تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات الحقوق المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    بالصور.. افتتاح مقر حزب الجبهة الوطنية بالقاهرة الجديدة    رئيس جامعة المنيا يتفقد قيد الطلاب الجدد بالجامعة الأهلية    متحدث الزراعة يكشف فوائد مشروع "البتلو" لخفض أسعار اللحوم    لربط التعليم بالصناعة.. تعاون بين "فنون بنها" و"صناع الأثاث" (صور)    الدقهلية.. غلق مطعم شهير بالمنصورة بسبب مخالفة الاشتراطات الصحية    الرئيس اللبناني يجدد رفض بلاده توطين الفلسطينيين في لبنان    سوريا.. مقتل انتحاري إثر تفجير حزام ناسف في حلب    منتخب ألمانيا يتوج بلقب مونديال الشباب لكرة اليد بعد الفوز على إسبانيا في النهائي    كهربا يقترب من العودة للدوري المصري.. الغندور يكشف التفاصيل    تقارير: ليفربول يوافق على رحيل كوناتي إلى ريال مدريد    "خنقتها بحتة قماش عشان شاكك فيها".. ليلة مقتل ربة منزل على يد زوجها في عين شمس    تامر أمين: حادث سيارة الفتيات بالواحات يكشف عن أزمة أخلاقية عميقة في المجتمع    إنقاذ سيدة حاولت إلقاء نفسها أمام القطار بمحطة مترو الدقى    بحضور نجوم الفن.. 18 صورة من عزاء تيمور تيمور    طموح ونرجسي.. مميزات وعيوب برج الجدي    هل يجوز ارتداء الملابس على الموضة؟.. أمين الفتوى يوضح    أمينة الفتوى توضح علامات طهر المرأة وأحكام الإفرازات بعد الحيض    تقديم 4 ملايين خدمة صحية مجانية بالإسكندرية ضمن «100 يوم صحة» (صور)    حلوى المولد النبوي.. طريقة عمل النوجا في المنزل بسهولة    مصور واقعة "مطاردة فتيات الواحات" يكشف كواليس لم ترصدها كاميرا هاتفه    الهباش: قرار وقف الحرب بيد الإدارة الأمريكية وإسرائيل تهدد استقرار المنطقة    4 ملايين خدمة صحية مجانية لأهالى الإسكندرية ضمن حملة 100 يوم صحة    صور | «العمل» تجري اختبارات للمرشحين لوظائف بالأردن في مجالات الزراعة    الرئيس.. من «جمهورية الخوف» إلى «وطن الاستقرار»    وزيرا خارجية السعودية والإمارات يبحثان هاتفيا المستجدات الإقليمية    تحصين 41.829 من رؤوس الماشية ضد الحمى القلاعية بالإسماعيلية    بعد الانخفاض الأخير.. سعر الذهب اليوم الأحد 17-8-2025 وعيار 21 الآن في الصاغة    إغلاق 8 مراكز غير مرخصة لعلاج الإدمان والطب النفسي بالجيزة (تفاصيل)    جولات تفقدية لرئيس مياه الشرب والصرف بأسوان لمتابعة المحطات والروافع في ظل ارتفاع الحرارة    عبد اللطيف منيع يعود للقاهرة بعد معسكر مكثف بالصين استعدادًا لبطولة العالم المقبلة    «البترول» تواصل قراءة عداد الغاز للمنازل لشهر أغسطس 2025    التشكيل الرسمي لمواجهة تشيلسي وكريستال بالاس في الدوري الإنجليزي    7 أسباب تجعلك تشتهي المخللات فجأة.. خطر على صحتك    الأمن يقترب أكثر من المواطنين.. تدشين قسم شرطة زهراء أكتوبر 2| صور    المفتي السابق يحسم جدل شراء حلوى المولد النبوي والتهادي بها    قرار جديد من التموين بشأن عدادات المياه: حظر التركيب إلا بشروط    جبران يفتتح ندوة توعوية حول قانون العمل الجديد    محافظ الجيزة يطمئن على الحالة الصحية لشهاب عبد العزيز بطل واقعة فتاة المنيب    رد فعل شتوتغارت على أداء فولتماد أمام بايرن    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    فيديو.. خالد الجندي: عدم الالتزام بقواعد المرور حرام شرعا    رئيس الأركان الإسرائيلي: نُقرّ اليوم خطة المرحلة التالية من