نستكمل تأسيس منطق الضباب من منظور تحديث الفقه الاسلامي كمدخل لاعاده صياغة المواد الخاصة بالمسؤلية الدستورية والسياسية بقولنا ان أصول الفقه تمثل الإطار والمنهج للبحث في نصوص الدين ووقائعه، لتحصيل معلومات عملية تتعلق بالوقائع المستجدة. وهذا يعكس طبيعة الاسلام، فهو دين عالمي فيه الثابت والمتحول، ويتلاءم مع التغيرات الطبيعية التي تحدث للناس علي مر الأزمان. يحدد هذا العلم المصادر التي نستقي منها المعرفة الشرعية، والطرق والأساليب التي تمكننا من تحصيل هذه المعرفة العملية المتعلقة بواقع الناس. تعددت طرق التفكير في بداية الاجتهاد ودخل فيها القياس والاستصحاب والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها، ثم قيدها الشافعي بالقياس المعروف بقياس الفقهاء، ثم استبدله علم الكلام المنطقي بقياس أرسطو، ثم توسع علم الأصول إلي ردها الي مقاصد الشريعة. وهكذا دخل الأصول في تطورات مهمة تدل علي حيويته وفاعليته. لكن دخول المنطق الأرسطي فيه أدي إلي جموده، فقلت فاعليته، لأن هذا المنطق يدعي اليقين والقبض علي الحقيقة بالكماشة، وهذا يخالف الفقه المتطور المتجدد. الغريب ان الأصوليين المنطقيين نعتوا القياس الفقهي بأنه ظني، وكأن ذلك شيء معيب يقدح في الفقه وأصوله وفي التفكير البشري عامة، وزعموا ان منطق أرسطو هو منتهي ما تصل اليه العقول والعلوم. لكن البحوث الحديثة تؤكد ان طريقة الفقهاء هي الأقرب إلي الواقع، كما سنري مع منطق الضباب ونظرية الأثر الضبابي. ونعلم ان العلم الحديث يمكن له من إعادة تشكيل المنطق القديم وتطويره، فقد ظهرت أنواع كثيرة من المنطق في أقل من قرن من الزمان، ومنطق الضباب من أحدثها. ، وقدمت تعريفاً موجزاً بمنطق الضباب وببعض النظريات الحديثة في المعرفة. منطق الضباب هو منطق متدرج القيم، يستدل من خلال المتغيرات اللغوية والفئات الضبابية، متيحاً بذلك المجال لتمثيل الخبرة البشرية والاستفادة منها. هذا المنطق قريب من الواقع ومناسب للعمل به في الفقه المعاصر، لأن الفقه يتعامل مع وقائع الناس بشكل مباشر، ويمثل طبيعة التفكير البشري في عمله، ولا يقيدها بطريقة معينة. قد نكون أمام لحظة حاسمة من حياة الفقه المعاصر بدعوتنا للعلماء ومجامع الفقه لاعتبار الأنواع الحديثة من المنطق في الفقه. فنأخذ مثالا : عندما سئل الشيخ القرضاوي عن عن نسبة الكحول المتشكلة بالتخمر في بعض المشروبات، قال: "هذه النسبة خمسة في الألف من الكحول لا أثر لها في التحريم، لأنها نسبة ضئيلة جداً، وهي تحدث بفعل التخمر الطبيعي، وليست مصنعة، ولذلك لا أري حرجاً من تناول هذا المشروب. الشريعة الاسلامية شريعة واقعية، ومن واقعيتها هنا أنها وضعت قاعدة مهمة جاء بها الحديث الشريف، وهي: ان ما أسكر كثيره، فقليله حرام. وأعتقد ان أي إنسان شرب من هذا المشروب ما شرب فلن يسكر، ولذا لا يحرم القليل منه". هذا النص علي إيجازه كثيف، فهو يتحدث عن نسبة ضئيلة من الكحول توجد في مشروبات غير مسكرة بطبيعتها، وكثيرها لا يسكر أيضاً، كما انها تحدث بشكل طبيعي ولا تضاف من خارجه. أشارت هذه الفتوي إلي عوامل يمكن اعتبارها مؤثرة في الحكم الشرعي حول الخمر وهي: طبيعة الكحول، ونسبته، والمقدار، والإسكار. مسألة الخمر ُبحثت في الفقه بشكل مفصل، وجمهور العلماء علي تحريم الخمر بغض النظر عن مصدرها، وخالفهم الأحناف ، أتباع مذهب أبي حنيفة، في ذلك، وقالوا ان الخمر المحرمة لذاتها هي التي مصدرها العنب، وأما باقي المشروبات فيحرم المقدار المسكر منها فقط. التحليل العلمي يبين ان الكحول هي المادة الفعالة في الخمر، وهي موجودة في كل أنواع الخمور بنسب مختلفة. وللحديث بقية.