بحضور 400 مشارك .. وكيل أوقاف القليوبية يطلق برنامج لقاء الجمعة للأطفال    "التعليم": مشروع رأس المال الدائم يؤهل الطلاب كرواد أعمال في المستقبل    الكنيسة الأرثوذكسية تحيي ذكرى نياحة الأنبا إيساك    توريد 24 ألف طن قمح ل 56 موقعًا تخزينيًا في الشرقية    شرب وصرف صحي الأقصر تنفى انقطاع المياه .. اليوم    وزيرة التعاون الدولي تلتقي نائبة رئيس مجموعة البنك الدولي لبحث الشراكات    بحضور وزير الاتصالات.. ختام بطولة البرمجيات الدولية في الأقصر    جامعة جنوب الوادي توفر سكن فاخر لمرافقي مصابي الأشقاء الفلسطينيين    معلومات عن نظام أذرخش للدفاع الجوي الإيراني.. تدمير الأهداف على ارتفاعات منخفضة    بايدن يدرس صفقة أسلحة جديدة لإسرائيل بأكثر من مليار دولار    ارتفاع حصيلة شهداء قطاع غزة ل34012    بدء أكبر انتخابات في العالم بالهند.. 10% من سكان الأرض يشاركون    مباشر الدوري المصري - بلدية المحلة (0)-(0) المقاولون.. بداية المباراة    موعد مباراة الزمالك ودريمز في الكونفدرالية وتردد القناة الناقلة    «سلة الأهلي» يواجه أويلرز الأوغندي في بطولة ال«bal».. اليوم    تقارير: ليفربول يرفض رحيل محمد صلاح في الميركاتو الصيفي    العمدة أهلاوي قديم.. الخطيب يحضر جنازة الفنان صلاح السعدني (صورة)    وكيل رياضة القليوبية يشهد احتفالات وزارة الشباب ب يوم اليتيم بكفر الجزار    بعد الدفن.. مجوهرات المتوفاة تكشف جريمة قتلها بزفتى    «ابدأ» تشارك بعدد من التوصيات لتطوير التعليم الفني والتدريب المهني    إصابة 17 شخصا في حادث انقلاب سيارة بالمنيا    وصول وزيرة الثقافة ومحمد إمام وهنا الزاهد وغادة عادل إلى جنازة صلاح السعدني    ابن عم الراحل صلاح السعدنى يروى كواليس من حياة عمدة الدراما بكفر القرنين    مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط ينعي الفنان الكبير صلاح السعدني    انتهاء أعمال المرحلة الخامسة من مشروع «حكاية شارع» في مصر الجديدة    انطلاق 10 قوافل دعوية.. وعلماء الأوقاف يؤكدون: الصدق طريق الفائزين    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    النشرة الدينية.. أفضل الصيغ ل الصلاة على النبي يوم الجمعة.. هذا العمل يجعلك جسرًا لجهنم    محافظ قنا يوجه بتزويد مستشفى دشنا المركزي ب12 ماكينة غسيل كلوي جديدة    الصحة: المجتمع المصري أصبح يعاني أمراضا نفسية بسبب الظروف التي مرت بالبلاد    لمحبي الشاي بالحليب.. 4 أخطاء يجب تجنبها عند تحضيره    بحضور 400 طفل.. «أوقاف القليوبية» تدشن لقاء الجمعة بمسجد في بنها    إقبال جماهيري على جناح مصر في بينالي فينيسيا للفنون 2024    كل ما تريد معرفته عن قانون رعاية حقوق المسنين| إنفوجراف    ضبط مسئول محل لبيع المأكولات لحيازته كمية كبيرة من المواد الغذائية مجهولة المصدر    احذر الرادار.. رصد 8500 سيارة تجاوزت السرعة خلال 24 ساعة    محافظ أسيوط يعلن ارتفاع معدلات توريد القمح المحلي ل 510 أطنان    احذر| ظهور هذه الأحرف "Lou bott" على شاشة عداد الكهرباء "أبو كارت"    الخشت: تخصص الصيدلة وعلم الأدوية بجامعة القاهرة أصبح ال 64 عالميًا    الصحة: فحص 432 ألف طفل ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض الوراثية    تجار العملة يتساقطون .. ضبط عدد من المضاربين بحوزتهم 29 مليون جنيه خلال 24 ساعة    "رصدته كاميرات المراقبة".. ضبط عاطل سرق مبلغا ماليا من صيدلية بالقليوبية    1490 طنا.. وصول القافلة السادسة من مساعدات التحالف الوطني لأهالي غزة (صور)    إسعاد يونس تنعى الفنان صلاح السعدني بصورة من كواليس «فوزية البرجوازية»    4 أبراج ما بتعرفش الفشل في الشغل.. الحمل جريء وطموح والقوس مغامر    اعتماد جداول امتحانات نهاية العام الدراسي في الوادي الجديد    طريقة تحضير بخاخ الجيوب الأنفية في المنزل    رضا عبد العال يعلق على أداء عبد الله السعيد مع الزمالك    اقتصادية قناة السويس تشارك ب "مؤتمر التعاون والتبادل بين مصر والصين (تشيجيانج)"    الشعبة الفرنسية بحقوق عين شمس تنظم يوما رياضيا لطلابها    فتح ممر إنساني نهاية إبريل.. إعلام عبري: عملية رفح محسومة والسؤال عن توقيتها    كشف لغز بلاغات سرقة بالقاهرة وضبط مرتكبيها وإعادة المسروقات.. صور    تعرف على موعد إجازة شم النسيم 2024 وعدد الإجازات المتبقية للمدارس في إبريل ومايو    موعد مباراة الترجي وصن داونز بدوري أبطال أفريقيا    الجامعة العربية توصي مجلس الأمن بالاعتراف بمجلس الأمن وضمها لعضوية المنظمة الدولية    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    وزير الخارجية الأسبق يكشف عن نقاط مهمة لحل القضية الفلسطينية    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب خطير ل د. علي الدين هلال: المعارضة لا تعرف الشعب

على المستوى النظرى وصل د.على الدين هلال للقمة علمياً عندما كان عميداً لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة ووزيراً للشباب، وفى الحياة السياسية كان وهو الآن عضو هيئة مكتب الحزب الوطنى، وصاحب الأغلبية.. ومن ثم يمثل ما يكتبه عن الواقع السياسى والنظام الحاكم لمصر أهمية علمية وصحفية وسياسية.. من كتابه النظام السياسى المصرى الذى صدر قبل أيام ننشر الخاتمة التى يقرأ فيها د.على الدين هلال الواقع وآفاق مستقبل النظام السياسى فى مصر.
