«إكسترا نيوز»: ضخ استثمارات بجامعات شمال وجنوب سيناء بقيمة 23 مليار جنيه    يديعوت أحرنوت: خطط الحكومة لشن هجوم على رفح تهدف للضغط على حماس في ملف مفاوضات تبادل المحتجزين    عاجل| رئيس "مجلس النواب الأمريكي" يدافع عن إسرائيل بعد "مقتل أطفال غزة"    أخبار مصر: زيادة أسعار سجائر وينستون وكامل وجولدن كوست، محافظة جديدة تنظم لمقاطعة الأسماك، وقف خدمات الكاش بشركات المحمول    نمو إيرادات فورد وتراجع أرباحها خلال الربع الأول    «الجمهورية»: الرئيس السيسي عبر بسيناء عبورا جديدا    اعرف أسعار الذهب اليوم 25 أبريل وتوقعات السعر الأيام المقبلة    موعد مباراة أهلي جدة والرياض اليوم في دوري روشن السعودي والقناة الناقلة    اليوم.. طقس شديد الحرارة نهارًا ورياح مثيرة للرمال وأتربة عالقة    شكرًا على حبك وتشجيعك.. ريهام عبدالغفور ترثي والدها الفنان الراحل بكلمات مؤثرة    ضرب نار في أسعار الفراخ والبيض اليوم 25 أبريل.. شوف بكام    الشرطة الأمريكية تعتقل عددًا من الطلاب المؤيدين لفلسطين بجامعة كاليفورنيا.. فيديو    حزب الله يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية مختلفة    ارتفاع سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الخميس 25 إبريل 2024    هل ترك جنش مودرن فيوتشر غضبًا من قرار استبعاده؟.. هيثم عرابي يوضح    «عمال البناء والأخشاب» تهنئ الرئيس السيسي والقوات المسلحة بذكرى تحرير سيناء    اضبط ساعتك.. موعد بدء التوقيت الصيفي في مصر 2024| وطريقة تغيير الوقت    أحمد جمال سعيد حديث السوشيال ميديا بعد انفصاله عن سارة قمر    الأكثر مشاهدة على WATCH IT    "شياطين الغبار".. فيديو متداول يُثير الفزع في المدينة المنورة    بسبب روسيا والصين.. الأمم المتحدة تفشل في منع سباق التسلح النووي    ب86 ألف جنيه.. أرخص 3 سيارات في مصر بعد انخفاض الأسعار    محافظ المنيا: 5 سيارات إطفاء سيطرت على حريق "مخزن ملوي" ولا يوجد ضحايا (صور)    تطور مثير في جريمة الطفلة جانيت بمدينة نصر والطب الشرعي كلمة السر    ميدو يطالب بالتصدي لتزوير أعمار لاعبي قطاع الناشئين    حزب المصريين: البطولة العربية للفروسية تكشف حجم تطور المنظومة الرياضية العسكرية في عهد السيسي    «الاستثمار» تبحث مع 20 شركة صينية إنشاء «مدينة نسيجية»    عن تشابه «العتاولة» و«بدون سابق إنذار».. منة تيسير: التناول والأحداث تختلف (فيديو)    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    إصابة 9 أشخاص في حريق منزل بأسيوط    أبو رجيلة: فوجئت بتكريم الأهلي.. ومتفائل بقدرة الزمالك على تخطي عقبة دريمز    لتفانيه في العمل.. تكريم مأمور مركز سمالوط بالمنيا    أول تعليق من رئيس نادي المنصورة بعد الصعود لدوري المحترفين    الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني يعلن الترشح لفترة رئاسية ثانية    تدريب 27 ممرضة على الاحتياطات القياسية لمكافحة العدوى بصحة بني سويف    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    حصول 5 وحدات طب أسرة جديدة على اعتماد «GAHAR» (تفاصيل)    رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر: تخصصنا يحافظ على الشخص في وضعه الطبيعي    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    بعد اختناق أطفال بحمام السباحة.. التحفظ على 4 مسؤولين بنادي الترسانة    كيف أعرف من يحسدني؟.. الحاسد له 3 علامات وعليه 5 عقوبات دنيوية    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    الهلال الأحمر: تم الحفاظ على الميزانية الخاصة للطائرات التى تقل المساعدات لغزة    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    محافظ شمال سيناء: الانتهاء من صرف التعويضات لأهالي الشيخ زويد بنسبة 85%    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



آداب الفتوى وضوابطُها الشرعية
نشر في شموس يوم 19 - 08 - 2015


ومراعاة تغيرها
بتغير الجهات الأربع في النوازل
الدكتور/ نصر فريد محمد واصل
عضو هيئة كبار العلماء
والمفتي الأسبق للديار المصرية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق رحمةً للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد:
فمن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين كما أخبر بذلك الصادق الأمين -صلى الله عليه وسلم- الذي بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة على وجهها الأكمل وتركنا على المحجَّة البيضاء حتى أتاه اليقين. وذلك لأن من فقه دينه فقد فقه دنياه، ومن فقه دنياه فقد استحق خلافتها على الوجه الأكمل خلافةً شرعيةً تجمع بين الدين والدنيا معًا بما يحقق العبادة الخالصة لله والتي هي الغاية العظمى من خلق العباد المكلفين بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقۡتُ 0لۡجِنَّ وَ0لۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ} [سورة الذاريات: الآية 56].
وبذلك يجمع العبد بهذه العبادة الخالصة لله وحده بين خيري الدين والدنيا والآخرة معًا؛ وذلك لقوله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ 0لۡأَرۡضِ وَ0سۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا} [سورة هود: الآية 61]. وقوله تعالى: {فَ0مۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ 0لنُّشُورُ} [سورة الملك: الآية 15]، وقوله تعالى: {وَعَدَ 0للَّهُ 0لَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ 0لصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي 0لۡأَرۡضِ كَمَا 0سۡتَخۡلَفَ 0لَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ 0لَّذِي 0رۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡ‍ٔٗا} [سورة النور: الآية 55]، وقوله تعالى: {0لَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ 0لۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ} [سورة الأنعام: الآية 82].
فهؤلاء قد علموا أن أمن الإنسان وأمانه في دينه ودنياه وحياته ومعاده لا يكون إلا بصدقه في إيمانه مع الله بتطبيق شرع ربه وخالقه ومولاه، وتنفيذ كل أوامره ونواهيه في جميع ما يتعلق بهذا الإنسان في عباداته ومعاملاته وعاداته فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين بني جنسه في كل زمان وفي كل مكان باعتبار أن الإنسان مع أخيه الإنسان نفس واحدة وجزءٌ من كلٍّ يكمل بعضه بعضًا، ولا غنى لأحدهم عن الآخر في حياته ودوام معيشته لتحقيق مهامهم الدينية في العبادة الخالصة لله وحده والخلافة الشرعية لعمارة الأرض؛ وذلك لقوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا 0لنَّاسُ 0تَّقُواْ رَبَّكُمُ 0لَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ …} [سورة النساء: الآية رقم 1]، ولقوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا 0لنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ 0للَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ} [سورة الحجرات: الآية 13]، وقوله تعالى في شأن المكلفين من خلقه: {وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ 0للَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ 0لدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ 0لصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ 0لزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ 0لۡقَيِّمَةِ} [سورة البينة: الآية 5]، وقوله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ 0لۡأَرۡضِ وَ0سۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا} [سورة هود: الآية 61].