الحرب    توجيهات حاسمة من السيسي لوزيري الداخلية والاتصالات    الثقافة تعلن إطلاق المؤتمر الوطني حول الذكاء الاصطناعي والإبداع    وزير السياحة: ضوابط جديدة للمكاتب الصحية بالفنادق.. وافتتاح تاريخي للمتحف المصري الكبير نوفمبر المقبل    رجيم صحي سريع لإنقاص الوزن 10 كيلو في شهر بدون حرمان    اللواء محمد إبراهيم الدويري: أوهام «إسرائيل الكبرى» لن تتحقق وتصريحات نتنياهو تدق ناقوس الخطر عربياً    الأنبا ثيئودوسيوس يترأس القداس الإلهي بكنيسة العذراء مريم بفيصل    الخارجية الروسية تتوقع فوز خالد العناني مرشح مصر في سباق اليونيسكو    توافد الفنانين وأحباء تيمور تيمور على مسجد المشير طنطاوي لتشييع جثمانه| صور    إنفانتينو عن واقعة ليفربول وبورنموث: لا مكان للعنصرية في كرة القدم    حقيقة انتقال هاكان للدوري السعودي    مقتل 3 وإصابة 8 آخرين في إطلاق نار بحي بروكلين بولاية نيويورك الأمريكية    قبل انطلاق الدوري.. الزمالك يدعم صفوفه في الكرة النسائية بعدة صفقات جديدة    مصطفى محمد يتصدر غلاف "ليكيب" قبل مباراة نانت ضد باريس سان جيرمان    متحدث الأوقاف: 998 قافلة دعوية تستهدف الشباب فى مراكزهم لتصحيح المفاهيم    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 بحسب أجندة رئاسة الجمهورية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السلطة والإسلام.. الفقيه فى خدمة الحاكم

تظل مسألة السلطة فى الإسلام وعلاقة الدين الإسلامى بالسياسة مثيرة للجدل، سواء على مستوى النظرية بمرجعياتها التاريخية المتعددة أو على مستوى الواقع العملى بكل معطياته، هذا ما يؤكده المستشار عبدالجواد ياسين، الباحث فى التاريخ الإسلامى، فى كتابه «السلطة فى الإسلام..
نقد النظرية السياسية»، الذى صدر مؤخراً عن المركز الثقافى العربى ببيروت، وهو الجزء الثانى من كتاب صدر منذ سنوات بنفس العنوان، وإن كان فى الجزء الأول قد تناول سيطرة الواقع التاريخى وغلبته للنص الدينى المتمثل فى القرآن والروايات السنية، وفرض نفسه على معطيات الصراع السياسى فى عصور الإسلام الأولى، ما أدى إلى محاولة البعض تأويل النص كى يتلاءم مع الواقع بما يخدم أهداف كل فرقة سياسية- المذاهب الدينية لاحقاً- لإصباغ طابع الإطلاق على مقولاتها، ومن ثم ظهر الخلط فى العقل المسلم بين الدينى والسياسى.
وفى الجزء الثانى من الكتاب- الدراسة- يحاول اختبار فرضيتين أولاهما أن النظرية السياسية فى الإسلام وضعية لم يؤسسها النص «الدينى» بل أنشأها التاريخ بأحداثه التى صبغها البعض بصبغة دينية، ليستغلها فى تبرير بل رسم تلك النظرية، والفرضية الثانية تتمثل فى أن هذه النظرية لا تستجيب لمعايير الحداثة السياسية والاجتماعية التى يفرضها واقع العصر، ويقارن فى ذلك بين 3 نماذج هى السنى والشيعى والإباضى- إحدى فرق الخوارج المعتدلة- وطريقة تعامل كل منهم مع الواقع انطلاقاً من فهم وتفسير نصوص محددة يحاولون تطبيقها على الواقع بما يشكل جوهر النظرية السياسية لديهم،
وفى هذا الصدد يقول فى المقدمة «حيال الصلاحيات الأوتوقراطية المخيفة للخليفة السنى والصلاحيات الثيوقراطية المطلقة للإمام الشيعى يصعب الكلام عن الشورى ولو بمعناها القريب «أخذ الرأى» فى النظريتين «كما يؤكد المؤلف انطلاقاً من قراءة الواقع وغياب قيم الحرية الأساسية» الفردية والجماعية، وقيم المشاركة «اختيار الحكومة والرقابة وتداول السلطة» عن الواقع الإسلامى الراهن وعن النظرية الإسلامية.