فى هذه المرحلة المهمة من تاريخ مصر السياسى وسط أصوات تطالب دائما بالمزيد من الإصلاحات السياسية بزيادة سرعة الخطى على طريق الديمقراطية الشاملة اخترنا أن يساعدنا د.هلال فى فهم ما نحن مقبلون عليه عن طريق كتابه الأخير (النظام السياسى المصرى بين إرث الماضى وآفاق المستقبل) أول بحث شامل يحلل لأصول النظام السياسى المصرى.. واخترنا التركيز على الفصل التاسع المعنون (آفاق التطور السياسى والديمقراطى فى مصر) وفيه يرصد الدكتور هلال عملية انتقال أى مجتمع من سيطرة الحزب الواحد إلى التعددية المطلوبة.
البحث فى موضوع الديمقراطية هو بحث يتعلق بطبيعة الدولة، وبالعلاقة بين الدولة والمجتمع، ومن ثم فإنه يعد أحد الموضوعات الرئيسية للباحث فى الشأن السياسى، فلا دراسة للسياسة دون فهم لطبيعة الدولة وأساس الالتزام السياسى والطاعة السياسية فيها، وهكذا فإن دراسة عملية التطور الديمقراطى فى مجتمع ما، هى دراسة فى واقع الأمر لطبيعة الدولة ودورها وعلاقتها بالمجتمع.
أولا: الديمقراطية والتطور الديمقراطى - ملاحظات نظرية
لا يمكن تناول هذا الموضوع، دون أن نأخذ فى الاعتبار جانبين رئيسيين: أولهما: جانب نظرى يتعلق بمفهوم الديمقراطية ومجموعة القيم والمفاهيم السياسية التى ترتبط بها، وثانيهما جانب مجتمعى يتصل بالبيئة الاجتماعية - الاقتصادية، التى ينشأ فى سياقها النظام الديمقراطى.
وبخصوص الجانب الأول الذى يتعلق بمفهوم الديمقراطية، فقد استقر الفكر السياسى والاجتماعى على أن الديمقراطية لا تقتصر - على الأشكال الدستورية والتنظيمية المرتبطة بها تعدد الأحزاب - جماعات المصالح ومؤسسات المجتمع المدنى - الانتخابات الدورية كآلية لتغيير الحكومة - استقلال القضاء، وإنما تتجاوز ذلك لتشمل اعتبارات ثقافية وقيمية، وهى ما تسمى ثقافة الديمقراطية.
فالأشكال التنظيمية والقانونية لنظام الحكم الديمقراطى تستند فى قيامها ونشاطها إلى منظومة من المفاهيم والأفكار، فالتعددية الحزبية والسياسية - على سبيل المثال - تجد أساسها الفكرى فى قيمة التسامح والقبول بالآخر، وأنه لا توجد جماعة سياسية أو تيار سياسى يحتكر الحقيقة أو الحل الوحيد بشأن القضايا التى تواجه المجتمع، والحق فى الانتخابات يستند أيضا إلى الاعتقاد فى عقلانية الإنسان ورشده وقدرته على الاختيار بين بدائل، كما أن هذا الحق يستند إلى مبدأ المساواة بين البشر بغض النظر عن الجنس أو اللون أو العرق أو الدين.
والنظم الديمقراطية تستند إلى وجود هذه الثقافة الديمقراطية، ووجود الاتفاق العام Consensus حول قواعد العملية السياسية وشكل نظام الحكم، لأن النظام الديمقراطى لا تحميه القوة المسلحة بقدر ما يحميه التزام الفاعلين السياسيين بقواعد هذه العملية وفقا للدستور والقانون وعدم استعدادهم للخروج عنها، وهكذا.. فإن هناك مجموعة من الأفكار والمفاهيم والقيم التى تشكل الثقافة السياسية الديمقراطية، ودون توافرها فى مجتمع ما، فإن المؤسسات الديمقراطية تكون نبتا مصطنعا، لا يستند إلى جذور عميقة فى الواقع الاجتماعى تصونه وتحميه.
