تعمل مقاصد الشريعة علي إثراء عقلية الفقيه, وتمكنه من الوصول إلي الحكم الصحيح الذي يزاوج بين فقه النص وفقه العصر,ولذا أتفق تماما مع المدرسة العلمية التي تقول إنه لابد للفقيه من ربط النصوص الجزئية بمقاصد الشريعة الكلية. ومن ثم تبدو أهمية ربط النصوص الشرعية بالرؤية الكلية الشمولية لمقاصد الشريعة الإسلامية; إذ إن الفهم الظاهري الحرفي للنص الشرعي بعيدا عن مقاصد الشريعة وغاياتها يعد من أهم مظاهر الخلل في منهجية التعامل مع النصوص الشرعية; لأنه يوقع الناس في الخروج والضيق, ولا يخفي تعارض هذا مع ما في الدين من رفع للحرج والمشقة عن الناس, قال تعالي: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر( سورة البقرة: من الآية185) وقال سبحانه: وما جعل عليكم في الدين من حرج( سورة الحج: من الآية78). ويمكن أن يمثل لهذا الخلل: بتمسك البعض بالفهم الظاهري لقول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه فيما أخرجه مسلم في صحيحه: كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلي الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من طعام, أو صاعا من أقط, أو صاعا من شعير, أو صاعا من تمر, أو صاعا من زبيب, وعليه فلا يجوز عند هؤلاء إخراج زكاة الفطر من غير هذه الأصناف, كما لا يجوز إخراج قيمتها نقدا, دون اعتبار لمصلحة الفقير التي تتفاوت من مكان إلي مكان. وهذا القول, وإن كان يوافق ظاهر النص, إلا أنه يهمل مقصد الشريعة المتمثل في تحقيق مصلحة الفقير وسد حاجته, وتيسير أمر الصدقة علي من أراد إخراجها, والأقرب إلي تحقيق هذا المقصد ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وأصحابه وهو قول عمر بن عبدالعزيز وأصحابه من فقهاء السلف من جواز إخراج زكاة الفطر نقدا حيث لاحظوا أن المقصود هو إغناء الفقراء والمساكين عن السؤال والطواف في هذا اليوم. ومما لا شك فيه أن فقه واقع المسلمين في هذا الزمان يؤكد وجاهة هذا القول, إذ أن إغناء الفقراء والمساكين عن السؤال وإشراكهم فرحة العيد يتحقق في كثير من الأحيان بدفع القيمة أكثر مما يتحقق بدفع الأطعمة العينية. ومما لا شك فيه أيضا أن هذا يعد عملا بروح التوجيه النبوي ومقصوده, وبهذا يتم التزاوج بين فقه النص وفقه الواقع, مما يمكن أن نصطلح عليه ب( حسن تنزيل النص علي الواقع). ولابد عند ربط النصوص بالمقاصد الشرعية من التمييز بين الوسيلة المتغيرة والهدف الثابت, فإن من أسباب الخلط والزلل كما يذكر العلامة الدكتور يوسف القرضاوي أن بعض الناس خلطوا بين المقاصد والأهداف الثابتة التي تسعي النصوص الشرعية إلي تحقيقها, وبين الوسائل الآنية والبيئية التي تعينها أحيانا للوصول إلي الهدف المنشود, فنراهم يركزون كل التركيز علي هذه الوسائل, كأنها مقصودة لذاتها, مع أن الذي يتعمق في فهم النصوص وأسرارها, يتبين له أن المهم هو الهدف, وهو الثابت والدائم, والوسائل قد تتغير بتغير البيئة أو العصر أو العرف أو غير ذلك من المؤثرات. ومن ذلك أن النبي صلي الله عليه وسلم قسم خيبر بين الفاتحين, ولكن عمر لم يقسم سواد العراق, ورأي أن يبقيه في أيدي أربابه, ويفرض الخراج علي الأرض, ليكون مدادا دائما لأجيال المسلمين, وفي ذلك يقول ابن قدامة: وقسمة النبي صلي الله عليه وسلم خيبر كانت في بدء الإسلام وشدة الحاجة, فكانت المصلحة فيه وقد تعينت المصلحة فيما بعد في وقف الأرض, فكان هو الواجب. وربط النصوص الجزئية بمقاصد الشريعة الكلية يجعلنا نفهم هذه النصوص في ضوء فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد, وفي ضوء القاعدة التي تقول: الحكم يدور مع علته وجودا وعدما, وفي ضوء حسن تنزيل النصوص علي الواقع, وكل هذا يجعلنا نفهم بعض النصوص اليومية التي وردت في وقائع خاصة, ولها أسباب معينة. علي أن من المهم جدا أن نعلم أنه ليس المقصود بقولنا مراعاة الواقع أن نلوي أعناق النصوص, ونحملها ما لا تتحمل لتراعي واقعنا, وإنما المقصود إحسان فهم الواقع, وإحسان تنزيل النص عليه, بعد إحسان فهم النص أيضا في ضوء القواعد المتبعة.. وللحديث بقية..