ولما كان شرع الله لا يتحقق في الحياة العملية بين خلقه إلا بمعرفتهم له والعلم به علمًا يقينيًّا والإيمان بكل ما جاء به من تشريعات دينية أو دنيوية، فقد جاء الإسلام عقيدة وشريعة رسالة عالمية لكل البشر في كل زمان وفي كل مكان أمنًا وأمانًا وسلمًا وسلامًا ورحمة للعالمين؛ وذلك لقوله تعالى في شأن خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم رسول الإسلام والسلام: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ} [سورة الأنبياء: الآية 107].
وقوله تعالى: {وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا} [سورة سبأ: الآية 28].
وقوله تعالى: { يَٰٓأَيُّهَا 0لنَّبِيُّ إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ شَٰهِدٗا وَمُبَشِّرٗا وَنَذِيرٗا 45 وَدَاعِيًا إِلَى 0للَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجٗا مُّنِيرٗا} [سورة الأحزاب: الآيتان 44، 45].
وقوله تعالى: {قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا 0لنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ 0للَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا} [سورة الأعراف: الآية 158].
فقد وجب على العباد معرفةُ شرعِ لله الذي يحكمهم ويحتكمون إليه في أمور دينهم ودنياهم، ونظرًا إلى أن شريعة الإسلام تحكمها وتضبطها نصوصٌ شرعيةٌ نزلت وحيًا من السماء لا تبديلَ فيها ولا تغيير قطعية الثبوت كالقرآن الكريم والسنة المتواترة، وهما دستور الإسلام وتشريعه وذلك لقوله تعالى: {وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ 0لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَ0نتَهُواْ} [سورة الحشر: الآية 7]. فقد كانت نصوص الوحي ودستور الإسلام من حيث الاستدلال بها على أحكام العباد والبلاد منها ما هو قطعي الثبوت والدلالة، ومنها ما هو قطعي الثبوت ولكنه ظني الدلالة، ولما كانت هذه النصوص الشرعية كلها محصورةً ومحدودةً، وأفعال العباد التي تحتكم إلى هذه النصوص غير محدودة وغير محصورة وهي لا تتناهى حيث يتجدَّد في الزمان والمكان من الأفعال والحوادث البشرية ما قد لا يجد نصًّا مباشرًا من نصوص الشريعة الأصلية ينطبق عليها، فشرع الاجتهاد في شريعة الإسلام لبيان أحكامها؛ لأنه لا يتصور أن تكون شريعةُ الإسلام قاصرةً عن بيان أحكام العباد في أي زمان أو في كل مكان بطريق مباشرة أو غير مباشرة، وذلك بواسطة الاجتهاد في بيان الأحكام الشرعية من القادرين على الوصول لهذه الدرجة، وهم أهل الاختصاص الشرعي القادرون على التفقُّه في الدين وإصدار الحكم الشرعي الصحيح موافقًا لدليله من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو الاجتهاد الذي يرجع إلى مصدر من هذه المصادر الأصلية المتفق عليها عند الفقهاء؛ وذلك لأن الاجتهاد في بيان الأحكام الشرعية من أهله مصدرٌ من مصادر الأحكام الشرعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن أجتهد فأخطأ فله أجر)).
ولما كانت هذه المكانة لا يقدر عليها إلا بعض المكلفين في شريعة الإسلام، فقد جاء الأمر بها بطريق الحثِّ عليها والترغيب فيها من الله تعالى في القرآن الكريم بقوله تعالى: {فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي 0لدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ} [سورة التوبة: الآية 122]، وقوله تعالى: {فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ 0لذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [سورة النحل: الآية 43].
ولذلك فقد وجب شرعًا على المسلمين القادرين على بلوغ درجة الاجتهاد والذكر والفتوى في الدين أن يحصلوا عليها في كل زمان وفي كل مكان حسب مقتضى الحال والمقام حيث يكون بلوغها فرضًا على الكفاية بينهم في الجملة، أو فرضًا على التعيين في أحدهم إن تعينت فيه دون غيره لقدرته عليها دونهم في بلد ما أو زمان ما.
وقد علمنا الله سبحانه وتعالى بنفسه طريقة الاستفتاء في الدين بقوله تعالى: {يَسۡتَفۡتُونَكَ قُلِ 0للَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِي 0لۡكَلَٰلَةِۚ إِنِ 0مۡرُؤٌاْ هَلَكَ لَيۡسَ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَهُۥٓ أُخۡتٞ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهَا وَلَدٞۚ فَإِن كَانَتَا 0ثۡنَتَيۡنِ فَلَهُمَا 0لثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ وَإِن كَانُوٓاْ إِخۡوَةٗ رِّجَالٗا وَنِسَآءٗ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ 0لۡأُنثَيَيۡنِۗ يُبَيِّنُ 0للَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْۗ وَ0للَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} [سورة النساء: الآية 176].
ولأهمية الفتوى الشرعية في الدين بين العامة والخاصة من العباد في جميع البلاد، فقد اقتضى المقام التنبيه والتذكير بالتعريف بها وبيان آدابها وقواعدها وضوابطها الشرعية ومراعاة تغير الفتوى بتغير الجهات الأربع في النوازل بين العباد حسب تغير الزمان والمكان والشخص والحال، وذلك في أربعة مطالب:
الأول: في تعريف الفتوى في اللغة والشرع.
والثاني: في حكم الاستفتاء.
والثالث: في آداب الفتوى.
والرابع: في ضوابط الفتوى لمراعاة فقه الواقع في الجهات الأربع في النوازل حسب الزمان والمكان.
المطلب الأول
تعريف الفتوى في اللغة والاصطلاح
الفتوى في اللغة: الإخبار بالشيء مطلقًا والإيضاح به، والفتوى والفتيا في اللغة بمعنى واحد، والفتوى: اسم وضع موضع المصدر، ويجمع على فتاوي بكسر الواو على القياس ويجوز فتحها للتحفيف، واستفتاه في المسألة فأفتاه، والاسم الفتيا والفتوى، وتَفَاتَوْا إليه: ارتفعوا إليه في الفتوى[[1]].
