تتساند مختلف أنواع الفقه في منهج التفكير الإسلامي ما بين فقه النصوص وفقه الواقع، وما بين فقه الأولويات وفقه الموازنات، وما بين فقه المقاصد وفقه المآلات؛ ومكونات هذه المنظومة المنهجية كلها من أنواع الفقه تساعد في إدراك فقه السنن الشرعية والكونية وفقه الواسع والممكن؛ كما تساعد في إدراك سنن الله في الآفاق وفي الأنفس وفقه السير في الأرض؛ سعيًّا وكسبًا؛ عملاً واجتهادًا. إن اعتبار مآلات الأحكام هو أمر عظيم الشأن جليل القدر، إذ لولاه لأمكن أن تُؤدي الفتاوى والآراء الاجتهادية إلى عكس مقصود الشارع من النصوص المستخدمة في استثمار تلك الأحكام. واعتبار مآلات الأحكام أمر تضافرت عليه النصوص الشرعية وتكاتفت على بناءه وتأصيله النظرية العامة للشريعة؛ وأمر أخذ من استقراء عامة النصوص ومفهوماتها، حيث لا بد أن يتحقق قصد الشارع من شرعه ومراد الله في خلقه؛ فكما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "أن الأفعال ليست مقصودة لذاتها وإنما المقصود منها تحقيق مراداتها". تعريف فقه المآلات يشير فقه المآلات إلى ذلك النوع من الفقه الذي يؤكد على أهمية إدراك الفقيه والمجتهد لنتائج الحكم وعواقبه وثمار العمل وآثاره. فالأحكام الشرعية ليست أحكامًا مجردة منبته الصلة عن واقعها؛ بل إن الحكم الشرعي لا يكون حكمًا شرعيًّا حتى يحقق العالم المجتهد مناطه، وهو إنزال ذلك النص الشرعي على واقع معين؛ كما أن اختلاف الأحكام بحسب الزمان والمكان وحال المستفتي معروف في الشرع. كما أنه لا يكفي معرفة الحكم الشرعي واستخراجه (تنقيح المناط)، بل لا بد من استحضار مآلات هذا الحكم في الواقع وهل يحقق مقصود الشارع من تنزيله أم يترتب عليه عكس مقصوده (تحقيق المناط)" ولقد أكد على هذا النوع من العلم الأصوليون والمحققون والراسخون في العلم من أئمتنا. والمقصود باعتبار المآلات هو أن المجتهد حين يجتهد ويحكم ويفتي عليه أن يقدر مآلات الأحكام والأفعال التي هي محل حكمه وإفتائه، وأن يقدر عواقب حكمه وفتواه وألا يعتبر أن مهمته تنحصر في "إعطاء حكم شرعي" بل مهمته أن يحكم في الفعل وهو يستحضر مآله أو مآلاته؛ وأن يصدر الحكم وهو ناظر إلى أثره أو آثاره فإذا لم يفعل فهو إما قاصر عن درجة الاجتهاد أو مقصّر فيها؛ كما يقول: د. أحمد الريسوني، في كتابه "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي". أما الإمام الشاطبي فيؤصل لهذا الفقه في كتابه العظيم "الموافقات في أصول الشريعة" فيقول: "النظر في مآلات الأفعال مقصود شرعًا؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب؛ أو لمفسدة فيه تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية فربما أدى استدفاع المفسدة بمفسدة تساوي أو تزيد فلا يصلح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود العاقبة جار على مقاصد الشريعة". ولقد تضافرت آيات القرآن الكريم ونصوص السنة الشريفة على تأسيس هذا العلم "فقه المآلات" فيقول الله عز وجل:{وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: لا تسبُّوا الأصنام التي يعبدونها من دون الله فيترتب على ذلك يسبُّوا الله عز وجل، أي لا نسب الأصنام حتى لا نتسبب في سب الذات الإلهية. ويفسرها ابن العربي بقوله: "اتفق العلماء على أن معنى الآية: "لا تسبوا آلهة الكفار؛ فيسبوا الله سبحانه وتعالى، وهذا نهي عن سب آلهة المشركين ولو كان ذلك السب على سبيل الغيظ منها والإهانة لها والحميّة لله عز وجل ولأنه في نفس الوقت يؤدي إلى سب الكفار لله عز وجل ولذلك ورد النهي عنه". وكذلك آيات سورة الكهف وقصة سيدنا موسى مع العبد الصالح، حيث أن أفعال العبد الصالح كلها عللت بغايات مآلية: خرق السفينة {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إمْراً} فعلل: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وكَانَ ورَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} وكذلك المنهج في مسألة قتل الغلام وعملية بناء الجدار. وفي السنة النبوية تطبيقات هادية في هذا الباب: فقد امتنع النبي عن قتل المنافقين مع علمه بهم ومع علمه باستحقاقهم القتل وقال: "مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ الناس أني أَقْتُلُ أصحابي" كما روى أحمد في مسنده. وتخلي النبي عن إعادة بناء المسجد الحرام على قواعد إبراهيم حتى لا يثير بلبلة بين العرب، وكثير منهم حديثو عهد بالإسلام وقال مخاطبًا عائشة رضي الله عنها: " أَلَمْ تري أن قَوْمَكِ حين بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عن قَوَاعِدِ إبراهيم قالت فقلت يا رَسُولَ الله أَفَلاَ تَرُدُّهَا على قَوَاعِدِ إبراهيم فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ" كما رواه مالك في الموطأ؛ وفي رواية أخرى: " لَوْلَا حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ على أَسَاسِ إبراهيم"؛ والحديث متفق عليه. والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك ذلك الفعل مع ما فيه من المصلحة الظاهرة خشية أن يؤول الأمر إلى ما فيه مفسدة؛ ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح كما هو مقرر عند أهل العلم. أما الأسس الثلاثة لفقه المآلات فهي: 1- استقراء الجزئيّات لصياغة الكليات. 2- فقه سنن القرآن في الأنفس والمجتمعات والحضارات قياما وسقوطًا. 3- الاعتماد على آليات النظر الاستراتيجي المعتمد في الدراسات الإستراتيجية والمستقبلية المعاصرة. أما الأساس الأول: فهو يعتمد على قراءة متأنّية وعميقة للأحداث التي شكلت المواقف السياسية والأنماط الاجتماعية والثقافيّة للمجتمع الذي نعيش فيه. أما الأساس الثاني من أسس فقه المآلات فهو فقه السنن الكونية والحضارية التي تضمنها القرآن وهو يفسر لنا قيام وسقوط الأمم والحضارات. حيث زخر القرآن الكريم بجملة من سنن قيام وسقوط الحضارات كثيراً ما نغفل عنها. أما الأساس الثالث، فهي دعوة للاستفادة من آليات الدراسات الإستراتيجية والمستقبلية التي تستخدمها اليوم الدول والمراكز الخاصة بذلك. فإن معظم الدوائر السياسية والاقتصادية تعتمد على مؤشرات تبنى عليها خططها التنموية، وترسم على ضوئها سياستها المالية تساعدها على تحقيق التنمية المستدامة وضمان الاستقرار العام؛ وهذه الأسس الثلاثة أفرد لها الدكتور يونس صوالحي، بحثا قيما بعنوان: "الشباب الإسلامي المعاصر، وضرورة الاجتهاد الدعوي" فليراجَع. تطبيقات معاصرة لفقه المآلات وفي واقعنا المعاصر تتعدد تطبيقات فقه المآلات وهي كلها تصب في عافية الأمة الإسلامية وإنارة سبيل الرشد لها؛ فجوهر فقه مآلات الأفعال هو تتداخل فقه الموازنات وفقه الأولويات وفقه الحال، وبذلك تكون وظيفة فقه المآلات هي: النظر في عواقب كل فعل أو قول ليكون المباح منها مفضيا إلى يسر الناس في حياتهم، وليكون الحرام مفضيا إلى نبذ الشر والضر عن الناس؛ وليكون الواجب مفضيا إلى جلب المصلحة لهم حتى لو شاب تلك المصلحة عنت محتمل في العادة فإذا ما أدى الواجب إلى شدة عنت لا تحتمل في العادة تنزلت الضرورات ثم الحاجات لتفعل فعلها تيسيرا على الناس وإذا ما أدى الحرام إلى شيء من ذلك كان مثل ذلك. وتتعدد الأمثلة التطبيقية على ذلك سواء في تاريخنا الإسلامي أو في واقعنا المعاصر، فالإمام ابن تيمية منع تلاميذ من نهي التتار عن شرب الخمر لأن الخمر ما حرمت إلا لأنها تصد عن الصلاة وعن ذكر الله أما هؤلاء فإن الخمر تصدهم عن إيذاء المسلمين، وكان رحمه الله كثيرا ما يردد: ليس لأحد أن يزيلَ المنكر بما هو أنكر منه. وربما كانت أقل فتاوى الأمة هي التي يراعي فيها المفتون مآلات أحكامهم وذلك مثل كثير من فتاوى الأقليات الإسلامية في بلاد الغرب، فالشريعة كما يؤكد دائمًا شيخ الإسلام ابن تيمية ترمي إلى "تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما". كما أن باب فقه الدعوة إلى الله هو من أوسع الأبواب التي يتجلى فيها فقه مآلات الأحكام والأفعال، حيث يكون مراد الشارع من شرعه هو: تحقيق مصالح خلقه في المعاش والمعاد والعاجل والآجل. كما أن فقه مآلات الأحكام والأفعال يقوم على كثير من أصول علم استشراف المستقبل والقدرة على التحليل ودراسة النتائج بناء على المعطيات الميدانية ولعل ذلك ما يجنب الفتاوى الشرعية آثار الارتجالية وردات الفعل، حيث تكون الأحكام والأعمال قائمة على الدراسة والتمحيص.