أما الجانب الثانى للديمقراطية، فهو يتعلق بالسياق الاجتماعى والاقتصادى، فمنذ أن ربط أرسطو بين الديمقراطية والطبقة الوسطى، عقد الباحثون الصلة بين استمرار النظام الديمقراطى وحالة الاستقرار الاقتصادى، الذى يضمنه وجود طبقة وسطى عريضة، كما ربط آخرون بين استقرار النظام الديمقراطى ووجود التجانس الاجتماعى بمعنى وجود الحد الأدنى من الروابط الوطنية بين المجموعات اللغوية والسلالية والدينية التى تشكل مجتمعا ما، خصوصا فى المجتمعات التى تشهد صنوفا متنوعة من التعددية الاجتماعية، ووجود هذا الحد الأدنى من الروابط الوطنية هو الذى يجعل من العملية الديمقراطية آلية للتعبير عن المصالح وتمثيلها، ولحل التباينات أو التناقضات بينها فى إطار الوطن الواحد، أما غيابه فإنه يجعل آليات العملية الديمقراطية، بما تتضمنه من تنافس، تكريسا لعدم التكامل الاجتماعى والانفصال بين تلك المجموعات، وتسييس التنوعات الاجتماعية والإثنية ومؤسساتها فى أشكال دستورية وقانونية تتبلور حولها مصالح وتطلعات وطموحات.
وانطلاقا من هذا المفهوم، فإن عملية التحول الديمقراطى أو التحول إلى الديمقراطية Deomcratic Transition يشهدها العالم منذ بداية تسعينيات القرن العشرين، التى أسماها بعض الباحثين بالموجة الثالثة للديمقراطية، تشير إلى تضمين - أو إعادة تضمين - ممارسات التعددية الحزبية والتنافسية المؤسسية فى الجسد السياسى، ويشمل ذلك تعديلات دستورية وتنظيمية، وكذا قيمية وفكرية، كما تتضمن إعادة توزيع السلطة والنفوذ، وتوسيع دائرة المشاركة فيهما، وبروز مراكز سياسية واجتماعية مختلفة، تتمتع بدرجة عالية من الاستقلال.
فهم عملية التحول الديمقراطى
وخلال هذه العملية، فإن الجسد السياسى والاجتماعى ينتابه قدر من التغير فقيم الطاعة والوحدة التى تسود فى نظم الحزب الواحد، يحل محلها قيم التعدد والتنوع والتنافس، وأنماط السلطة ذات الطابع الهيراركى تحل محلها أنماط أكثر تعقيدا وذات أبعاد متعددة تتضمن بناء التحالفات والشبكات والوصول إلى حلول وسط، إن عملية الديمقراطية تثير أسئلة بحثية كثيرة دار بشأنها جدل كبير.
وفهم عملية التحول الديمقراطى فى بلد ما يتطلب البحث فى السياق التاريخى لهذا التحول، فنحن لا يمكن أن نفهم أى ظاهرة اجتماعية أو سياسية بمعزل عن تطورها التاريخى، وفى كثير من الأحيان، فإنه لا يمكن فهم الخصائص التى تتسم بها ظاهرة سياسية ما دون العودة إلى تاريخها، فضعف الأحزاب السياسية، أو تدنى نسب المشاركة السياسية للمواطنين فى الانتخابات العامة لا يمكن تفسيره دون العودة إلى طريقة نشأة الأحزاب السياسية، ومدى تعبيرها عن قواعد شعبية وتمثيلها لمصالح اجتماعية، ومع الاعتراف بأن النشأة التاريخية لا يمكن اعتبارها المعيار الوحيد للحكم على مسار الماضى، فإنه من الصحيح أيضا أن معرفة النشأة التاريخية تساعد على فهم مسار الظواهر وتطورها، وهذا ما يثير قضية العلاقة بين التغير والاستمرار.
إن فحص تطور النظم السياسية والاجتماعية يكشف عن جدلية العلاقة بين التغير والاستمرار، فالتغير هو سنة الكون والحياة، وهو ضرورة لتكيف النظام - أى نظام - مع مستجدات الحياة الداخلية والإقليمية والدولية، والنظم التى استمرت كانت هى تلك التى امتلك القدرة على التجديد الذاتى، وتطوير مؤسساتها وأفكارها بما يتناسب مع الظروف المتغيرة، ومن ناحية أخرى، لا يستطيع أى نظام أن ينقطع تماما عن جذوره التاريخية والثقافية والأخلاقية، لذلك لم يكن غريبا، وبعد أكثر من نصف قرن على الثورة البلشفية، أن يحتفل الاتحاد السوفيتى السابق بالعيد الألفى لدخول المسيحية روسيا، وأن تندلع الخلاقات القومية فيه بشكل حاد وصاخب، أدى إلى سقوطه وتحلله، فالذاكرة الجمعية للشعوب هى نتاج تراكمات لعشرات ومئات السنين، وتتغير بشكل بطىء وعلى نحو تدريجى، العلاقة بين التغير والاستمرار إذن كما هى العلاقة بين التطور والثورة مثلا، لا تدخل فى باب إما.. وإما فكلاهما مرتبط بالآخر، وكل منهما يمثل أحد وجهى حقيقة الحياة الإنسانية، والذى يرجح أحدهما على الآخر هو الموقف التاريخى، أى الظروف المحددة التى يجد المجتمع أو النظام السياسى نفسه فيها.
ثلاثة أمور هامة
وتثير دراسة عملية التحول الديمقراطى أو الدمقرطة، كما أطلق عليها بعض الباحثين، ثلاثة أمور مهمة فى تحليل النظم السياسية.
