إن الغاية المقصودة من علم الفقه هي تطبيق الأحكام الشرعية علي أفعال الناس وأقوالهم فالفقه هو المرجع للقاضي في قضائه والمفتي في فتواه ومرجع كل مكلف لمعرفة الحكم الشرعي فيما يصدر عنه من أقوال وأفعال وهذه هي الغاية المقصودة من كل القوانين في أية أمة فإنها لا يقصد منها إلا تطبيق موادها وأحكامها علي أفعال الناس وأقوالهم وتعريف كل مكلف بما يجب عليه وما يحرم عليه. وأما الغاية المقصودة من علم أصول الفقه: فهي تطبيق قواعده ونظرياته علي الأدلة التفصيلية للتوصل إلي الأحكام الشرعية التي تدل عليها فبقواعده وبحوثه تفهم النصوص الشرعية ويعرف ما تدل عليه من الأحكام ويعرف ما يزال به من خفاء الخفي منها وما يرجح منها عند تعارض بعضها ببعض وبقواعده وبحوثه يستنبط الحكم بالقياس أو الاستحسان أو الاستصحاب أو غيرها في الواقعة التي لم يرد نص بحكمها. وبقواعده وبحوثه يفهم ما استنطبه الأئمة المجتهدون حق فهمه ويوازن بين مذاهبهم المختلفة في حكم الواقعة الواحدة لأن فهم الحكم علي وجهه والموازنة بين حكمين مختلفين لا يكون إلا بالوقوف علي دليل الحكم ووجه استمداد الحكم من دليله ولا يكون هذا إلا بعلم أصول الفقه فهو عماد الفقه المقارن. نشأت أحكام الفقة مع نشأة الإسلام لأن الإسلام هو مجموعة من العقائد والأخلاق والأحكام العملية وقد كانت هذه الأحكام العملية في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم مكونة من الأحكام التي وردت في القرآن. ومن الأحكام التي صدرت من الرسول صلي الله عليه وسلم فتوي في واقعة أو قضاء في خصومة أو جواب عن سؤال. فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الأول مكونة من أحكام الله ورسوله صلي الله عليه وسلم ومصدرها القرآن والسنة. وفي عهد الصحابة واجهتهم وقائع وطرأت لهم طوارئ لم تواجه المسلمين ولم تطرأ لهم في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم فاجتهد فيها أهل الاجتهاد منهم وقضوا وأفتوا وشرعوا وأضافوا إلي المجموعة الأول عدة أحكام استنبطوها باجتهادهم فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الثاني مكونة من أحكام الله ورسوله صلي الله عليه وسلم وفتاوي الصحابة وأقضيتهم ومصادرها القرآن والسنة واجتهاد الصحابة. وفي هذين الطورين لم تدون هذه الأحكام ولم تشرع أحكام لوقائع فرضية بل كان التشريع فيهما لما حدث فعلاً من الواقع وما وقع من الحوادث ولم تأخذ هذه الأحكام صبغة علمية بل كانت مجرد حلول جزئية لوقائع فعلية ولم تسم هذه المجموعة علم الفقه ولم يسم رجالها من الصحابة الفقهاء. وفي عهد التابعين وتابعي التابعين والأئمة المجتهدين وهو بالتقريب القرنان الهجريان الثاني والثالث اتسعت الدولة الإسلامية ودخل في الإسلام كثيرون من غير العرب وواجهت المسلمين طوارئ ومشاكل وبحوث ونظريات وحركة عمرانية وعقلية حملت المجتهدين علي السعة في الاجتهاد والتشريع لكثير من الوقائع وفتحت لهم أبواباً من البحث والنظر فاتسع ميدان التشريع للأحكام الفقهية وشرعت أحكام كثيرة لوقائع فرضية وأضيفت إلي المجموعتين السابقتين أحكام كثيرة فكانت مجموعة الأحكام الفقهية في طورها الثالث مكونة من أحكام الله ورسوله وفتاوي الصحابة وأقضيتهم وفتاوي المجتهدين واستنباطهم ومصادرها القرآن والسنة واجتهاد الصحابة والأئمة المجتهدين. وفي هذا العهد بدئ بتدوين هذه الأحكام مع البدء بتدوين السنة واصطبغت الأحكام بالصبغة العلمية لأنها ذكرت معها أدلتها وعللها والأصول العامة التي تتفرغ عنها وسمي رجالها الفقهاء وسمي العلم علم الفقه ومن أول ما دون فيها فيما وصل إلينا موطأ مالك بن أنس رضي الله عنه فإنه جمع فيه بناء علي طلب الخليفة المنصور ما صح عنده من السنة ومن فتاوي للصحابة والتابعين وتابعيهم فكان كتاب حديث وفقه وهو أساس فقه الحجازيين ثم دون الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة عدة كتب في الفقة هي أساس فقه العراقيين ودون الإمام محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة كتب ظاهر الرواية الست التي جمعها الحاكم الشهيد في كتابه الكافي وشرحه السرخسي في كتابه المبسوط وهي مرجع فقه المذهب الحنفي وأملي الإمام محمد بن إدريس الشافعي بمصر كتابه «الأم» وهو عماد فقه المذهب الشافعي.