السفير ماجد عبدالفتاح يكشف تفاصيل موافقة 143 دولة على منح فلسطين عضوية الأمم المتحدة    اتهام جديد ل عصام صاصا بعد ثبوت تعاطيه مواد مُخدرة    النائب شمس الدين: تجربة واعظات مصر تاريخية وتدرس عالميًّا وإقليميًّا    تراجع عيار 21 الآن.. سعر الذهب في مصر اليوم السبت 11 مايو 2024 (تحديث)    القانون يحمى الحجاج.. بوابة مصرية لشئون الحج تختص بتنظيم شئونه.. كود تعريفى لكل حاج لحمايته.. وبعثه رسمية لتقييم أداء الجهات المنظمة ورفع توصياتها للرئيس.. وغرفه عمليات بالداخل والخارج للأحداث الطارئة    زيادات متدرجة في الإيجار.. تحرك جديد بشأن أزمة الإيجارات القديمة    الزراعة: زيادة الطاقة الاستيعابية للصوامع لأكثر من 5 ملايين طن قمح    وزير الرى: الانتهاء من مشروع قناطر ديروط 2026    الحكومة اليابانية تقدم منح دراسية للطلاب الذين يرغبون في استكمال دراستهم    بلينكن يقدم تقريرا مثيرا للجدل.. هل ارتكبت إسرائيل جرائم حرب في غزة؟    يحيى السنوار حاضرا في جلسة تصويت الأمم المتحدة على عضوية فلسطين    الإمارات تستنكر تصريحات نتنياهو بالدعوة لإنشاء إدارة مدنية لقطاع غزة    مجلس الأمن يطالب بتحقيق فوري ومستقل في اكتشاف مقابر جماعية بمستشفيات غزة    نائب بالشيوخ: موقف مصر ثابت تجاه القضية الفلسطينية    سيف الجزيري: لاعبو الزمالك في كامل تركيزهم قبل مواجهة نهضة بركان    محمد بركات يشيد بمستوى أكرم توفيق مع الأهلي    نتائج اليوم الثاني من بطولة «CIB» العالمية للإسكواش المقامة بنادي بالم هيلز    الاتحاد يواصل السقوط بهزيمة مذلة أمام الاتفاق في الدوري السعودي    «أنصفه على حساب الأجهزة».. الأنبا بولا يكشف علاقة الرئيس الراحل مبارك ب البابا شنودة    المواطنون في مصر يبحثون عن عطلة عيد الأضحى 2024.. هي فعلًا 9 أيام؟    بيان مهم من الأرصاد الجوية بشأن حالة الطقس اليوم: «أجلوا مشاويركم الغير ضرورية»    أسماء ضحايا حادث تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    إصابة 6 أشخاص إثر تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    مصرع شاب غرقًا في بحيرة وادي الريان بالفيوم    عمرو أديب: النور هيفضل يتقطع الفترة الجاية    حظك اليوم برج العقرب السبت 11-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    رسائل تهنئة عيد الأضحى مكتوبة 2024 للحبيب والصديق والمدير    حظك اليوم برج العذراء السبت 11-5-2024: «لا تهمل شريك حياتك»    بتوقيع عزيز الشافعي.. الجمهور يشيد بأغنية هوب هوب ل ساندي    النجم شاروخان يجهز لتصوير فيلمه الجديد في مصر    رد فعل غريب من ياسمين عبدالعزيز بعد نفي العوضي حقيقة عودتهما (فيديو)    هل يجوز للمرأة وضع المكياج عند خروجها من المنزل؟ أمين الفتوى بجيب    الإفتاء تكشف فضل عظيم لقراءة سورة الملك قبل النوم: أوصى بها النبي    5 علامات تدل على إصابتك بتكيسات المبيض    لأول مرة.. المغرب يعوض سيدة ماليا بعد تضررها من لقاح فيروس كورونا    هشام إبراهيم لبرنامج الشاهد: تعداد سكان مصر زاد 8 ملايين نسمة أخر 5 سنوات فقط    الطيران المروحي الإسرائيلي يطلق النار بكثافة على المناطق الجنوبية الشرقية لغزة    الخارجية الأمريكية: إسرائيل لم تتعاون بشكل كامل مع جهود واشنطن لزيادة المساعدات في غزة    تفاصيل جلسة كولر والشناوي الساخنة ورفض حارس الأهلي طلب السويسري    مران الزمالك - تقسيمة بمشاركة جوميز ومساعده استعدادا لنهضة بركان    الجرعة الأخيرة.. دفن جثة شاب عُثر عليه داخل شقته بمنشأة القناطر    «آية» تتلقى 3 طعنات من طليقها في الشارع ب العمرانية (تفاصيل)    نيس يفوز على لوهافر في الدوري الفرنسي    انخفاض أسعار الدواجن لأقل من 75 جنيها في هذا الموعد.. الشعبة تكشف التفاصيل (فيديو)    تراجع أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 11 مايو 2024    رؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية: العدالة الكاملة القادرة على ضمان استعادة السلام الشامل    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    طولان: محمد عبدالمنعم أفضل من وائل جمعة (فيديو)    حلمي طولان: «حسام حسن لا يصلح لقيادة منتخب مصر.. في مدربين معندهمش مؤهلات» (فيديو)    وظائف جامعة أسوان 2024.. تعرف على آخر موعد للتقديم    جلطة المخ.. صعوبات النطق أهم الأعراض وهذه طرق العلاج    إدراج 4 مستشفيات بالقليوبية ضمن القائمة النموذجية على مستوى الجمهورية    زيارة ميدانية لطلبة «كلية الآداب» بجامعة القاهرة لمحطة الضبعة النووية    لماذا سمي التنمر بهذا الاسم؟.. داعية اسلامي يجيب «فيديو»    5 نصائح مهمة للمقبلين على أداء الحج.. يتحدث عنها المفتي    بالصور.. الشرقية تحتفي بذكرى الدكتور عبد الحليم محمود    نائب رئيس جامعة الزقازيق يشهد فعاليات المؤتمر الطلابي السنوي الثالثة    محافظة الأقصر يناقش مع وفد من الرعاية الصحية سير أعمال منظومة التأمين الصحي الشامل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السلطة والإسلام.. الفقيه فى خدمة الحاكم

تظل مسألة السلطة فى الإسلام وعلاقة الدين الإسلامى بالسياسة مثيرة للجدل، سواء على مستوى النظرية بمرجعياتها التاريخية المتعددة أو على مستوى الواقع العملى بكل معطياته، هذا ما يؤكده المستشار عبدالجواد ياسين، الباحث فى التاريخ الإسلامى، فى كتابه «السلطة فى الإسلام..
نقد النظرية السياسية»، الذى صدر مؤخراً عن المركز الثقافى العربى ببيروت، وهو الجزء الثانى من كتاب صدر منذ سنوات بنفس العنوان، وإن كان فى الجزء الأول قد تناول سيطرة الواقع التاريخى وغلبته للنص الدينى المتمثل فى القرآن والروايات السنية، وفرض نفسه على معطيات الصراع السياسى فى عصور الإسلام الأولى، ما أدى إلى محاولة البعض تأويل النص كى يتلاءم مع الواقع بما يخدم أهداف كل فرقة سياسية- المذاهب الدينية لاحقاً- لإصباغ طابع الإطلاق على مقولاتها، ومن ثم ظهر الخلط فى العقل المسلم بين الدينى والسياسى.