الأول: أن عملية التحول الديمقراطى تتضمن إعادة بناء التحالفات بين القوى الاجتماعية، وإعادة تعريف العلاقات وتحديدها بين الدول ومؤسسات المجتمع المدنى، وبين المركز والهامش، وهكذا.. فإن عملية الديمقراطية هى بمثابة ملخص مكثف للصراعات والتحالفات الاجتماعية - السياسية فى مجتمع ما.
الثانى: أن دراسة عملية التحول الديمقراطى تفتح الباب للتحليل المقارن، فهى إحدى سمات التطور التاريخى المعاصر، ففى بلاد مختلفة، مثل البرتغال وإسبانيا والأرجنتين والبرازيل والفلبين وتونس ومصر، تم التخلى عن مفهوم الحزب الواحد وتبنى الاتجاه إلى التعددية الحزبية.. ووجدت هذه الدعوة أرضا خصبة لها فى الدول التى أخذت بالماركسية وصولا إلى ثورات دول شرق أوروبا عام ,1989 ويطرح هذا التطور إشكالية فكرية مهمة تتصل بالعلاقة بين شكل النظام السياسى وشكل النظام الاقتصادى فى مجتمع ما، فنظام تعدد الأحزاب ارتبط على المستوى النظرى بالديمقراطية الليبرالية، التى هى مزيج بين مفاهيم الحريات السياسية وتعدد الأحزاب وتقييد سلطة الحاكم فى المجال السياسى، ومفاهيم حرية السوق والعلاقات الاقتصادية الرأسمالية فى المجال الاقتصادى، ويعنى هذا من الناحية النظرية أن النظام الديمقراطى من الناحية السياسية ارتبط بالنظام الرأسمالى من الناحية الاقتصادية، بينما ارتبط الاقتصاد المخطط أو الاشتراكى بنظام الحزب الواحد.
والتحدى النظرى الذى واجه كثيرا من المفكرين هو إمكانية فك الارتباط بين الديمقراطية السياسية والرأسمالية الاقتصادية، وهل يمكن للديمقراطية أن تتبلور وتزدهر فى ظل سياسات اقتصادية تدخلية تعطى للدولة دورا فى الحياة الاقتصادية.
وجاءت مفاهيم الديمقراطية الاجتماعية، والديمقراطية الاشتراكية، والطريق الثالث بمثابة إجابات عن هذا السؤال.
الثالث: أن عملية التحول الديمقراطى تثير قضية متطلبات Requisites وشروط Conditions النظام الديمقراطى من حيث النشأة والاستمرار والاستقرار، والقارئ لتاريخ حقل النظم السياسية، لابد أن يلاحظ أن أحد مجالات البحث فى حقبة الستينيات من القرن العشرين كانت دراسة أسباب فشل النظم الديمقراطية البرلمانية فى دول منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، فقد شهدت هذه الدول سلسلة من الانقلابات العسكرية، التى أودت بحياة نظم التعددية الحزبية ودشنت نظم الحزب الواحد، الذى ساد فى هذا الجزء من العالم لحوالى ربع القرن التالى من الزمان، وبظهور قصور نظم الحزب الواحد وعجزها عن الوفاء بمتطلبات المشاركة السياسية والتنمية الاقتصادية فى الثمانينيات، تحول اهتمام الباحثين ليصبح تفسير أزمة نظم الحزب الواحد وسقوطها، وكيفية إعادة بناء الديمقراطية وتوفير البيئة المناسبة لذلك.
ويقصد ببناء الديمقراطية إدخال المفاهيم والممارسات السياسية التنافسية - على أساس مؤسسى، فى أجهزة الدولة والمجتمع، وهذا الإدخال له أكثر من جانب، فهناك جانب دستورى قانونى يرتبط بالاعتراف القانونى بتعدد الأحزاب وجماعات المصالح ومؤسسات المجتمع المدنى، وجانب قيمى ثقافى يتعلق بشيوع قيم احترام التعدد والتنوع، وأنه لا يوجد فريق أو تيار يحتكر الحقيقة السياسية، وبعد تنظيمى يتعلق بتوزيع السلطة، ووجود الرقابة المتبادلة، وبروز مراكز مختلفة للنفوذ والقوة، وتترتب على هذه العملية إعادة هيكلة السياسة والعلاقات الاجتماعية.
نماذج التحول الديمقراطى
فى هذا السياق، فإن دراسة خبرات التحول الديمقراطى فى دول العالم تشير إلى وجود منهجين أو نموذجين:
النموذج الأول، ويتسم بالانقطاع المؤسسى وتغيير شامل للنخبة السياسية الحاكمة وسياساتها، وهذا النموذج شهدته دول شرق أوروبا والاتحاد السوفيتى السابق، تضمن هذا النموذج سقوطا كاملا للنظام السياسى بنخبته الحاكمة، وحزبه الواحد، وفى كثير من الأحيان بنشيده الوطنى وعلمه، بل باسم الدولة، وارتبط بهذه العملية انقسام الاتحاد السوفيتى السابق ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا إلى عدة دول، وعلى أنقاض هذا النظام القديم، ظهرت نظم جديدة بدساتير ونخب سياسية وتوجهات فكرية جديدة، وارتبط ذلك بتحركات جماهيرية واسعة، وبسرعة عملية التغيير وتلاحق أحداثه وتداعياته.
ويدخل ضمن هذا النموذج ما شهدته بعض الدول الأفريقية، مثل: كينيا وأوغندا وزامبيا من تطورات، حيث أدى تردى الأوضاع الاقتصادية ونمو حركات شعبية تدعو إلى مزيد من الحقوق الديمقراطية إلى هزيمة الحزب المهيمن، ووصول أحزاب المعارضة إلى الحكم، وتدشين مرحلة جديدة من التطور.
