصد أو غير قصد يهيئون لها الفرصة لاستبدال احتلال العراق بحرب إقليمية أخرى في المنطقة على غرار الحرب العراقية الإيرانية؛ وليست مجرد حرب أهلية عراقية!. وهل يحلم المشروع الصهيوني بأكثر من هذا؟. أفهم أن يدعو العلماء الشعوب إلى مساندة المقاومة العراقية في تصديها للاحتلال، فهذا واجبهم وهذا دورهم. قلت الشعوب ولا أقول الأنظمة؛ لأنه لا أمل فيها بعدما تحالفت مع الصهيونية، والمواقف واضحة من فلسطين، إلى أفغانستان، إلى العراق، إلى لبنان.


[email protected]
------------------------------------------------------------------------
[1] مآثر الإنافة في معالم الخلافة للقلقشندي – عالم الكتب – بيروت – ج 1 – ص 13.
[2] ابن عبد ربه (المتوفى 328 ه) أحمد بن محمد - العقد الفريد – دار الكتب العلمية – بيروت – 1404 ه - ج 5 – ص 119.
[3] مقدمة ابن خلدون – ص 548 – طبعة لجنة البيان العربي بمصر.
[4] نقل ابن المرتضى (المتوفى 840 ه) في: "المنية والأمل" بإملاء القاضي عبد الجبار عن الحسن البصري أيضا أنه قال: "أربع خصال في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة: خروجه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها بغير مشورة منهم، واستخلافه يزيد وهو سكير خمير يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زيادا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)، وقتله حجر بن عدي فياله من حجر بن عدي".
[5] متفق عليه.
[6] ملخصا من تاريخ الخلفاء للسيوطي.
[7] نهج البلاغة – مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بشرح الأستاذ الإمام محمد عبده – مؤسسة الأعلمي بيروت - ج 2 – ص 141.

[8] المنتسبون للإمام زيد بن علي المقتول 122ه.
[9] أخرجه الترمذي أيضا، وأحمد عن عليّ، وابن ماجه عن أبي هريرة.
[10] وبنحوه أبو داود عن زر بن حبيش، وابن ماجه عن أبي هريرة.
[11] البزار، والطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري، والكامل لابن عدي، وأبو نعيم في الحلية، ومختصرا عند الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك، وابن حبان في صحيحه.
[12] الترمذي من حديث ثوبان وقال: حسن صحيح. وأبو داود بلفظ: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال" من حديث عمران بن حصين. ومسلم، وأحمد من حديث جابر بلفظ: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقول أميرهم تعال صلي بنا فيقول: لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله على هذه الأمة".
[13] أحمد في المسند، والترمذي من حديث أنس، وأحمد في المسند كذلك من حديث عمار، وأبو يعلي في مسنده من حديث عليّ، والطبراني في الكبير من حديث ابن عمر وابن عمرو.
[14] أخرجه أحمد في مسنده، وابن ماجه من حديث أبي عنبة الخولاني.
[15] أخرجه البزار، والطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله، والحاكم في المستدرك عن عليّ.
[16] في مسند أحمد: 16271 "حدثنا أسود بن عامر أخبرنا أبو بكر عن عاصم عن أبي صالح عن معاوية قال قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم: "من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية"، ومسلم من حديث أبي هريرة: "من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية...الخ"، وبنحوه النسائي.
[17] الفخر الرازي – المسائل الخمسون في علم الكلام – المسألة السابعة والأربعون في نصب الإمام – ضمن مجموعة من الرسائل طبع الشيخ محي الدين صبري الكردي الكامنشكاني – مطبعة كردستان بمصر – 1328 ه.
[18] مقدمة ابن خلدون – طبعة لجنة البيان العربي بمصر – ص 520.
[19] الشهرستاني (المتوفى 548 ه) أبو الفتح محمد بن عبد الكريم – نهاية الإقدام في علم الكلام – تحقيق ألفرر جيوم – مكتبة زهران – القاهرة – بدون تاريخ - ص 480.
[20] أبو الحسن الأشعري – مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين – مكتبة النهضة المصرية – القاهرة – 1389 ه – ج 1 – ص 129.
[21] محمد مهدي شمس الدين – في الاجتماع السياسي الإسلامي – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر – بيروت – 1412 ه – ص 264/266.
[22] الإمام آية الله الخميني (المتوفى 1989م) – الحكومة الإسلامية – إعداد وتقديم حسن حنفي – طبع مصر – 1979م.
[23] يمكن الرجوع على سبيل المثال إلى: محمد عبد الكريم عتوم – النظرية السياسية المعاصرة للشيعة – دار البشير – عمان – الأردن – 1409 ه.
[24] محمد بن جرير الطبري – تاريخ الرسل والأمم والملوك – دار الفكر – بيروت – 1399 ه – ج 3 ص 720.
[25] محمد مهدي شمس الدين – في الاجتماع السياسي الإسلامي – المرجع السابق – ص 187/189.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.