وفى الجزء الثانى من الكتاب- الدراسة- يحاول اختبار فرضيتين أولاهما أن النظرية السياسية فى الإسلام وضعية لم يؤسسها النص «الدينى» بل أنشأها التاريخ بأحداثه التى صبغها البعض بصبغة دينية، ليستغلها فى تبرير بل رسم تلك النظرية، والفرضية الثانية تتمثل فى أن هذه النظرية لا تستجيب لمعايير الحداثة السياسية والاجتماعية التى يفرضها واقع العصر، ويقارن فى ذلك بين 3 نماذج هى السنى والشيعى والإباضى- إحدى فرق الخوارج المعتدلة- وطريقة تعامل كل منهم مع الواقع انطلاقاً من فهم وتفسير نصوص محددة يحاولون تطبيقها على الواقع بما يشكل جوهر النظرية السياسية لديهم،
وفى هذا الصدد يقول فى المقدمة «حيال الصلاحيات الأوتوقراطية المخيفة للخليفة السنى والصلاحيات الثيوقراطية المطلقة للإمام الشيعى يصعب الكلام عن الشورى ولو بمعناها القريب «أخذ الرأى» فى النظريتين «كما يؤكد المؤلف انطلاقاً من قراءة الواقع وغياب قيم الحرية الأساسية» الفردية والجماعية، وقيم المشاركة «اختيار الحكومة والرقابة وتداول السلطة» عن الواقع الإسلامى الراهن وعن النظرية الإسلامية.
يأتى الكتاب فى 4 فصول، الأول عن النظرية والسلفية، والثانى حول نظرية الخلافة، والثالث حول نظرية الإمامة الاثنا عشرية، والرابع يتحدث عن النظرية الإباضية وولاية الفقيه.
وفى البداية يستعرض الكاتب بعض أسباب ابتعاد النظرية السياسية الإسلامية عن الحداثة، ومنها اصطدامها بالنموذج الغربى الذى يأخذ الفكر الدينى الإسلامى موقفاً نفسياً معادياً له، وعدم الاعتداد بالمذاهب الفلسفية الحديثة، التى ظهرت وتطورت فى أوروبا أثناء عصر النهضة، بناء على هذا الموقف، لتأتى النتيجة فى النهاية متمثلة فى انحصار النظرية بين متون النصوص، مدعمة بوقائع تاريخية حملتها الفرق السياسية أو المذاهب الدينية طابعاً دينياً لتدعيم موقفها وترسيخ نظريتها، ما جعل النظرية تأتى فى النهاية بعيدة تماما عن الواقع وغير قابلة للتطور على اختلاف مفردات هذه النظرية وفقا لكل فرقة سياسية أو مذهب دينى على حدة.
ويستعرض الكاتب النظريات السياسية الكبرى فى التاريخ الإسلامى «السنية والشيعية والإباضية» لافتاً إلى أن الأولى والثالثة تقتربان فى اعتبار الخليفة فى الأولى والإمام فى الثالثة هو رأس السلطة الدنيوية ويستقر فيها بصفة دينية أيضاً وإن كانت هذه الصفة فرعية وغير مركزية فى الفقه المؤسس للنظريتين فإن النظرية الثانية «الشيعية» تتعامل مع مفهوم الإمامة ليس باعتباره جزءاً من الدين، وإنما كأنه الدين نفسه، فالإمام الشيعى يحكم «العالم» بتفويض إلهى، ويعتبر الباحث السلطة الدينية فى التجربة السنية متمثلة فى الدولة السلطانية «العباسية» امتداداً لتجربة الإمبراطورية الفارسية التى وظفت الدين لخدمة الدولة.
الكتاب فى مجمله يستعرض تاريخ النظرية السياسية فى الإسلام بالتوازى مع تاريخ الصراع السياسى وكيفية تكون النظرية كرد فعل لتداعيات العلاقة بين أطراف الثالوث السياسى المكون من حكومة سنية وتيارين معارضين هما الشيعة والخوارج، ويحاول الكاتب فهم وتحفيز جدل النظرية مع الواقع الذى يعكس بؤساً سياسياً واجتماعياً ويلفت النظر إلى أهمية التع امل مع الدعوات الحداثية لمحاولة الخروج من مأزق الانفصال عن الواقع بدلاً من تضخيم الإحساس بهذا المأزق.