النموذج الثانى، ويتسم بالتغير المؤسسى المتدرج فى إطار استمرار النخبة الحاكمة، وبحيث لا يحدث انقطاعا ولا تحولا سريعا لشكل نظام الحكم، ولا تغيرا مفاجئا لدستور الدولة ولنخبتها الحاكمة، وإنما يحدث التطور الديمقراطى من خلال سلسلة من الإجراءات والقرارات التدريجية التى تتم عبر مدى زمنى أوسع.
ومع كثرة الكتابات عن الدمقرطة والتحول الديمقراطى والتحول إلى الديمقراطية خلال حقبة التسعينيات، فقد ظهر فى العقد الأول من القرن ال 21 مدرسة فكرية تشكك فى الأسس، التى انطلقت منها كتابات التحول الديمقراطى وتثير أسئلة مهمة حول مدى حدوث هذا التطور، مركزة على عناصر الاستمرارية فى النظم التسلطية، وعلى قدرة هذه النظم على إعادة صياغة مؤسساتها وهياكلها السياسية فى إطار جديد، يعطى مظهرا مختلفا بينما يحافظ على الجوهر، ويطرح أنصار هذه المدرسة التى تسمى أحيانا بالتسلطية الجديدة أنه لا ينبغى التقليل من قدرة تلك النظم على اقتباس مظاهر النظام الديمقراطى، مثل: تعدد الأحزاب والجمعيات غير الحكومية وحرية الإعلام، دون أن يؤدى هذا إلى إعادة توزيع مصادر القوة السياسية، أو إخضاع عملية صنع القرار لمزيد من المحاسبة والمساءلة.
ثانيا: خصائص التطور الديمقراطى فى مصر
وفى هذا الإطار، فإن السمة الرئيسية لعملية التطور الديمقراطى فى مصر، هى أنها لم تأخذ شكل الانقطاع المؤسسى أو إحلال النخبة الحاكمة بنخبة أخرى بشكل مفاجئ وسريع، وإنما قامت النخبة الحاكمة ذاتها بإدخال عنصر التعددية الحزبية والمنافسة السياسية بشكل تطورى وتدريجى، بعبارة أخرى، فإن قيادة الدولة هى التى دشنت عملية التغير الديمقراطى وتبنتها فى وقت مبكر، وسمح لها ذلك بأن تكون ليس فقط شريكا فى هذه العملية، بل أن تصبح العنصر الرئيسى المؤثر عليها من حيث مداها وسرعتها.
إن تبنى منهج التدرج والتغير البطىء فى إدارة عملية التطور الديمقراطى فى مصر لابد أن يوضع فى سياقه التاريخى، ذلك أن مصر تمثل واحدة من أقدم الدول المستمرة فى العالم، التى ارتبط تطور نظامها السياسى بمفاهيم الإقطاع الشرقى، والنمط الآسيوى للإنتاج والفرعونية السياسية، وفى مثل هذا النمط من التطور، فإن على الباحث أن يطرح أسئلة مثل: ما عناصر التغير، وما عناصر الاستمرار، وكيف يتفاعل هذان النوعان من العناصر فى كل موقف تاريخى؟ فى هذا الإطار، فإن المراقب لتطور النظام السياسى المصرى، فى حقبتى الثمانينيات
والتسعينيات من القرن العشرين لابد أن يصيبه الشعور بالحيرة، فقد جمع النظام بين خصائص متباينة ومتنافرة، فعلى المستوى التنظيمى، جمع بين خصائص نظام الحزب الواحد وتلك الخاصة بتعدد الأحزاب، وعلى المستوى الدستورى، اتبعت الحكومة سياسات اقتصادية تختلف عما ورد فى الدستور من نصوص، وعلى المستوى الاقتصادى، جمع بين سمات الاقتصاد الحر والاقتصاد المخطط، وقد استخلص البعض من ذلك أن مصر تتطور بشكل دقيق وحذر، ورأى آخرون أن هذا الوضع هو مرحلة انتقالية، سوف تنتهى ببروز شكل مستقر آخر، ورأى فريق ثالث أن تلك الانتقائية فى الأمور السياسية والاقتصادية هى شكل جديد لأنظمة الحكم فى العالم الثالث.
كما ذكرنا من قبل، فإن الرئيس مبارك وصل إلى قمة السلطة دون تخطيط من جانبه، وفى لحظة لم يكن يتوقعها، وعقب حادثة ليس لها مثيل فى تاريخ مصر الحديث، وهى اغتيال الرئيس السادات يوم 6 أكتوبر ,1981 والحقيقة أن اغتيال السادات لم يخلق أزمة فى النظام السياسى، وربما كان من الأصح القول أنه أدى إلى إنهاء حالة التوتر والاحتقان، التى شهدتها الأسابيع الأخيرة من حكم السادات، وأوجدت جوا من الانفراج والتهدئة التى استفاد منها مبارك فى بناء نظامه.