وأما الفتوى في الاصطلاح الشرعي عند فقهاء الإسلام فهي: إخبارٌ بحكم الشرع في نازلة من نوازل العباد أو في أمر مسؤول عنه شرعًا وتوضيحه للسائل.
وعرفها آخرون من الفقهاء بأنها: الإخبار بالحكم الشرعي على غير وجه الإلزام[[2]].
وهذا التعريف الأخير بهذا القيد للتفرقة بين حكم المفتي الملزم شرعًا بعمومه للمستفتي وغيره ممن يتماثلون في الواقعة المسؤول عنها وتوافر شروط التكليف والعمل بها، وبين الحكم القضائي في الواقعة الخاصة المحكوم فيها أمام القاضي بحكم شرعي؛ حيث لا يلزم هذا الحكم الخاص على غير المحكوم عليه من المكلفين إلا بحكم قضائي آخر خاص به، وإن كان الحكم بذاته منشئًا لحكم شرعي يفيد العموم في مقام الفتوى الشرعية حيث يجب في حقِّ المكلف تنفيذُه إن انطبق عليه ديانةً لا قضاءً؛ لأن الأصلَ في الأحكام الشرعية كلِّها وجوبُ تنفيذِها من المكلف بحكم الشرع بعد العلم بها ديانةً، فإن امتنع عنها وجبت عليه قضاءً، وذلك عند النزاع فيها، مما يتطلب الدعوى القضائية وبينتها للحكم فيها قضاء بالنفي أو الإثبات للمدعي أو المدعى عليه حسب ما هو مفصَّل في باب القضاء عند الفقهاء[[3]].
المطلب الثاني
حكم الاستفتاء في أمور الدين والدنيا
والاستفتاء في أمور الدين بالنسبة لجميع المكلفين من المسلمين في كل ما يجد لهم من قضايا لا يعرفون حكمها الشرعي من حيث الحل أو الحرمة والحظر أو الإباحة هو أمرٌ واجبٌ في حقهم باتفاقٍ، وعليهم المبادرة بسؤال أهل الذكر من العلماء والفقهاء المسلمين؛ وذلك لقوله تعالى: {فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ 0لذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [سورة النحل: الآية رقم 23].
وقد ورد لفظ الاستفتاء بهذا المعنى في قوله تعالى: {وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي 0لنِّسَآءِۖ قُلِ 0للَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي 0لۡكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى 0لنِّسَآءِ 0لَّٰتِي لَا تُؤۡتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرۡغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَ0لۡمُسۡتَضۡعَفِينَ مِنَ 0لۡوِلۡدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلۡيَتَٰمَىٰ بِ0لۡقِسۡطِۚ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ 0للَّهَ كَانَ بِهِۦ عَلِيمٗا} [سورة النساء: الآية 127].
وهذه الآية وما بعدها بيانٌ للحكم الشرعي والإفتاء به في قضايا الزواج والأسرة، وفيما إذا خافت المرأة نشوزًا من زوجها، وبيان معنى العدل المطلوب بين الزوجات عند التعدد وحدوثه في الحياة العملية، كما ورد الاستفتاء أيضًا في القرآن الكريم في شأن الميراث في قوله تعالى: {يَسۡتَفۡتُونَكَ قُلِ 0للَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِي 0لۡكَلَٰلَةِۚ إِنِ 0مۡرُؤٌاْ هَلَكَ لَيۡسَ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَهُۥٓ أُخۡتٞ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمۡ يَكُن لَّهَا وَلَدٞۚ فَإِن كَانَتَا 0ثۡنَتَيۡنِ فَلَهُمَا 0لثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ وَإِن كَانُوٓاْ إِخۡوَةٗ رِّجَالٗا وَنِسَآءٗ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ 0لۡأُنثَيَيۡنِۗ يُبَيِّنُ 0للَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّواْۗ وَ0للَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} [سورة النساء الآية 176].
وهذه الآيات تشير إلى أهمية الاستفتاء في الدين وضرورة العناية به بالنسبة للعامة والخاصة من المكلفين، وإلى أهمية الفرق بين الاستفتاء في الدين الذي يتطلب دقة النظر في إبداء الرأي والحكم الشرعي حسب دليله الصحيح، سواء كان ذلك بدليل قطعي الثبوت والدلالة أو كان بدليل ظني الدلالة ولا يتعارض صراحةً مع نصٍّ من كتاب أو سُنَّة قطعية الثبوت والدلالة، وهذا يتطلب من المستفتى أن يكون من أهل الاجتهاد في معرفة الأحكام الشرعية وعنده أدوات الاجتهاد وأصوله الشرعية، ومراعاة الفرق بين السؤال الذي لا يستدعي دقة النظر والبحث للوصول إلى معرفة الحكم الشرعي، وغالبًا ما يكون ذلك في الأمور والقضايا المعلومة من الدين بالضرورة بين الناس، سواء كان ذلك في العبادات أو المعاملات أو العادات، والسؤال الذي يستدعي دقة النظر في السؤال والسائل والمسؤول عنه بما يوافق الحال والزمان والمكان والدليل الشرعي الذي ينطبق عليه نصًّا أو اجتهادًا؛ لأن لكل مقام مقالًا.
وفي مجال الفتوى الشرعية، فإذا استُفتي الإنسان وكان عالِمًا بالحكم بيقين، فعليه الإخبار به أو بما يعلمه عنه من طريق صحيح إن كان مقلِّدًا وليس من أهل الاجتهاد في معرفة الأحكام الشرعية ولم يوجد المجتهد عند السؤال، وكانت ضرورة الحال والمقام تقتضي الفتوى تيسيرًا على العباد ودفع الحرج عنهم؛ وذلك عملًا بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي 0لدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ} [سورة الحج: الآية 78]، وقوله تعالى: {يُرِيدُ 0للَّهُ بِكُمُ 0لۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ 0لۡعُسۡرَ } [سورة البقرة: الآية 185].
أما إذا استُفتي الإنسان المسلم المكلف وكان جاهلًا بالحكم الشرعي ولا يقدر عليه لا عن طريق الاجتهاد ولا عن طريق التقليد، فعليه الصمت والإحالة إلى من يعلم به من أهل الاختصاص الشرعي، وإلا كان آثمًا شرعًا؛ لأن الفتوى أمانةٌ في الدين لا يجوز الإخلالُ بها أو التفريط فيها بحال، ولذلك قال محمد بن كعب رحمه الله: "لا يحل لعالم أن يسكت على علمه، ولا للجاهل أن يسكت على جهله" [[4]].