وفى مقدمة الكتاب يوضح المؤلف أن العقل السياسى الإسلامى المعاصر، السلفى إجمالاً، لا يتكون من شريحة واحدة فكما أمكن التمييز بين عقول إسلامية ثلاثة «شيعى وسنى وإباضى» يمكن التمييز داخل كل عقل على حدة بين عدة مستويات وفقاً لمرونة التعاطى مع المؤثرات الحداثية، ومن هذه المستويات الفكر السلفى القح الذى يعى ذاته ويقدمها بهذه الصفة، وفيه تنعدم أو تكاد درجة الاستجابة للمؤثرات الحداثية، فهو يتبنى منظومة التراث بما فيها النظرية السياسية بحالتها صراحة ويدافع عنها كدين، مستخدماً الفقه وتفاصيل الروايات الأحادية التى يجب أن تحكم الواقع والسياسة والتاريخ، ويوضح المؤلف أن هذا التيار يمثله فى الدائرة السنية بشكل أساسى الفقه الحنبلى للمؤسسة الوهابية التى اكتسبت حضوراً مفاجئاً فى الساحة الأصولية بعد النفط، كما تعبر عنه أحيانا بعض صور الطرح البيروقراطى لمؤسسة الأزهر.
والمستوى الثانى هو التيار السياسى الحركى الذى أبدى مرونة تجاه المؤثرات التى فرضتها الحداثة كواقع، بحكم احتكاك هذا التيار عمليا بالأفكار والقوى السياسية الأخرى بما فيها السلطة، إلا أن هذا التيار لم يستطع حتى الآن ترجمة هذا الاحتكاك إلى مصالحة نظرية بين الحداثة وفكر الإسلام السياسى، وهذا التيار فقد ثقة الفكر السلفى القح، وفى الوقت نفسه لا يحظى بقبول التيارات الحداثية ذات التوجه العلمانى الصريح، ويعرض الكاتب نموذجاً لهذا التيار ممثلاً فى الفكر السياسى الرجراج لجماعة الإخوان المسلمين- بحسب تعبيره- التى استوعبت على المستوى النظرى معظم ألوان الطيف الإسلامية، وتقدم على صعيد الحركة أداء سياسياً ذا حس براجماتى واضح.
أما المستوى الثالث فهو «ما يمكن تسميته فكر الإسلاميين المنتسبين الذى يقدمه كتاب مسلمون ذوو خلفيات ثقافية علمانية أو أيديولوجيون سابقون يصيبهم لأسباب مختلفة هوى الإسلاميات فى نهاية المطاف ندبوا أنفسهم للدفاع فكرياً عن الإسلام فتورطوا فى الدفاع عن «تاريخه» ممثلاً فى النظرية، مستخدمين فى ذلك أدواتهم العصرية ومخزونهم الأيديولوجى وهو ما يتمثل عموماً فى إسلاميات العقاد وهيكل ورسالة السنهورى عن الخلافة، وبصفة خاصة فى كتابات بعض اليساريين المتحولين إلى الفكر الإسلامى مثل محمد عمارة، ويعتبر المؤلف هذا التحول ظاهرة لافتة يفسرها جزئيا بتحول مسار روح المعارضة أو النزوع النقدى الذى كان يعبر عن ذاته بالانتماء لليسار فى حقبة المد الاشتراكى، إلى الفكر الإسلامى الذى فرض نفسه على الساحة السياسية كممثل بارز للمعارضة بعد انحسار الاشتراكية.
وبعد ذلك يشير المؤلف إلى ما سماه الفكر السياسى العادى المتمثل فى الأيديولوجيات العلمانية السائدة بغض النظر عن نضج تمثلها أو سلامة تطبيقها فى البلاد الإسلامية منذ بداية الاحتكاك بالغرب مع الحقبة الاستعمارية، منبهاً إلى أن هذا الفكر تمكن من الحضور فعليا فى «هذه» المناخات الإسلامية واستمر فيها، باعتباره فكراً سياسياً يتبناه مسلمون «لا إسلاميون»، ومن وجهة النظر المعلنة لأصحابه فهو فكر لا يرى فى اعتماد الليبرالية أو الاشتراكية سبباً لإخراجه من الإسلام.
وفى هذا الصدد يلفت المؤلف إلى أنه «فى ستينيات القرن الماضى حين كان اليسار الاشتراكى صرعة فكرية ظهرت محاولات نظرية متعجلة وذات طابع تسويقى لأسلمة الاشتراكية، صدرت عن المؤسسات الدينية والثقافية الرسمية المؤممة حينذاك لمصلحة النظام».