ومن خلال الممارسة، وبشكل تدريجى، أعاد مبارك رسم خريطة الحياة السياسية فى مصر، ودون أن يعلن انقطاعه عن مرحلة السادات، ويمثل الرئيس مبارك نموذج السياسى - التكنوقراط Techno- Ploitician وهو نموذج لسياسى حذر، لا يرغب فى اتخاذ قرارات لها ضجيج عال، أو تخلق ثورة توقعات شعبية، وهذا النمط من القيادة يتسم عادة بالتحوط، وعدم اتخاذ قرارات مفاجئة أو درامية، والحساب الدقيق للاحتمالات والنتائج المتوقعة، وقد لا يبدو هذا النوع من القيادات مثيرا للمشاعر الجياشة أو ملهبا للعواطف والخيال، فهو حريص دائما على إقامة التوازن وعدم الإقدام على قرارات تتضمن مخاطرات كبيرة، ومن ثم، فإن إحدى القيم الأثيرة لدى الرئيس مبارك، التى يعبر عنها دوما فى خطابه السياسى هى: الاستقرار.
المظاهر الهامة فى فترة حكم مبارك
ووفقا لهذا، شهدت فترة حكم مبارك عددا من المظاهر المهمة فى دعم عملية التطور الديمقراطى، منها الدور المتزايد للقضاء كحكم Refree فى الحياة السياسية بما فى ذلك دوره فى الرقابة على دستورية القوانين، ومنها أنه فى انتخابات مجلس الشعب لعامى 1987 و,2005 زاد وجود عناصر المعارضة بشكل يعتبر أعلى تمثيلا لها من برلمان ,1923 باستثناء برلمان ,1950 ومنها توافر درجة أعلى من التسامح السياسى من جانب الحكومة إزاء نشاط الجماعات السياسية غير المعترف بها، ومنها بناء التحالفات والتفاهمات بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، ومنها وجود حالة من الاسترخاء والمرونة وعدم نمو استقطاب حاد فى الحياة السياسية.
مع ذلك، فإن عملية التطور الديمقراطى فى مصر شهدت خمس مفارقات جديرة بالتسجيل: 1- المفارقة بين السماح بحرية التعبير عن الرأى فى وسائل الإعلام والقيود التنظيمية على نشاط الأحزاب، وهكذا، فبينما تعكس صحف أحزاب المعارضة والصحف الخاصة درجة غير محدودة من الحرية فى النقد، وإثارة أدق المسائل بما فى ذلك التعذيب فى السجون، والفساد، وأسرة الرئيس.. فإن الأحزاب عاشت لفترة طويلة، تحكم حركتها قيود وضوابط عديدة فى الممارسة العملية.
2- المفارقة بين المرونة السياسية فى التعامل مع الأحزاب القائمة وتشدد لجنة الأحزاب وعدم السماح لأحزاب جديدة بالقيام، ويقصد بذلك عدم تشجيع النظام لإقامة أحزاب سياسية جديدة، وسماحه فى الوقت نفسه للأحزاب القائمة بحرية إعادة ترتيب أوراق الحياة السياسية، فعلى سبيل المثال قام حزب العمل الاشتراكى بتغيير برنامجه السياسى ليصبح فى واقع الأمر حزبا إسلاميا وشارك فى الانتخابات البرلمانية لعام 1987 تحت شعار الإسلام هو الحل، وأقام تحالفا انتخابيا مع حزب الأحرار الاشتراكيين وجماعة الإخوان المسلمين، ولم تعتبر لجنة الأحزاب فيما قام به حزب العمل خروجا عن البرنامج، الذى تأسس الحزب وحصل على الرخصة القانونية بممارسة العمل وفقا له.
لقد أفصح النظام عن حكمة ومرونة سياسية فى هذا المقام، فهو لا يعترف بجماعة الإخوان المسلمين كتنظيم سياسى، من حقه ممارسة العمل السياسى، ويطلق عليها تعبير الجماعة المحظورة وأنصارها لم يتقدموا بطلب لتأسيس حزب سياسى أو لتكوين جمعية أهلية وفضل أنصارها اتباع سياسة فرض الأمر الواقع، ومع ذلك.. فإن النظام سمح لأنصار هذه الجماعة بخوض الانتخابات البرلمانية فى عام 1984 حتى بلغ عددهم 88 نائبا فى انتخابات مجلس الشعب ,2005 وعلى الرغم من أنهم يخوضون الانتخابات بصفة مستقلين من الناحية القانونية، فإنهم فى بعض الانتخابات رفعوا لافتات تحمل شعارات الإخوان ورموزهم الدالة على هويتهم السياسية والتنظيمية، كما أنهم أسموا أنفسهم بالكتلة البرلمانية لنواب الإخوان المسلمين خلافا للائحة مجلس الشعب، وهكذا يوازن النظام بين منعه القانونى لتيار سياسى معين من إقامة حزبه، وبين سماحه الفعلى له بالعمل والترشيح للانتخابات فى إطار الأحزاب السياسية القائمة.
3- المفارقة بين دعوة أحزاب المعارضة إلى مزيد من الديمقراطية وغياب الديمقراطية الداخلية فيها، وتلك مفارقة لا تقل غرابة، فأحزاب المعارضة المصرية التى تدعو إلى تقييد سلطة الحاكم وإلى مزيد من الديمقراطية لا تشهد ديمقراطية حقيقية فى داخلها، ويمثل ذلك تقليدا تنظيميا يعود إلى حقبتى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، وباستثناء حزب التجمع، فإن رئيس كل حزب يمتلك سلطات كبيرة فى داخل حزبه. أضف إلى هذا وجود جماعات معارضة - دينية ومدنية - تؤدى منطلقاتها الفكرية الشمولية إلى رفض التعددية الحزبية، ويقود بعضها إلى تبرير تبنى العنف كأداة فى العمل السياسى.