يأتى الكتاب فى 4 فصول، الأول عن النظرية والسلفية، والثانى حول نظرية الخلافة، والثالث حول نظرية الإمامة الاثنا عشرية، والرابع يتحدث عن النظرية الإباضية وولاية الفقيه.
وفى البداية يستعرض الكاتب بعض أسباب ابتعاد النظرية السياسية الإسلامية عن الحداثة، ومنها اصطدامها بالنموذج الغربى الذى يأخذ الفكر الدينى الإسلامى موقفاً نفسياً معادياً له، وعدم الاعتداد بالمذاهب الفلسفية الحديثة، التى ظهرت وتطورت فى أوروبا أثناء عصر النهضة، بناء على هذا الموقف، لتأتى النتيجة فى النهاية متمثلة فى انحصار النظرية بين متون النصوص، مدعمة بوقائع تاريخية حملتها الفرق السياسية أو المذاهب الدينية طابعاً دينياً لتدعيم موقفها وترسيخ نظريتها، ما جعل النظرية تأتى فى النهاية بعيدة تماما عن الواقع وغير قابلة للتطور على اختلاف مفردات هذه النظرية وفقا لكل فرقة سياسية أو مذهب دينى على حدة.
ويستعرض الكاتب النظريات السياسية الكبرى فى التاريخ الإسلامى «السنية والشيعية والإباضية» لافتاً إلى أن الأولى والثالثة تقتربان فى اعتبار الخليفة فى الأولى والإمام فى الثالثة هو رأس السلطة الدنيوية ويستقر فيها بصفة دينية أيضاً وإن كانت هذه الصفة فرعية وغير مركزية فى الفقه المؤسس للنظريتين فإن النظرية الثانية «الشيعية» تتعامل مع مفهوم الإمامة ليس باعتباره جزءاً من الدين، وإنما كأنه الدين نفسه، فالإمام الشيعى يحكم «العالم» بتفويض إلهى، ويعتبر الباحث السلطة الدينية فى التجربة السنية متمثلة فى الدولة السلطانية «العباسية» امتداداً لتجربة الإمبراطورية الفارسية التى وظفت الدين لخدمة الدولة.
الكتاب فى مجمله يستعرض تاريخ النظرية السياسية فى الإسلام بالتوازى مع تاريخ الصراع السياسى وكيفية تكون النظرية كرد فعل لتداعيات العلاقة بين أطراف الثالوث السياسى المكون من حكومة سنية وتيارين معارضين هما الشيعة والخوارج، ويحاول الكاتب فهم وتحفيز جدل النظرية مع الواقع الذى يعكس بؤساً سياسياً واجتماعياً ويلفت النظر إلى أهمية التع امل مع الدعوات الحداثية لمحاولة الخروج من مأزق الانفصال عن الواقع بدلاً من تضخيم الإحساس بهذا المأزق.