المطلب الثالث
آداب الفتوى الشرعية
لما كانت الفتوى الشرعية هي بيانَ حكم الله ورسوله في الواقعة المسؤول عنها بين العباد في الجهات الأربع من العالم في أي زمان وفي أي مكان، سواء كانت هذه الفتوى تتعلق بحقوق الله أو بحقوق العباد أو بالحقوق المشتركة بينهما، وكان المفتي المبيِّن لهذا الحكم الشرعي في نظر الشرع الإسلامي يعتبر موقِّعًا عن الله ورسوله في ثبوت هذا الحكم وصحته والالتزام به في التطبيق العملي حسب ما يدل عليه هذا الحكم في مجال الأحكام الشرعية التكليفية الخمسة التي يدور عليها جميع أحكام الشارع الإسلامي، فقد وجب أن يكون هذا المفتي أهلًا لتحمل مسؤولية هذه الفتوى الشرعية؛ بحيث يكون قد حصل على درجة الإجازة الشرعية لتولي أمر هذه الفتوى، سواء كانت عامةً أو خاصةً حسب الحال والمقام، وهذا ما أكده ابن القيم في كتابه: إعلام الموقعين، والنووي في مقدمة كتابه: المجموع شرح المهذب[[5]].
ولذلك يجب على كلِّ مَن يريد أن يتصدَّى للفتوى الشرعية أن يعلم أنه إن أفتى عن جهلٍ وعن عمدٍ أو تعمَّد الكذبَ فيها عن عِلم، فقد كذب على الله ورسوله، وخان الأمانة، وردَّ على الله حكمَه بين عباده، وهذا يُعَدُّ ردَّةً منه ويخرجُه عن حظيرة الإسلام والعياذ بالله، فليحذر المسلم أن يعرِّضَ نفسَه للإفتاء في الدين كلَّ الحذر، ولا يفتي إلا عن علم يقيني أو ما يغلب على طنه أنه اليقين بناءً على ما يصل إليه علْمُه واجتهادُه في دليل الحكم الشرعي الصحيح الذي يفتي به، وهذا يتطلَّب من حيث الأصل أن يكون المفتي في الأحكام الشرعية بين العباد قد وصل إلى درجة الاجتهاد المطلق في معرفة الأحكام الشرعية وذلك في الفتوى والقضاء، ومن لم يصل إلى هذه الدرجة فعليه الالتزام بالتقليد مع الأمانة في النقل من المجتهد الذي يقلده أو ينقل عنه ومع مراعاة ظروف الحال والمقام للمفتي والمستفتي في زمن المجتهد وزمن المقلد؛ وذلك لتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال والشخص.
فإذا استُفتي الإنسان في نازلةٍ مَا وكان عالِمًا بالحكم الشرعي فيه فعليه الإخبار بما يعلم، وإن كان جاهلًا به سواء كان مجتهدًا أو مقلدًا فعليه الصمت والإحالة إلى من يعلم من العلماء ومن أهل الذكر، وإلا كان آثمًا؛ لأن الفتوى أمانة، فلا يحل لعالم أن يسكت على علمه، ولا للجاهل أن يسكت على جهله كما قال محمد بن كعب رحمه الله[[6]].
وقد كان الصحابة الكرام -رضي الله عنهم جميعًا- يتدافعون الفتوى عندما تعرض عليهم، ويدفعها بعضهم إلى بعض، ويتخوفون منها لشدة مسؤوليتها الدينية وخطورتها في أمور الدين والدنيا عندهم، وهذا توجيه لعلماء المسلمين من بعدهم حتى لا يتسرعوا في الفتوى وهم قد التزموا بآداب الفتوى وضوابطها الشرعية وبتوجيهات الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، وقد روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: ((أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار))[[7]].
وقال سحنون -رحمه الله-: "أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علمًا" [[8]]، وقال السختياني -رحمه الله-: "أجسر الناس على الفتيا أقلُّهُم علمًا باختلاف العلماء، وأدرأ الناس من الفتيا أَعْلَمُهُم باختلاف العلماء".
ولجلال أمر الفتوى في الدين تَهَيَّبَهَا السلفُ الصالح من الصحابة والتابعين وتوقفوا عن الجواب في الفتوى، وعُدَّ هذا من دلائل فقههم وأمانتهم في الدين، وقد اشتدَّ إنكارُهم على من تعرَّضوا للفتوى من غير أهلها، بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- حذَّر من ذلك منبهًا على خطورة منصب الفتوى كما في حديث الدارمي المشار إليه من قبل، كما يروي الشاطبي في كتاب الاعتصام حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله لا ينزع العلم انتزاعًا، ولكنه ينزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يُسْتَفْتَوْنَ فيفتون برأيهم، فيَضِلون ويُضِلون))[[9]].
وربما كانت الفتوى من بعض الوجوه أخطرَ شأنًا من القضاء، وقد لا يصلح لها مَن يصلح للقضاء؛ فقد روي عن أبي حنيفة قوله: أصحابنا هؤلاء ثلاثة وثلاثون رجلًا، منهم ثمانية وعشرون يصلحون للقضاء، ومنهم ستة يصلحون للفتوى، ومنهم اثنان يصلحان يؤدبان القضاة وأصحاب الفتوى وأشار إلى أبي يوسف وزفر. وقد صرَّح السبكي في بعض فتاويه بتفضيل المفتي وتقديمه على القاضي؛ وذلك لأن ثقافةَ المفتي لا تعود إلى الكتب وحدها ولا إلى الفقه الذي تحتويه خاصة، وإنما ثقافة المفتي مع ذلك أيضًا هي المعرفة بأمور الناس وعلاقات الرجال وتنزيل قواعد الشرع على وقائع العصر بما يحقق المصلحة من ناحية ومقاصد الشرع من ناحية أخرى[[10]].
قال النووي -رحمه الله- في آداب الفتوى والمفتي والمستفتي في مقدمة المجموع شرح المذهب: اعلم أن الإفتاءَ عظيمُ الخطر، كبيرُ الموقع كثيرُ الفضل؛ لأن المفتي وارثُ الأنبياء -صلوات الله وسلامة عليهم- وقائم بغرض الكفاية، ولكنه معرض للخطأ، ولهذا قالوا: المفتي موقِّع عن الله تعالى.
وقال النووي: "وروينا عن ابن المنكدر قال: العالم بين الله تعالى وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم. وقال: روينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقُّف عن الفتيا أشياء كثيرة معروفة، وروينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائةً من الأنصار من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُسأل أحدُهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول. وعن ابن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهم-: من أفتى عن كل ما يسأل فهو مجنون. وعن الشعبي والحسن وأبي حصين من التابعين قالوا: إن أحدكم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- لجمع لها أهل بدر. وعن الشافعي -رضي الله عنه- وقد سئل عن مسألة فلم يجب، فقيل له: لماذا لم تجب؟ فقال: حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب. وعن الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: لا أدري، وذلك فيما عرف الأقاويل فيه. وعن الهيثم بن جميل: شهدت مالكًا سئل عن ثمان وأربعين مسألةً، فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري. وروي عن مالك أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألةً، فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: من أجاب في مسألة، فينبغي قبل الجواب أن يَعْرِضَ نفسَه على الجنة والنار وكيف خَلَاصُه، ثم يجيب. وسئل مالك عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف".