توريث الحكم.. ميراث الجاهلية وأزمنة الاستبداد
يغوص الباحث فى التاريخ الإسلامى عاقداً المقارنات بين الوقائع التاريخية والنصوص الدينية، فى محاولة رصينة لتحديد أبعاد « نظرية الخلافة» وذلك من خلال عدة مباحث منها ولاية العهد- توريث السلطة، ويتناول الباحث آراء المذاهب الإسلامية على اختلافها وآراء علماء المسلمين، وفى مستهل هذا المبحث يقول: فى ترتيب النظرية يأتى الاستخلاف بالعهد فى المرتبة الثانية تالياً للاختيار من أهل الحل والعقد، ولكنه ظل يمثل فى الواقع التاريخى الوسيلة الأولى، أعنى الأكثر تكراراً بين وسائل إسناد السلطة بسبب التحول إلى النظام الملكى الوراثى، ففى حين لم يشهد تاريخ الدولة الإسلامية تطبيقاً حقيقياً كاملاً لمبدأ الاختيار من أهل الحل والعقد، كان توريث الحكم بعهد الخليفة إلى ابنه هو القاعدة المطردة التى لم يكن يقطعها إلا انتقال السلطة، عبر التغلب بالقوة، من أسرة حاكمة إلى أسرة حاكمة أخرى.
ويلفت إلى أن جمهور الفقه السنى يؤسس شرعية العهد على الإجماع ويورد فى ذلك آراء الماوردى وابن حزم منطلقين من تأصيلات يقوم معظمها على درء الفتنة، لينتهى إلى نتيجة مفادها أن جمهور الفقه السنى يسلم بمشروعية الاستخلاف، باعتباره صلاحية مطلقة للحاكم يمارسها بإرادته المنفردة . فهو فى حقيقته تعيين وإن كان مؤجلا، وليس ترشيحاً موقوفاً على قبول جمهور الناس من المحكومين- حيث الجمهور مستبعد باتفاق- أو على إجازة أهل الحل والعقد ويتأسس ذلك على فكرة الطاعة الواجبة للإمام من قبل الجمهور وأهل الحل والعقد على السواء.
ويعرض لرأى القاضى المعتزلى عبد الجبار الهمدانى فى هذا الصدد، الذى لم يتصور أن تكون جماعة الحل والعقد بحاجة إلى رضا أو موافقة أحد أو جماعة ما، ( إذ لم يكن وارداً لديه أن يصل تسلسل الحاجة للرضا إلى حد اشتراط رضا جمهور الأمة أو «الشعب» بحيث تكون جماعة الحل والعقد ناتجة عن اختيار الجمهور، فقد كانت هذه النتيجة ممتنعة على المستويين العملى والنظرى فى الفكر السياسى السلفى الذى لم يعرف- فى ظل الثقافة الأوتوقراطية ذات الحس العربى والملامح الفارسية- فكرة التمثيل الشعبى أو النيابة السياسية أو فكرة الديمقراطية المباشرة.
ويخلص الباحث إلى أن فكرة التوريث «وهى الوجه الآخر لفكرة صاحب الدولة» كانت مقبولة فى المناخ السياسى العربى قريب العهد بتراث القبيلة الجاهلية التى عرفت انتقال الرئاسة من الشيخ إلى ابنه، كما أنها كانت مقبولة فى السياق العام لمفاهيم العصر الوسيط الأوتوقراطية.