وفى مقدمة الكتاب يوضح المؤلف أن العقل السياسى الإسلامى المعاصر، السلفى إجمالاً، لا يتكون من شريحة واحدة فكما أمكن التمييز بين عقول إسلامية ثلاثة «شيعى وسنى وإباضى» يمكن التمييز داخل كل عقل على حدة بين عدة مستويات وفقاً لمرونة التعاطى مع المؤثرات الحداثية، ومن هذه المستويات الفكر السلفى القح الذى يعى ذاته ويقدمها بهذه الصفة، وفيه تنعدم أو تكاد درجة الاستجابة للمؤثرات الحداثية، فهو يتبنى منظومة التراث بما فيها النظرية السياسية بحالتها صراحة ويدافع عنها كدين، مستخدماً الفقه وتفاصيل الروايات الأحادية التى يجب أن تحكم الواقع والسياسة والتاريخ، ويوضح المؤلف أن هذا التيار يمثله فى الدائرة السنية بشكل أساسى الفقه الحنبلى للمؤسسة الوهابية التى اكتسبت حضوراً مفاجئاً فى الساحة الأصولية بعد النفط، كما تعبر عنه أحيانا بعض صور الطرح البيروقراطى لمؤسسة الأزهر.
والمستوى الثانى هو التيار السياسى الحركى الذى أبدى مرونة تجاه المؤثرات التى فرضتها الحداثة كواقع، بحكم احتكاك هذا التيار عمليا بالأفكار والقوى السياسية الأخرى بما فيها السلطة، إلا أن هذا التيار لم يستطع حتى الآن ترجمة هذا الاحتكاك إلى مصالحة نظرية بين الحداثة وفكر الإسلام السياسى، وهذا التيار فقد ثقة الفكر السلفى القح، وفى الوقت نفسه لا يحظى بقبول التيارات الحداثية ذات التوجه العلمانى الصريح، ويعرض الكاتب نموذجاً لهذا التيار ممثلاً فى الفكر السياسى الرجراج لجماعة الإخوان المسلمين- بحسب تعبيره- التى استوعبت على المستوى النظرى معظم ألوان الطيف الإسلامية، وتقدم على صعيد الحركة أداء سياسياً ذا حس براجماتى واضح.
أما المستوى الثالث فهو «ما يمكن تسميته فكر الإسلاميين المنتسبين الذى يقدمه كتاب مسلمون ذوو خلفيات ثقافية علمانية أو أيديولوجيون سابقون يصيبهم لأسباب مختلفة هوى الإسلاميات فى نهاية المطاف ندبوا أنفسهم للدفاع فكرياً عن الإسلام فتورطوا فى الدفاع عن «تاريخه» ممثلاً فى النظرية، مستخدمين فى ذلك أدواتهم العصرية ومخزونهم الأيديولوجى وهو ما يتمثل عموماً فى إسلاميات العقاد وهيكل ورسالة السنهورى عن الخلافة، وبصفة خاصة فى كتابات بعض اليساريين المتحولين إلى الفكر الإسلامى مثل محمد عمارة، ويعتبر المؤلف هذا التحول ظاهرة لافتة يفسرها جزئيا بتحول مسار روح المعارضة أو النزوع النقدى الذى كان يعبر عن ذاته بالانتماء لليسار فى حقبة المد الاشتراكى، إلى الفكر الإسلامى الذى فرض نفسه على الساحة السياسية كممثل بارز للمعارضة بعد انحسار الاشتراكية.
وبعد ذلك يشير المؤلف إلى ما سماه الفكر السياسى العادى المتمثل فى الأيديولوجيات العلمانية السائدة بغض النظر عن نضج تمثلها أو سلامة تطبيقها فى البلاد الإسلامية منذ بداية الاحتكاك بالغرب مع الحقبة الاستعمارية، منبهاً إلى أن هذا الفكر تمكن من الحضور فعليا فى «هذه» المناخات الإسلامية واستمر فيها، باعتباره فكراً سياسياً يتبناه مسلمون «لا إسلاميون»، ومن وجهة النظر المعلنة لأصحابه فهو فكر لا يرى فى اعتماد الليبرالية أو الاشتراكية سبباً لإخراجه من الإسلام.
وفى هذا الصدد يلفت المؤلف إلى أنه «فى ستينيات القرن الماضى حين كان اليسار الاشتراكى صرعة فكرية ظهرت محاولات نظرية متعجلة وذات طابع تسويقى لأسلمة الاشتراكية، صدرت عن المؤسسات الدينية والثقافية الرسمية المؤممة حينذاك لمصلحة النظام».