كما يروي الإمام النووي عن أبي حنيفة أنه قال: "لولا الخوف من الله تعالى وأن يضيع العلم ما أفتيت، يكون لهم المهنأ، وعليَّ الوزر".
وعلى ذلك وفي ضوء ما سبق بيانُه من نصوصٍ شرعيةٍ وآثارٍ في شأن الفتوى في الدين، يكون من أهم آداب المفتي هو الحصولُ على درجة العلم بالفتوى مع القدرة على الاجتهاد في الأحكام الشرعية بأدلتها الإجمالية والتفصيلية؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر)). وأصول الاجتهاد عند العلماء كما هو مبين تفصيلًا في محله في مباحث أصول الفقه الإسلامي هو العلم بالكتاب والسنة، والإجماع، والقياس، وأعراف الناس وعاداتهم، والأدلة المتفق عليها والمختلف فيها، ومعرفة الأشباه والنظائر، وقواعد الفقه العامة والخاصة، والعزائم والرخص، وكيفية إنزال حكم الشارع عليها بالنسبة لأفعال العباد، مع مراعاة أن كل نصوص الشارع الإسلامي إنما جاءت من أجل مصلحة العباد، ولهذا وجب على المفتي في الإفتاء مراعاة ذلك في كل زمان وفي كل مكان، فأينما تكون المصلحة فثمت شرع الله تعالى.
وحديث معاذ بن جبل مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما أرسله إلى اليمن واليًا، وقال له: ((بم تحكم؟ قال معاذ: أحكم بكتاب الله. قال: فإن لم تجد. قال: أحكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد. قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي الله ورسوله)).
وأساس الفتوى وروحها وما يجب أن تقوم عليه هو الدليلُ والحجةُ من الكتاب والسنة والقياس الصحيح وإجماع الأمة.
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُسأل عن المسألة، فيضرب لها الأمثلة ويشبهها بنظائرها، وقد كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سُئل أحدُهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها فيقول: قال الله كذا، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا، أو فعل كذا، وهذا كثير جدًّا في فتاويهم.
ثم جاء التابعون والأئمة بعدهم، فكان أحدُهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه، وعلمه يأبى أن يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبوله بلا دليل[[11]]. ولذلك فينبغي للمفتي المرخَّص له بالفتوى أن يذكر دليلَ الحكم ومأخذه ما أمكن ذلك، ولا يلقيه إلى المستمع مجردًا من دليله ومأخذه إلا لضرورة الحال والمقام التي تقتضي ذلك[[12]].
ومن آداب الفتوى الشرعية عند الاستدلال لها من الكتاب أن يكون المفتي عالِمًا بالكتاب الكريم عامِّه وخاصِّه، ومجمله ومفصله، ومُحْكَمِه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وآيات الأحكام فيه، وأسباب النزول، والقراءات التي نزل بها، وما استقرَّ عليه الوحي في النزول على النبي -صلى الله عليه وسلم- والقراءات المتواترة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته من بعده والمدونة في الصحف التي دونت فيها بكتاب الوحي بإذن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجمعت ورتبت في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- ثم نسخ منها مصحف عثمان الذي تم توزيعه على أقاليم الدولة الإسلامية في خلافته وتم الإجماع عليه بين المسلمين سلفًا وخلفًا حتى الآن، وهو المتداول بينهم باسم مصحف عثمان لختمه بخاتم الخلافة في عهده بعد نسخه من الأصل الذي تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوزيعه على الأقاليم الإسلامية.
وقد تولَّى الله تعالى وحدَه حفظ كتابه من التبديل والتحريف والتغيير إلى قيام الساعة، وذلك بقوله سبحانه: {إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا 0لذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ} [سورة الحجر: الآية 9].
كما يجب على المفتي في الاستدلال بالسنة أن يكون عالِمًا بها، وعارفًا بالصحيح منها وغير الصحيح، ودرجة كل منها، والمتواتر، والآحاد، والثابت، والموضوع المقطوع بكذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفريق بين سُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسُنَّة صحابته الكرام، ومعرفة رواة الحديث، ودرجاتهم، وطبقات الرواة، وغير ذلك مما يتطلبه علم الحديث روايةً ودرايةً مما يقتضيه الحال والمقام عند الاستدلال بالسنة في الأحكام الشرعية إفتاءً أو قضاءً.
وينبغي لسلامة الفتيا وصدقها وصحَّة الانتفاع بها أن يراعيَ المفتي أمورًا منها:
* تحرير ألفاظ الفتوى لئلا تفهم على وجه باطل، وإذا كان للمسألة تفصيل أن يستفهم السائل عنها ليصل إلى تحديد الواقعة تحديدًا تامًّا؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
* ألا تكون الفتوى بألفاظ مجملة؛ كمن سئل عن مسألة في الزكاة، فأجاب عنها المفتي بقوله: تصرف بنصابها على مستحقيها.
* ذكر دليل الحكم في الفتوى، سواء كان عن نص أو اجتهاد؛ لأن ذلك أَدْعَى للقبول في النفس وفهم لمبنى الحكم عند المستفتي.
* ينبغي ألا يقول المفتي في الفتيا: هذا حكم الله ورسوله إلا بنص قاطع الثبوت والدلالة، ويتجنب ذلك في الأمور الاجتهادية، ويقول: الحكم شرعًا بكذا والله أعلم، وذلك بناءً على ما يصل إليه من الدليل الذي يغلب على ظنه أنه حكم الشرع.
* أن تكون الفتيا بكلام موجز واضح تراعي حال المستفتي ودرجته العلمية والاجتماعية[[13]].
* إذا لم يتمكن المفتي من الوصول إلى حقيقة المراد من القضية المفتى فيها أو الدليل الذي ينطبق عليها، فليتوقفْ عن الحكم حتى يصلَ إلى معرفة المراد أو الدليل، أو يحيلها إلى من هو أَعْلَمُ منه، أو يجمع معه مِن أهل العلم والفتوى مَن يستشيرهم في بيانها والحكم فيها؛ لأن الفتوى بغير علمٍ ضلالةٌ في الدين وإضلالٌ قد يؤدي بصاحبه إلى النار والعياذ بالله، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: ((من تقوَّل عليَّ مالم أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مقعدَه من النار، ومن استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه، ومن أُفْتِيَ بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه))[[14]]. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزُعُه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالِمًا، اتَّخذ الناسُ رؤوسًا جهالًا، فسُئلوا فأَفْتَوْا بغير علم، فضلوا وأضلوا))[[15]]. وعن ابن عباس -رضي الله عنه-: ((أن رجلًا أصابه جرح على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أصابه احتلام، فأُمر بالاغتسال، فمات، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العِيِّ السؤال؟))[[16]].