دور الثقافة السياسية
إن هذا الوضع يثير مسألة متطلبات الديمقراطية وبيئتها المواتية، إذ كيف يمكن لحزب غير ديمقراطى أن يدافع عن الديمقراطية، وكيف يمكن لقوى لا تلتزم بالديمقراطية فى عملها الداخلى أن تمارس الديمقراطية، إذا ما وصلت إلى الحكم. ويتصل ذلك بدور الثقافة السياسية، إذ هل من المصادفة أن تغيب الديمقراطية الداخلية عن جمهرة الأحزاب والتنظيمات السياسية فى مصر، أم أن ذلك تعبير عن قيم ومعايير ثقافية، تتعلق بالسلطة والمشاركة، فالديمقراطية السياسية - كما ذكرنا من قبل - ليس مجرد أشكال قانونية وتنظيمية، وإن فعالية هذه الأشكال تتوقف على القيم السائدة وممارسات المشاركين فى هذه التنظيمات، وغياب هذه القيم يضع قيودا على آفاق التطور الديمقراطى.
4- المفارقة بين عملية التطور الديمقراطية وضعف المشاركة السياسية، فالعملية الديمقراطية تبدو أحيانا وكأنها تتم بين مجموعة من الأقليات السياسية، بسبب عدم الاكتراث السياسى، والذى يتمثل فى عدم المشاركة فى الأنشطة السياسية، فالمسجلون فى القوائم الانتخابية لا يتجاوزون حاليا 71% ممن لهم حق التصويت فى الانتخابات، والذين يشاركون فعلا فى الانتخابات لا يتجاوزون 25% من هذا العدد.. أضف إلى ذلك أن عضوية الأحزاب والجماعات التطوعية محدودة، وأن محافظات القاهرة والجيزة والإسكندرية، وهى أكثر محافظات مصر تطورا من حيث التعليم والتحضر ومستوى المعيشة، تنخفض فيها نسبة التصويت فى الانتخابات إلى 13% وأقل. ويمكن تفسير ذلك بأن عملية التحول الديمقراطى لم تنجح حتى الآن فى تغيير علاقة المواطن بالسلطة، ولم تنجح فى تغيير سلوكه تجاه الانتخابات العامة.
ولكن لماذا ؟ ربما لأن الأحزاب السياسية مازالت تتحدث بلغة عتيقة تعود إلى سنوات قديمة ولا تخاطب آمال وتطلعات مجتمع 69% منه تحت سن أقل من 35 سنة. وربما لأن هذه الأحزاب فى جوهرها هى أحزاب أشخاص، وتتسم برامجها بدرجة عالية من الغموض والعمومية والتشابه بين بعضها والبعض الآخر. وربما بسبب ظروف الأزمة الاقتصادية واشتداد وطأة الحياة على أغلبية المواطنين، مما يجعل رغيف الخبز يسبق أى اعتبار سياسى آخر.
5- المفارقة بين الثقل السياسى للتيارات الإسلامية، وخصوصا الإخوان المسلمين، وآليات التعبير السياسى عنها، فصعود الجماعات الإسلامية منذ نهاية الستينيات له أسبابه الموضوعية : النفسية والسياسية والاقتصادية. ونتيجة لممارسات الرئيس السادات التى أدت إلى اغتراب كل القوى السياسية المدنية، أصبحت الجماعات الإسلامية هى القناة الرئيسية للاحتجاج السياسى. وفى عهد الرئيس مبارك، اتبع النظام استراتيجية متعددة الأبعاد، تضمنت السماح لهذه الجماعات بقدر من النشاط، ومشاركتهم وإدخالهم فى العملية السياسية، وفتح قنوات الحوار مع جزء منهم، وتبنى بعض شعاراتهم ورموزهم، واستخدام العنف مع أولئك الذين يرفعون السلاح.
وتبقى التيارات والتنظيمات الإسلامية أحد معالم الحياة السياسية المهمة فى مصر، ولكن دون السقوط فى استنتاجات تبسيطية حول علاقة هذه الجماعات بالسلطة، أو تصور أنها جميعا تقف موقع العداء منها.
كيف نفهم هذا الوضع من زاوية تحليل النظم السياسية، وهل نحن إزاء شكل من أشكال التعددية المقيدة، الذى تؤدى تفاعلاته إلى فتح الباب أمام تحول ديمقراطى حقيقى، أم أن هذا الشكل سوف يستمر كأحد أنماط الحكم فى الدول النامية. وهل يصبح من الناحية المنهجية إبداء حكم على الحالة المصرية الآن، أم ربما ينبغى أن ننتظر بعض الوقت بالنظر إلى حالة التغير السياسى والاجتماعى السريع، التى تحدث فى السنوات الأولى من هذا القرن.
فمن ناحية، فإن أحزاب المعارضة المصرية ضعيفة، ولا تمارس تأثيرا جادا على عملية صنع القرار، واحتمال تداول السلطة أمرا غير محتمل فى السنوات القادمة، وأغلب الأحزاب هى أقرب إلى أن تكون جمعيات مصالح، تسعى للتأثير على القرارات أن تقدم بديلا سياسيا.