توريث الحكم.. ميراث الجاهلية وأزمنة الاستبداد
يغوص الباحث فى التاريخ الإسلامى عاقداً المقارنات بين الوقائع التاريخية والنصوص الدينية، فى محاولة رصينة لتحديد أبعاد « نظرية الخلافة» وذلك من خلال عدة مباحث منها ولاية العهد- توريث السلطة، ويتناول الباحث آراء المذاهب الإسلامية على اختلافها وآراء علماء المسلمين، وفى مستهل هذا المبحث يقول: فى ترتيب النظرية يأتى الاستخلاف بالعهد فى المرتبة الثانية تالياً للاختيار من أهل الحل والعقد، ولكنه ظل يمثل فى الواقع التاريخى الوسيلة الأولى، أعنى الأكثر تكراراً بين وسائل إسناد السلطة بسبب التحول إلى النظام الملكى الوراثى، ففى حين لم يشهد تاريخ الدولة الإسلامية تطبيقاً حقيقياً كاملاً لمبدأ الاختيار من أهل الحل والعقد، كان توريث الحكم بعهد الخليفة إلى ابنه هو القاعدة المطردة التى لم يكن يقطعها إلا انتقال السلطة، عبر التغلب بالقوة، من أسرة حاكمة إلى أسرة حاكمة أخرى.
ويلفت إلى أن جمهور الفقه السنى يؤسس شرعية العهد على الإجماع ويورد فى ذلك آراء الماوردى وابن حزم منطلقين من تأصيلات يقوم معظمها على درء الفتنة، لينتهى إلى نتيجة مفادها أن جمهور الفقه السنى يسلم بمشروعية الاستخلاف، باعتباره صلاحية مطلقة للحاكم يمارسها بإرادته المنفردة . فهو فى حقيقته تعيين وإن كان مؤجلا، وليس ترشيحاً موقوفاً على قبول جمهور الناس من المحكومين- حيث الجمهور مستبعد باتفاق- أو على إجازة أهل الحل والعقد ويتأسس ذلك على فكرة الطاعة الواجبة للإمام من قبل الجمهور وأهل الحل والعقد على السواء.
ويعرض لرأى القاضى المعتزلى عبد الجبار الهمدانى فى هذا الصدد، الذى لم يتصور أن تكون جماعة الحل والعقد بحاجة إلى رضا أو موافقة أحد أو جماعة ما، ( إذ لم يكن وارداً لديه أن يصل تسلسل الحاجة للرضا إلى حد اشتراط رضا جمهور الأمة أو «الشعب» بحيث تكون جماعة الحل والعقد ناتجة عن اختيار الجمهور، فقد كانت هذه النتيجة ممتنعة على المستويين العملى والنظرى فى الفكر السياسى السلفى الذى لم يعرف- فى ظل الثقافة الأوتوقراطية ذات الحس العربى والملامح الفارسية- فكرة التمثيل الشعبى أو النيابة السياسية أو فكرة الديمقراطية المباشرة.
ويخلص الباحث إلى أن فكرة التوريث «وهى الوجه الآخر لفكرة صاحب الدولة» كانت مقبولة فى المناخ السياسى العربى قريب العهد بتراث القبيلة الجاهلية التى عرفت انتقال الرئاسة من الشيخ إلى ابنه، كما أنها كانت مقبولة فى السياق العام لمفاهيم العصر الوسيط الأوتوقراطية.