وقال البراء -رضي الله عنه-: لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما منهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتوى[[17]].
وقال علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه ورضي الله عنه-: "خمس احفظوهن: لا يخاف عبد إلا ذنبه، ولا يرجو إلا ربه، ولا يستحي جاهل أن يسأل، ولا يستحي عالم إن لم يعلم أن يقول: الله أعلم"[[18]].
وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: إذا نَزَلَت بالحاكم أو المفتي النازلةُ، فإما أن يكون عالِمًا بالحق فيها أو غالبًا على ظنه بحيث قد استفرغ وُسْعَه في طلبه ومعرفته أو لا، فإن لم يكن عالِمًا بالحق فيها ولا غَلَبَ على ظنه، لم يحِلَّ له أن يفتيَ ولا يقضيَ بما لا يعلم، ومتى أقدم على ذلك فقد تعرَّض لعقوبة الله ودخل تحت قوله تعالى: {قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ 0لۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَ0لۡإِثۡمَ وَ0لۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ 0لۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِ0للَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى 0للَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} [سورة الأعراف: الآية 33]. فقد جعل الله سبحانه في الآية القولَ عليه بلا أعلمٍ أَعْظَمَ المحرمات الأربع التي لا تباح بحال -والمنصوص عليها في الآية- والتي جاء التحريم فيها بصيغة الحصر. ودخل ذلك أيضًا تحت قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ 0لشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٌ 168 إِنَّمَا يَأۡمُرُكُم بِ0لسُّوٓءِ وَ0لۡفَحۡشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى 0للَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} [سورة البقرة: الآيتان 168، 169]. ودخل في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من أفتى بغير علم فإنما إثمه على من أفتاه)). وإن كان المفتي قد عرف الحقَّ في المسألة علمًا أو ظنًّا غالبًا لم يَحِلَّ له أن يفتي ولا أن يقضي بغيره. فالحاكم والمفتي والشاهد على الحكم كلٌّ منهم مُخْبِرٌ عن حكم الله في المسألة محل الحكم أو الإفتاء؛ فالحاكم مخبر عن الله ومنفذ لحكمه، والمفتي مخبر غير منفذ قضاءً؛ لأن حكم التنفيذ يقع على عاتق المستفتي ديانةً إن كانت الفتوى تتعلق به، وعلى غيره إن كانت لمن طلبها له فيما تصح الإنابة فيه شرعًا، وأما الشاهد فهو مخبر بشهادته عن الواقعة التي انطبق عليها دليل الحكم الشرعي الذي حكم به الحاكم أو أفتى به المفتي، ولذلك وجب على الشاهد أن تكون شهادته كما أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- على ما يشهد به الشاهد: ((على مثل الشمس فاشهد أو دع)). فمن أخبر منهم عما يعلم خلافه فهو كاذب على الله عمدًا، وقد ردَّ على الله حكمَه، وينطبق عليه قوله تعالى: {وَيَوۡمَ 0لۡقِيَٰمَةِ تَرَى 0لَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى 0للَّهِ وُجُوهُهُم مُّسۡوَدَّةٌ} [سورة الزمر: الآية 60]. ومن أظلم ممن كذب على الله وعلى دينه. أعاذنا الله منهم في الدنيا والآخر، وهدانا إلى الحق وإلى الصراط المستقيم في كل أمور ديننا ودنيانا، وهو بعباده المؤمنين رؤوف رحيم.
* كما يشترط في المفتي أن يكون مسلمًا مكلفًا ملمًّا بالأحكام الشرعية، وثقةً مأمونًا في دينه ودنياه في حال الرضا والغضب، منزهًا عن أسباب الفسق وخوارم المروءة، فقيهَ النفس سليمَ الذهن، رصينَ الفكر، صحيحَ التصرف والاستنباط، متيقظًا، وهذا ما نص عليه الإمام النووي رضي الله عنه، ثم قال حكاية عن الشيخ أبي عمرو بن الصلاح: وينبغي للمفتي أن يكون كالراوي في أنه لا يؤثر فيه قرابة ولا عداوة ولا جر نفع ولا دفع ضر؛ لأن المفتي في حكم مخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص، فكان كالراوي لا كالشاهد، وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف حكم القاضي[[19]].
وقد نقل النووي عن الماوردي في كتابه الحاوي: أن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصًا معينًا صار خصمًا حكمًا معاندًا، فترد فتواه على من عاداه، كما ترد شهادته عليه.
وفتاوى من لم تتوافر فيهم شروط الفتوى مردودةٌ لا تقبل منهم، ولا يصح العمل بها لا ديانةً ولا قضاءً، ويدخل فيهم الشرار والرافضة الذين يسبون الصحابة والسلف الصالح، ويكفرون المسلمين بالشبهات، أو يفسقونهم بغير حكم قضائي أو بينة شرعية.
* ويجب على من يتصدَّى لأمر الفتوى في الدين أن يكون على بينةٍ من نفسه ومعرفة حاله ومكانته العلمية ودرجته بين المتفقهين من الفقهاء والعلماء المشتغلين في الفتوى عن اجتهاد ودليل والمقلدين عن غيرهم في الفقه والفتوى بدليل أو بغير دليل؛ وذلك لأن المفتين في الشرع قسمان: قسم مستقل في الحكم عن غيره بالاجتهاد الذي يقوم على الدليل الشرعي، وقسم غير مستقل، وهو الذي يكون عن نقل وتقليد.
فالمستقل بنفسه للوصول إلى معرفة الحكم الشرعي والإفتاء به: يشترط فيه أن يكون مجتهدًا في الأحكام الشرعية، عالِمًا بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالتها، ويكفيه اقتباس الأحكام منها، وهذا يستفاد من أصول الفقه، وهذا يتطلب في المفتي أن يكون عالِمًا بأصول الفقه الإسلامي، وحاز درجة العلم فيه على يد أهل الاختصاص من العلماء المسلمين، كما يتطلب في المفتي المستقل أن يكون عارفًا من القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والناسخ والمنسوخ، والنحو واللغة العربية والصرف، واختلافِ العلماء واتفاقِهم بالقدر الذي يتمكَّن معه من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها، وعالِمًا بالفقه ضابطًا لأمهات مسائله وتفاريعه عند النظر والبحث في الحادثة المعروضة لمعرفة الحكم الشرعي والإفتاء به فيها.
قال الإمام النووي -رضي الله عنه-: فمن جمع هذه الأوصاف فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدَّى به فرض الكفاية، وهو المجتهد المطلق المستقل؛ لأنه يستقل بالأدلة بغير تقليد وتقيد بمذهب أحد لإصدار فتواه وحكمه الشرعي للحادثة[[20]].