تطورات جديدة
ولكن من ناحية أخرى، فإن العملية التاريخية التى تحدث فى مصر تفتح الباب أمام تطورات جديدة، قد يكون من شأنها إعادة تجديد العلاقة بين الدولة والمجتمع. ولنأخذ بعض الأمثلة الدالة على ذلك، فهجرة المصريين للعمل فى الخارج تعنى أن المواطن يستطيع أن يحل مشكلته الفردية دون الاعتماد على جهاز السلطة، ودون الانتظار لحل يأتيه من الدولة. ويتضمن ذلك، معنويا ونفسيا، أن هذا المواطن لا يشعر بأن للدولة فضلا عليه فى تكوين رأسماله أو تحسين أمور حياته، والأرجح أن هذا الشعور يؤثر على علاقته بالدولة. مثال آخر: تراجع دور الدولة فى تقديم عدد من الخدمات مثل التعليم والصحة، نتيجة ازدياد الفجوة بين مواردها والتزاماتها. لقد أصبحت الدولة مرهقة وغير قادرة على الاستمرار فى أداء دورها كدولة راعية.
ففى مجال الخدمات الاجتماعية عموما، حدث تراجع فى دور الدولة الذى أخذ أحد شكلين : إما تدهور مستوى الخدمات المقدمة بالمجان، أو شكل فرض رسوم وأسعار لها. فى مقابل هذا، ازدهرت المؤسسات والهيئات الخاصة التى تقدم هذا النوع من الخدمات، فهناك مثلا ازدياد ملحوظ فى عدد المستوصفات والعيادات الملحقة بالمساجد، والتى تقدم خدمات صحية بأسعار زهيدة، وهى أحد تجليات الحركة الإسلامية فى مصر.
وتقوم المساجد أيضا بدور مهم فى جمع الزكاة، من خلال مكاتب الزكاة التى توجد فيها، والتى تقوم بتوزيعها على المحتاجين من أبناء المنطقة. ومؤدَّى ما تقدم، أن العلاقة بين جاهز الدولة وهيئات العمل الأهلى والتطوعى دخلت مرحلة جديدة، ويزداد دور الأخيرة بشكل مستمر. وطرح ذلك آثاره السياسية على سلوك الناخبين وتوجهاتهم السياسية، والتى كان من أبرزها النتائج التى أحرزها مرشحو الإخوان المسلمين فى انتخابات مجلس الشعب عام .2005 ويقوم هذا الرأى على تصور معين حول العلاقة بين شكل النظام السياسى وهيئات المجتمع المدنى، ففى النظم التسلطية، يتم دمج هذه الهيئات فى جهاز الدولة وإلغاء استقلالها المالى والتنظيمى بحيث تصبح أدوات معاونة للحكومة، وينطبق ذلك على النقابات العمالية والمهنية والنوادى الثقافية والفكرية والجمعيات الدينية. من ناحية أخرى، فإن أحد عناصر التحول إلى الديمقراطية هو إعادة بناء الدور المستقل لهذه الهيئات، واكتسابها دورا مدنيا فى إطار تعددى. وفى هذا السياق، يثور السؤال عن كيف تتم إعادة بناء التعددية، وكيف يتم إعادة الدور المدنى لهذه الجماعات ؟
هذه الإشكالية ليس لها حل سهل أو واحد، ولا يتم حلها دون صراع، ففى داخل كل مؤسسة أو هيئة توجد تيارات وآراء مختلفة، وتوجد قوى مدعمة وأخرى مناهضة للتطور الديمقراطى. ومن الناحية النظرية، فإن عملية الديمقراطية تتم على المستوى السياسى العام الانتخابات العامة - حرية الصحافة - تكوين الأحزاب السياسية، وعلى مستوى مؤسسات المجتمع المدنى من نقابات وجمعيات. والتصور النظرى هو أن ديمقراطية مؤسسات المجتمع المدنى تدعم عملية التحول الديمقراطى على المستوى السياسى العام، وربما تبدو هذه العلاقة منطقية وبديهية، ولكنها ليست كذلك فى الواقع.
ففى الخبرة المصرية، فإن عملية التطور الديمقراطى فى هيئات المجتمع المدنى تبدو أحيانا، وكأنها تتم فى جزر معزولة عن بعضها البعض، دون أن ترتبط بالديمقراطية على المستوى السياسى العام. ويمكن التعبير عن ذلك بحدوث عملية شرذمة fragmentation بحيث تختلف درجة التداول الديمقراطى من مستوى لآخر، ومن هيئة لأخرى، وبشكل لا يحدث فيه التأثير المتبادل بينهما. ويرتبط بذلك أن ازدياد حدة الصراع السياسى فى داخل كل هيئة أو جمعية يؤدى أحيانا إلى نقص الاهتمام بالمجلس السياسى العام. ولا يستطيع أحد أن يؤكد عما إذا كانت هذه الجزر المدمقرطة سوف تتصل بعضها البعض مستقبلا فى مسار رئيسى يؤثر على المجال السياسى العام أم لا. ويمكن عمل مشابهة من تجارب التنمية الاقتصادية فى البلاد النامية، ففى الخمسينيات من القرن الماضى، ساد تصور بأن استراتيجية التنمية سوف تتم من خلال إقامة جزر تنمية، وأن هذه الجزر سوف تكون بمثابة نموذج يحتذيه الآخرون، وأنه سوف يحدث تأثير وتدفق من الجزر المتقدمة تجاه المحيط المتخلف. وبالطبع.. فإن هذه الجزر ظلت جزرا محاطة ببحر واسع من التخلف، وانتهى الأمر بأن جزر التنمية تم إغراقها بفيضان البحر وأمواجه. ونحن لا نعرف على وجه اليقين عما إذا كان مستقبل جزر التنمية الديمقراطية سوف يكون أكثر حظا من جزر التنمية الاقتصادية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.