عقدة النقص.. ظهور إسرائيل وفسطاط الإيمان وفسطاط الكفر
يؤكد الباحث وجود مفارقة بين العقل الإسلامى المعاصر، ومعطيات العصر، ويعيد ذلك الأمر إلى عصور الإسلام الأولى، لافتا إلى أن العقول الإسلامية فى تلك الفترة لم تهتم كثيرا بالآخر، فقد كانت الاتجاهات السلفية بعقولها الثلاثة السنية والشيعية والإباضية مكرسة لمواجهة بعضها البعض، ولم تكن أطروحاتها النظرية مؤسسة من حيث الموضوع ولا مرتبة من حيث الأسلوب لمواجهة الأنظمة الدينية أو الأيديولوجية أو الحضارية خارج الإسلام، مشيرا إلى أن هذه العقول لم تدخل فى مواجهة جدية مع الفكر اليهودى أوالمسيحى وتجاهلت عمدا الاستفزاز الذى فرضه حضور الفلسفة اليونانية على الساحة الإسلامية،
موضحا أن المناظرات التى أجراها علماء مسلمون فى العصور الأولى حول المانوية والثنوية والفكر اليهودى والمسيحى والمنطق الأرسطى، كانت هامشية ولم تؤثر بشكل جاد فى تشكيل الذهنية الإسلامية العامية التى يفكر من خلالها العقل السنى المعاصر، ليخلص من ذلك إلى نتيجة مفادها أن الفكر الإسلامى فى عمومه، بدءا من حقب التأسيس الأولى وحتى العصور الحديثة، لم يكن يعانى من مشكلة مع الخارج غير الإسلامى، فلم يواجه أزمة قبول أو مشكلة حداثة مع العصر، ولم يعان من عقدة نقص أو تنافر حضارى أمام نموذج ثقافى بعينه، ويرجع ذلك إلى حالة المد والانتصار السياسى التى كان يحققها الإسلام آنذاك، مما جعل منه نموذجا حداثيا لا يفتقر إلى الجاذبية.
وفى الوقت الحالى يواجه الإسلام أزمة حقيقية، فهو من جهة يواجه مشكلة قبول حضارى مع عصره، كما يعانى من عقدة نقص حيال النموذج الغربى بجاذبيته الشديدة التى تستند إلى عوامل تميز حقيقية مدعمة بمد سياسى وعسكرى واضح.
ويفرق المستشار عبد الجواد ياسين بين مشكلتين أساسيتين فى تعاطى العقل الإسلامى مع الحداثة، لافتا إلى وقوع هذا العقل فى مشكلة التناقض مع العصر، أو مشكلة الحداثة، مشيرا هنا إلى أزمة العقل الإسلامى المعاصر مع ذاته بغض النظر عن وجود نموذج آخر جذاب من عدمه، فالطرف الذى يواجهه العقل الإسلامى هنا هو الزمان المتغير.
أما المشكلة الثانية فتتمثل فى مشكلة العقل الإسلامى مع النموذج الغربى بالذات، ما يرجعه الباحث لأسباب تاريخية مركبة منها عوامل نفسية أخذت فى التراكم منذ خروج المسلمين من إسبانيا، مرورا بالحروب الصليبية ثم حروب الأتراك «الإسلامية» فى أوروبا، وزاد من تفاقم هذه العوامل حالة الانكسار السياسى والحضارى العام أمام الغرب على مدى الحقبة الاستعمارية وفى أعقابها بعد إنشاء دولة إسرائيل، مشيرا إلى أن العوامل الفقهية التى صاغتها المنظومة التراثية وليس النص الإسلامى طبعت رؤية العقل المسلم للآخرين بطابع الرفض والتوجس، ومن هنا ظهرت مفاهيم مثل «دار الإسلام ودار الحرب» لتقسم العالم إلى قسمين متحاربين بسبب الدين إلى الأبد، وهو مفهوم فقهى صرف لم ينشأ عن قراءة أولية لجوهر الدين أو روح النص القرآنى.
وفى هذا الصدد يلفت الباحث إلى وقوع صمويل هنتنجتون صاحب نظرية صدام الحضارات فى خطأ عدم التفريق بين صنع النص وصنع الفقه، حين اعتبر الطابع الدينى الخشن للإسلام أحد الذكريات التى ظلت كامنة داخل العقل الغربى منذ إرهاصات الاحتكاك الأولى، إذ التقط هذا الحكم وأسنده مباشرة إلى الإسلام، مفسرا به ضمن أسباب أخرى، ما سماه الحدود الدموية للإسلام، الذى يمثل من وجهة نظره الحضارة الأكثر عنفا بين حضارات العالم المعاصر.