عقدة النقص.. ظهور إسرائيل وفسطاط الإيمان وفسطاط الكفر
يؤكد الباحث وجود مفارقة بين العقل الإسلامى المعاصر، ومعطيات العصر، ويعيد ذلك الأمر إلى عصور الإسلام الأولى، لافتا إلى أن العقول الإسلامية فى تلك الفترة لم تهتم كثيرا بالآخر، فقد كانت الاتجاهات السلفية بعقولها الثلاثة السنية والشيعية والإباضية مكرسة لمواجهة بعضها البعض، ولم تكن أطروحاتها النظرية مؤسسة من حيث الموضوع ولا مرتبة من حيث الأسلوب لمواجهة الأنظمة الدينية أو الأيديولوجية أو الحضارية خارج الإسلام، مشيرا إلى أن هذه العقول لم تدخل فى مواجهة جدية مع الفكر اليهودى أوالمسيحى وتجاهلت عمدا الاستفزاز الذى فرضه حضور الفلسفة اليونانية على الساحة الإسلامية،
موضحا أن المناظرات التى أجراها علماء مسلمون فى العصور الأولى حول المانوية والثنوية والفكر اليهودى والمسيحى والمنطق الأرسطى، كانت هامشية ولم تؤثر بشكل جاد فى تشكيل الذهنية الإسلامية العامية التى يفكر من خلالها العقل السنى المعاصر، ليخلص من ذلك إلى نتيجة مفادها أن الفكر الإسلامى فى عمومه، بدءا من حقب التأسيس الأولى وحتى العصور الحديثة، لم يكن يعانى من مشكلة مع الخارج غير الإسلامى، فلم يواجه أزمة قبول أو مشكلة حداثة مع العصر، ولم يعان من عقدة نقص أو تنافر حضارى أمام نموذج ثقافى بعينه، ويرجع ذلك إلى حالة المد والانتصار السياسى التى كان يحققها الإسلام آنذاك، مما جعل منه نموذجا حداثيا لا يفتقر إلى الجاذبية.
وفى الوقت الحالى يواجه الإسلام أزمة حقيقية، فهو من جهة يواجه مشكلة قبول حضارى مع عصره، كما يعانى من عقدة نقص حيال النموذج الغربى بجاذبيته الشديدة التى تستند إلى عوامل تميز حقيقية مدعمة بمد سياسى وعسكرى واضح.
ويفرق المستشار عبد الجواد ياسين بين مشكلتين أساسيتين فى تعاطى العقل الإسلامى مع الحداثة، لافتا إلى وقوع هذا العقل فى مشكلة التناقض مع العصر، أو مشكلة الحداثة، مشيرا هنا إلى أزمة العقل الإسلامى المعاصر مع ذاته بغض النظر عن وجود نموذج آخر جذاب من عدمه، فالطرف الذى يواجهه العقل الإسلامى هنا هو الزمان المتغير.
أما المشكلة الثانية فتتمثل فى مشكلة العقل الإسلامى مع النموذج الغربى بالذات، ما يرجعه الباحث لأسباب تاريخية مركبة منها عوامل نفسية أخذت فى التراكم منذ خروج المسلمين من إسبانيا، مرورا بالحروب الصليبية ثم حروب الأتراك «الإسلامية» فى أوروبا، وزاد من تفاقم هذه العوامل حالة الانكسار السياسى والحضارى العام أمام الغرب على مدى الحقبة الاستعمارية وفى أعقابها بعد إنشاء دولة إسرائيل، مشيرا إلى أن العوامل الفقهية التى صاغتها المنظومة التراثية وليس النص الإسلامى طبعت رؤية العقل المسلم للآخرين بطابع الرفض والتوجس، ومن هنا ظهرت مفاهيم مثل «دار الإسلام ودار الحرب» لتقسم العالم إلى قسمين متحاربين بسبب الدين إلى الأبد، وهو مفهوم فقهى صرف لم ينشأ عن قراءة أولية لجوهر الدين أو روح النص القرآنى.
وفى هذا الصدد يلفت الباحث إلى وقوع صمويل هنتنجتون صاحب نظرية صدام الحضارات فى خطأ عدم التفريق بين صنع النص وصنع الفقه، حين اعتبر الطابع الدينى الخشن للإسلام أحد الذكريات التى ظلت كامنة داخل العقل الغربى منذ إرهاصات الاحتكاك الأولى، إذ التقط هذا الحكم وأسنده مباشرة إلى الإسلام، مفسرا به ضمن أسباب أخرى، ما سماه الحدود الدموية للإسلام، الذى يمثل من وجهة نظره الحضارة الأكثر عنفا بين حضارات العالم المعاصر.
