في هذا الجزء الثاني من الدراسة بشأن التحولات الثقافية لمنطق المسئولية الدستورية والسياسية وصلنا الي ضرورة اصلاح المنطق السياسي في دستور 1971 وتعديلاته بغرض تفعيل وخلق منطق المحاسبية في الدولة الحديثة المصرية. ان مصر اذا ارادت ان تمخر عباب العالم كدولة مؤسسية حديثة لابد لها ان تعيد صياغة مفاهيم المسئولية الدستورية والسياسية الحالية. ونحن هنا نطرح صياغة جديدة لهذه المفاهيم تتواءم والتطورات الحديثة ومع المنطق، وفي قول اخر، كما ذكرنا من قبل سنعتمد منطق الضباب كمرشد للصياغة الدستورية الجديدة اخذا في الاعتبار ضرورة تحديث المبادئ المنطقية للفقه الاسلامي لإغلاق الهوه المنطقية التي يعاني منها، هذا لان مبادئ الشريعة الاسلامية اساسية من اساسيات صناعة القوانين والتشريعات في مصر، وبالتالي بناء منطق المسئولية والمحاسبية. منطق الضباب بالمعني الواسع هو منظومة منطقية تقوم علي تعميم للمنطق التقليدي ثنائي القيم، وذلك للاستدلال في ظروف غير مؤكدة. وبالمعني الضيق فهو نظريات وتقنيات تستخدم المجموعات الضبابية التي هي مجموعات بلا حدود قاطعة. يمثل هذا المنطق طريقة سهلة لتوصيف وتمثيل الخبرة البشرية، كما انه يقدم الحلول العملية للمشاكل الواقعية، وهي حلول بتكلفة فعالة ومعقولة، بالمقارنة مع الحلول الأخري التي تقدم التقنيات الأخري. نظرية معرفية معاصرة تؤكد علي ان الإنسان البالغ يتذكر ويفكر بشكل ضبابي حدسي، وان هذه العمليات تحدث مستقلة عن بعضها. تبحث هذه النظرية في طرق التعلم والحكم واتخاذ القرار، وفي الذاكرة الخاطئة والنسيان والاستذكار، كما تبحث في فروق النمو المعرفي ما بين الأطفال والناضجين، وتدرس العوامل المؤثرة في ذلك، كالعمر والجنس والعصبية والعوامل الاجتماعية. يتميز التفكير بحسب هذه النظرية بأنه مائع ودينامي، ويعمل علي المجاملات دون التفصيلات، وبأنه متواز وليس بالخطي كما هو حال المنطق، وبأنه ضبابي أو كيفي وليس بالدقيق كما هو الحال في المعالجة. علما ان المنطق القديم يبحث في قوانين الفكر ومعايير الصدق والصحة، ويمثل طرق التفكير التي تهتدي بها جميع العلوم. فهو يبحث في القياس الأرسطي والاستقراء والتمثيل . وهذا ما تأثر به سواء الفكر القانوني اللاتيني بشكل كبير والكثير من مدارس الفقه الاسلامي كما هو معاش ومشاهد في مصر . المبدأ العام في هذا النمط من التفكير ان القياس الأرسطي هو الذي يوصل إلي اليقين ويقبض علي الحقيقة ، هذا يعني ان الحقيقة تقبع في مكان ما، وما علينا إلا ان نجهز لنقبض عليها بمختلف الطرق والحيل المنطقية. العملية أشبه بواقع ومرآة، فينعكس الواقع علي هذه المرآة، انه انعكاس الواقع علي مرآة العقل ليتحول إلي معقول، يمثل الحقيقة الثابتة اليقينية التي لا تتغير أبداً. وظهرت تيارات ناقدة للمنطق الأرسطي من وقت مبكر. وقد أجاد الفلاسفة وعلماء الكلام في الحضارة الاسلامية في فهم وشرح الفلسفة والمنطق الأرسطي، وألفوا في ذلك الكتب والمختصرات والمطولات، وظلوا علي هذه الحال في حركة دائرية تدور وترجع إلي نقطة البداية. لا غرابة في ذلك، فتلك عقول جبارة تشتغل علي مواضيع لا تستعصي علي الفهم، لكن الأغرب هو بقاؤهم علي هذه الحال. ولم نشهد أي تطوير لهذا المنطق باستثناء التوسع في شرح طبيعة القضايا. وهذا عكس ما حصل في المنطق الحديث، فقد تمكن علماء الغرب من تفكيك المنطق القديم وغربلته وإعادة هيكلته، فخرجوا بالمنطق الرمزي الذي أنهي منطق الأشكال، وبين ان الأسس التي قام عليها المنطق القديم هي مبرهنات في المنطق الحديث. تطور الأمر إلي ظهور المزيد من المنطقات كالحدسي والزماني والتوجيهي وغيرها، وذلك عن طريق ضرب الأسس نفسها سواء كانت بديهية او مبرهنات، وانتهي الامر إلي منطق الضباب الذي حول فكرة المنطق تماماً فصار المنطق لا يهتم باليقين، بل وضرب بالأسس القديمة عرض الحائط. حاول بعض مدارس الفكر الاسلامي في العصر الحديث الهروب من هذا المأزق العربي والاسلامي المنطقي. استعادت الحركة الإصلاحية مع محمد عبده الفكر الاعتزالي والفلسفي مع القبول بالعلوم المستجدة والاستفادة منها، وبقيت المذاهب الأخري، لا سيما الاشعرية، علي ما هي عليه، تراوح مكانها، وتجتر منطق أرسطو ولا تقبل بغيره. وظهرت محاولات لاستعادة دور المعتزلة يتمثل في حركة المعتزلة الجدد. قامت الحركة علي رفض المنطق الأرسطي واستبداله بمفهوم جديد للعقل عنده، يتمثل في تصور الفيلسوف كانط، وهو ان العقل هو ربط الاحساس بالواقع مع المعلومات السابقة. وهذا التعريف تأملي استبدل الانعكاس بالاحساس، واستبعد أي تفكير لا ينطلق من الواقع المحسوس، كالرياضيات والمنطق الذي لا ينتهي إلي الحس. المعتزلة الجدد هم تحريريون بوفق عقيدة المعتزلة. فنحن في حاجة الي فقه عملي متعلق بتفكير البشر الواقعي، وهو متغير متوسع، يتميز بالمرونة والتداخل، واعتماد الحدس والخبرة. لننظر إلي اخر ما توصل اليه العلم المعاصر متمثلاً في منطق الضباب وغيرها من نظريات للحدس. ويستمر التحليل.