ولا يشترط في المجتهد المطلق أن يكون جميع الأحكام الشرعية على ذهنه، بل يكفيه كونه حافظًا المعظم متمكنًا من إدراك الباقي على قرب من مكانها المتفق عليه منها عند الفقهاء المجتهدين.
وأما القسم الثاني من المفتين، فهو الخاص بالمفتي غير المستقل، وهو المقلد في فتواه والمنتسب إلى أئمة المذاهب الفقهية المتبوعة، ولهذا النوع من المفتي أربعة أحوال:
الأول: المجتهد المستقل بنفسه في الوصول لمعرفة الحكم الشرعي بطريق إمامه في الاجتهاد والدليل، فليس مقلدًا لإمامه في المذهب ولا في الدليل المستدل به لمسألة ما، وإنما ينسب إلى إمامه سلوكه وطريقته في الاجتهاد للوصول إلى الحكم الشرعي، وهذا النوع من المفتين لا يتقيد بمذهب إمامه الذي أخذ عنه العلم، بل يأخذ الحكم من أي مذهب حسب ما يدل عليه الدليل الذي يعول عليه في الحكم والفتوى[[21]].
والثاني: المجتهد المقيد بمذهب إمامه، وهذا هو المستقل في حكمه بتقرير أصول مذهبه وإمامه وإن خالف حكمه واجتهاده حكم مذهبه وإمامه، ومن أمثلة هؤلاء: أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا الإمام أبي حنيفة، والإمام النووي، وابن تيمية، وابن القيم، وغيرهم من الأئمة العظام المجتهدين في جميع المذاهب الفقهية الإسلامية[[22]].
والثالث: من المقلدين: أن لا يبلغ في فقهه رتبة أصحاب الوجوه في المذهب، لكنه فقيه النفس حافظ مذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريرها، يصور ويحرر ويقرر ويمهد ويزيف ويرجح، لكنه قَصُرَ عن أولئك لقُصُوره عنهم في حفظ المذهب أو الارتياض في الاستنباط أو معرفة الأصول ونحوها من أدواتهم، وهذه صفة كثرة من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة، وهم من صنفوا المذهب وحرروه ولم يلحقوا الذين قبلهم في التخريج، وتصانيف هؤلاء هي معظم التراث الفقهي الذي يشتغل عليه الناس والعلماء حتى اليوم[[23]]. وأما فتاوي هؤلاء فكانوا يفتون فيها على طريقة من قبلهم ويقيسون غير المنقول عنهم على ما نقل عنهم.
وأما الحالة الرابعة من أحوال المفتين غير المستقلين بالدليل: فهي أن يقوم الشخص بحفظ المذهب ونقله عن إمامه المقلد له ونقله وفهمه، وفتواه تقوم على حكاية ما ينقله من كتب المذهب من نصوص إمامه وتخريج المجتهدين في مذهبه، وما لا يجده منقولًا بنصه نقل ممن هو قريب منه في معناه وألحقه به في الحكم والفتوى، ومالم يجده بالنص أو المعنى أدرجه تحت ضابط من ضوابط المذهب، وما ليس كذلك أمسك عن الفتوى فيه، ودليل هذا يقع نادرًا في كتب التراث لهؤلاء الفقهاء ؛إذ يبعد كما -قال إمام الحرمين- أن تقع مسألة لم ينص عليها في المذهب ولا هي في معنى المنصوص ولا مندرجة تحت ضابط، وشرط المفتي في هذه الحالة كونه فقيه النفس وذا حظ وافر من الفقه، ويكتفى في حفظ المذهب لهذه الدرجة والتي قبلها أن يكون معظم أحكام المذهب وقواعده وضوابطه على ذهنه، ويتمكن بعلمه ودربته من الوقوف على الباقي على قريب منه من المصادر المدونة والثابتة لديه عند الحاجة[[24]].
* ومن آداب الإفتاء مراعاة المفتي حال المستفتي ومراده من السؤال حيث شرع للمفتي، بل ينبغي له أن يزيد في الجواب على ما تضمنه سؤال المستفتي إذا رأى أنه بحاجةٍ إلى معرفة شيء آخر غير ما سأل عنه، وهذا صحيح في بيان الأحكام الشرعية عند جمهور الفقهاء والأصوليين، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع السائل عن ماء البحر في الطهارة، فأجاب صلى الله عليه وسلم بقوله: ((هو الطهور ماؤه الحل ميتته)). حيث زاد النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجواب عند السؤال بالوضوء بماء البحر بحل ميتته أيضًا؛ وذلك لعلمه -صلى الله عليه وسلم- من سؤال السائل أنه بحاجة إلى بيان كل ما يتعلق بماء البحر في الطهارة وغيرها له ولجميع المسلمين. وكذلك قال الخطابي -رحمه الله- في معالم السنن[[25]] في فوائد حديثه -صلى الله عليه وسلم-: ((هو الطهور ماؤه الحل ميتته)): وفيه أن العالم والمفتي إذا سُئل عن شيء وهو يعلم أنَّ بالسائلِ حاجةً إلى معرفة ما وراءه من الأمور التي تتضمنها مسألتُه أو تتصل بمسألته، كان مستحبًّا له تعليمُه إياه والزيادة في الجواب عن مسألته، ولم يكن ذلك عدوانًا في القول ولا تكلُّفًا لما لا يَعْنِي من الكلام، ألا تراهم سألوه -صلى الله عليه وسلم- عن ماء البحر فحسب؟ فأجابهم عن مائه وعن طعامه؛ لعلمه -صلى الله عليه وسلم- بأنه قد يعوز السائلين الزاد في البحر كما يعوزهم الماء العذب للشرب منه والتطهر به، وماءُ البحر يصحُّ إطلاقُه مجازًا على ماء النهر، فلما جمعت الحاجة السائلين إلى ماء البحر في الطهارة والطعام والشراب، انتظمهم الجواب[[26]].
* وبذلك قال الشوكاني في فوائد هذا الحديث الذي رواه ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قد عقد البخاري لذلك بابًا، فقال: باب إجابته بأكثر مما سأله، وذكر حديثَ ابن عمر، فكأنه سأله عن حالة الاختيار، فأجابه عنها وعن حالة الاضطرار، وليست أجنبية عن السؤال؛ لأن حالة السفر تقتضي ذلك، وأما ما وقع في كلام كثير من الأصوليين أن الجواب يجب أن يكون مطابقًا للسؤال، فليس المراد بالمطابقة عدم الزيادة؛ بل المراد أن الجواب يكون مفيدًا للحكم بالمسؤول عنه[[27]].