ويضيف الباحث عدة أسباب لتوجس العقل الإسلامى المعاصر من النموذج الغربى تتعلق بهذا النموذج نفسه، منها الأداء السياسى لمعظم الحكومات الغربية المعاصرة الذى لا يبدو وديا حيال القضايا التى يعتبرها العقل المسلم قضايا إسلامية، بالإضافة إلى الإثنية الفكرية المتعالية التى يكرسها الفكر الغربى غالبا ضد النماذج الثقافية والحضارية الأخرى.
الدين والدولة.. احتكار النص ووهم امتلاك السلطة الإلهية
يتناول الباحث العلاقة بين الدين والدولة من خلال التأصيل للفكرة منذ عصور الإسلام الأولى والأحداث الكبرى، وكذلك من خلال النظريات الاجتماعية والفلسفية التى وضعها علماء المسلمين عبر العصور، وخاصة الفارابى وابن رشد وابن خلدون.
ويناقش العلاقة بين النظرية السياسية فى الإسلام والفكر السلفى ويتعرض لنظرية الخلافة بداية من اجتماع السقيفة وحكومات الراشدين مروراً بالفتنة الكبرى التى ناقش من خلالها مفهوم ولاية التغلب أو تقنين القهر، وانتهاء بتقويض الخلافة، ثم يستعرض نظرية الإمامة الإثنى عشرية، متعرضاً لمراحل تطور الفكر الشيعى وصولاً إلى انسداد الأفق بإعلان غيبة الإمام، وشكل السلطة والدولة فى غيابه، ثم يتناول النظرية الإباضية التى وصفها بأنها ولاية فقيه سنية الإيقاع، أى أنها نجحت إلى حد ما فى الجمع بين فكرة ولاية الفقيه لدى الشيعة وفكرة الإمام لدى السنة.
ويشير إلى انحسار الفكر الإباضى وقصر حقول البحث فى الفكر الإسلامى على السنة والشيعة فقط، وجرى التعامل مع الإباضية بوصفها إحدى الفرق المنتسبة للخوارج، ولم تتمكن من إثبات حضورها فى العقل الإسلامى المعاصر إلا من خلال جهود الاستشراق، وبصرف النظر عن الربط التقليدى بين بحوث الاستشراق ودوافعه الاستعمارية، فإن هذه الجهود كشفت عن الكثير من المخطوطات والمؤلفات الإباضية القديمة. وبعد تناول مستفيض للنظرية الإباضية فى السياسة واختيار الحاكم فيها من قبل العلماء، استطاع التدين الاباضى أن يقدم نموذجاً فى الدولة يتجنب الثيوقراطية «الكهنوتية» الشيعية، والأوتوقراطية «الديكتاتورية» السنية.
ويطرح الباحث سؤالاً مفاده: هل استطاع هذا النموذج أن يقلل من مخاطر الدولة الدينية؟ وهل يكفى ذلك لتبديد المخاوف التى يثيرها هذا المصطلح فى الفكر السياسى المعاصر؟ ويجيب على ذلك بأن التجربة الإباضية رغم أنها نزعت السلطة المطلقة من الحاكم الفرد، إلا أنها وضعت هذه السلطة فى يد الجماعة، ممثلة فى هيئة العلماء، التى احتكرت على الدوام صلاحية تفسير النص، وفرضت رؤية أحادية الجانب، تحت تهديد البراءة، التى ظلت سيفاً مسلطاً على حرية التفكير.
كما تحدث المستشار ياسين فى كتابه عن المخاوف التى يثيرها مصطلح الدولة الدينية فى الفكر السياسى المعاصر، موضحاً أنها (تدور بالأساس حول احتكار التفسير فى النص الدينى، فى حكومة دينية، ستنتهى سلطة التفسير بالضرورة إلى الدولة، وهو ما يجعل منها فى الواقع مالكة السلطة الإلهية الكامنة فى النص، وهى سلطة مطلقة بطبيعتها ومحصنة بعقوبات تصل إلى حد الموت).
السلطة فى الإسلام المؤلف: عبدالجواد ياسين
عدد الصفحات:351
الناشر: المركز الثقافى العربى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.