ويضيف الباحث عدة أسباب لتوجس العقل الإسلامى المعاصر من النموذج الغربى تتعلق بهذا النموذج نفسه، منها الأداء السياسى لمعظم الحكومات الغربية المعاصرة الذى لا يبدو وديا حيال القضايا التى يعتبرها العقل المسلم قضايا إسلامية، بالإضافة إلى الإثنية الفكرية المتعالية التى يكرسها الفكر الغربى غالبا ضد النماذج الثقافية والحضارية الأخرى.
الدين والدولة.. احتكار النص ووهم امتلاك السلطة الإلهية
يتناول الباحث العلاقة بين الدين والدولة من خلال التأصيل للفكرة منذ عصور الإسلام الأولى والأحداث الكبرى، وكذلك من خلال النظريات الاجتماعية والفلسفية التى وضعها علماء المسلمين عبر العصور، وخاصة الفارابى وابن رشد وابن خلدون.
ويناقش العلاقة بين النظرية السياسية فى الإسلام والفكر السلفى ويتعرض لنظرية الخلافة بداية من اجتماع السقيفة وحكومات الراشدين مروراً بالفتنة الكبرى التى ناقش من خلالها مفهوم ولاية التغلب أو تقنين القهر، وانتهاء بتقويض الخلافة، ثم يستعرض نظرية الإمامة الإثنى عشرية، متعرضاً لمراحل تطور الفكر الشيعى وصولاً إلى انسداد الأفق بإعلان غيبة الإمام، وشكل السلطة والدولة فى غيابه، ثم يتناول النظرية الإباضية التى وصفها بأنها ولاية فقيه سنية الإيقاع، أى أنها نجحت إلى حد ما فى الجمع بين فكرة ولاية الفقيه لدى الشيعة وفكرة الإمام لدى السنة.
ويشير إلى انحسار الفكر الإباضى وقصر حقول البحث فى الفكر الإسلامى على السنة والشيعة فقط، وجرى التعامل مع الإباضية بوصفها إحدى الفرق المنتسبة للخوارج، ولم تتمكن من إثبات حضورها فى العقل الإسلامى المعاصر إلا من خلال جهود الاستشراق، وبصرف النظر عن الربط التقليدى بين بحوث الاستشراق ودوافعه الاستعمارية، فإن هذه الجهود كشفت عن الكثير من المخطوطات والمؤلفات الإباضية القديمة. وبعد تناول مستفيض للنظرية الإباضية فى السياسة واختيار الحاكم فيها من قبل العلماء، استطاع التدين الاباضى أن يقدم نموذجاً فى الدولة يتجنب الثيوقراطية «الكهنوتية» الشيعية، والأوتوقراطية «الديكتاتورية» السنية.
ويطرح الباحث سؤالاً مفاده: هل استطاع هذا النموذج أن يقلل من مخاطر الدولة الدينية؟ وهل يكفى ذلك لتبديد المخاوف التى يثيرها هذا المصطلح فى الفكر السياسى المعاصر؟ ويجيب على ذلك بأن التجربة الإباضية رغم أنها نزعت السلطة المطلقة من الحاكم الفرد، إلا أنها وضعت هذه السلطة فى يد الجماعة، ممثلة فى هيئة العلماء، التى احتكرت على الدوام صلاحية تفسير النص، وفرضت رؤية أحادية الجانب، تحت تهديد البراءة، التى ظلت سيفاً مسلطاً على حرية التفكير.
كما تحدث المستشار ياسين فى كتابه عن المخاوف التى يثيرها مصطلح الدولة الدينية فى الفكر السياسى المعاصر، موضحاً أنها (تدور بالأساس حول احتكار التفسير فى النص الدينى، فى حكومة دينية، ستنتهى سلطة التفسير بالضرورة إلى الدولة، وهو ما يجعل منها فى الواقع مالكة السلطة الإلهية الكامنة فى النص، وهى سلطة مطلقة بطبيعتها ومحصنة بعقوبات تصل إلى حد الموت).
السلطة فى الإسلام المؤلف: عبدالجواد ياسين
عدد الصفحات:351
الناشر: المركز الثقافى العربى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.