وقد ذكر ابن القيم في هذا المقام عند حديثه عن مراتب الجود: الجود بالعلم وبذله من أعلى مراتب الجود، والجود به أفضل من الجود بالمال؛ لأن العلم أشْرَفُ من المال، والناسُ في الجود به على مراتبَ متفاوتةٍ، وقد اقتضت حكمة الله تعالى وتقديره النافذ أن لا ينفع به بخيلًا أبدًا، ومن الجود بالعلم أن تبذله لمن يسألك عنه، بل تطرحه عليه طرحًا[[28]]، وأن السائل إذا سألك عن مسألة استقصيت له جوابها جوابًا شافيًا لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة كما يفعل بعضهم في الجواب عن الفتيا بنعم أو لا مقتصرًا عليها[[29]].
قال ابن القيم: وقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيميه -قدس الله روحه- في ذلك أمرًا عجبًا؛ كان إذا سُئل عن مسألة حُكْمية ذَكَرَ في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة إذا قَدَر، ومآخذ الخلاف، وترجيح القول الراجح، وَذَكَرَ متعلقاتِ المسألة التي ربما تكون أَنْفَعَ للسائل من مسألته، فيكون فرحُه بتلك المتعلقات واللوازم أَعْظَمَ من فرحته بمسألته، وفتاويه -رحمه الله- منشورةٌ بين الناس.
وقد سأل الصحابة -رضي الله عنهم- النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المواضأة بماء البحر فقال: ((هو الطهور ماؤه الحل ميتته))، فأجابهم عن سؤالهم، وجاء عليهم بما لعلهم في بعض الأحيان إليه أحوج مما سألوه عنه.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سألوه عن الحكم نبهم على علته وحكمته؛ كما في سؤالهم عن بيع الرطب بالتمر، فقال صلى الله عليه وسلم في الجواب: ((أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا نعم. قال: فلا إذن)). مع أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يخفى عليه نقصان الرطب بجفافه، ولكن نبههم في الجواب على علة الحكم الشرعي. وهذا كثير جدًّا في أجوبته -صلى الله عليه وسلم- لمن سأله من المسلمين؛ كما في قوله -صلى الله عليه وسلم- في إجابة السائل عن بيع التمر الذي أصابته الجائحة بعد البيع: ((إن بعت من أخيك ثمرة فأصابتها جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئًا، بم يأخذ أحدُكم مال أخيه بغير حق؟)). فصرَّح صلى الله عليه وسلم بالعلة التي يحرم لأجلها إلزام البائع للمشتري بثمن المبيع الذي أصابته الجائحة بعد البيع وهي -أي الجائحة- لا يد للمشتري فيها، فهي مَنْعُ اللَّهِ الثمرةَ التي ليس للمشتري صنع فيها[[30]].
* ومن آداب الفتوى رَفْعُ المفتي بفتواه اللَّبْسَ وكشف الإشكال عن المستفتي؛ لأن الواجب على المفتي أن يهتم بإيضاح الجواب في الفتوى جهده، ويجتهد في بيان الحكم الشرعي فيها قدر وسعه؛ بحيث يكون جوابه بيانًا للحكم ومُزيحًا للإشكال المحتملِ إيرادُه في المسألة بالسؤال، وهذا ما نبَّه عليه كثير من الفقهاء والمفتين من العلماء المجتهدين منهم: ابن الصلاح والنووي وابن القيم رحمهم الله[[31]].
قال ابن القيم: لا يجوز للمفتي الترويج وتخيير السائل وإلقاؤه في الإشكال والحَيْرَة؛ بل عليه أن يبين بيانًا مزيلًا للإشكال، متضمنًا لفصل الخطاب، كافيًا في حصول المقصود، لا يحتاج معه إلى غيره، ولا يكون كالمفتي الذي سُئل عن مسألة في المواريث فقال: يقسم بين الورثة على فرائض الله عز وجل، وكتبه فلان!!
وهذا لا يتعارض مع التوقف عن البيان في الحكم المختلف فيه بين العلماء في الأمر أو الواقعة المسؤول عنها التي تقبل الاجتهاد والخلاف في الحكم بين الفقهاء؛ وذلك تورعًا من المفتي عن القول الراجح منها، أو للتريُّث في البحث للوصول إلى الترجيح فيها بدليلٍ يصل إليه يرفع هذا الخلاف، أو يرجح أحدهما على الآخر، فإن المفتي المتمكن من العلم المضطلع به قد يتوقف في بيان الجواب في المسألة المتنازَع فيها عند العلماء، فلا يقدم على الجزم فيها بغير علم، وغاية ما يمكنه في ذلك أن يذكرَ الخلافَ فيها للسائل ويتركَ له أن يختار الجواب منها حسب ما يطمئن إليه قلبه ويميل إليه؛ لأن الجميع له سندُه الشرعي، وتقليدُه لأي مذهب من المذاهب الفقهية الشرعية جائز شرعًا، ويصح العمل به؛ لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((استَفْتِ قلْبَكَ ولو أفتاك الناس وأفتوك))[[32]].
وكثيرًا ما كان يُسأل الإمام أحمد -رضي الله عنه- وغيرُه من الأئمة أصحاب المذاهب الفقهية عن مسألة فيقول: فيها قولان، أو يقول: قد اختلفوا فيها، وهذا كثير في كتب الفقهاء؛ كأجوبة الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم من الصحابة والتابعين[[33]].
ففي أجوبة الإمام أحمد بن حنبل نجد ذلك كثيرًا؛ وذلك لسعة علمه وورعه، وهو كثير أيضًا في كلام الإمام الشافعي حيث يذكر المسألة ثم يقول: فيها قولان، وقد اختلف أصحاب الشافعي: هل يضاف القولان اللذان يحكيهما إلى مذهبه وينسبان إليه أم لا؟ على طريقين[[34]].
وإذا اختلف الصحابة في مسألة ما، ولم يتبين للمفتي القول الراجح من أقوالهم، فقال: هذه مسألة اختلف فيها فلان وفلان من الصحابة على كذا وكذا، وذكر لكلٍّ دليلَه، فقد انتهى إلى ما يقدر عليه من العلم، كما قال ابن القيم رحمه الله[[35]].
* ومن آداب المفتي في الجواب على سؤال المستفتي أن يكون الجواب محررًا ملخصًا يستطيع العامي أن يستوعبه ويعيده، إلا إذا كان بالمستفتي حاجة إلى معرفة أمر آخر لم يسأل عنه، حيث يشرع للمفتي أن يذكره له؛ كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الصحابة في السؤال عن الوضوء من ماء البحر، وقد سبق توضيحُ ذلك وبيانُه.
قال ابن الصلاح -رحمه الله-: إذا كانت المسألة تحتاج إلى تفصيل لم يطلق الجواب فإنه خطأ، ثم له أن يستفصل السائل إن حضر، وله إن يقتصر على جواب أحد الأقسام إذا علم أنه الواقع للسائل، ولكن يقول: هذا إذًا كذا وكذا، وله أن يفصل الأقسام في جوابه ويذكر حكم كل قسم[[36]].
وقال الخطيب البغدادي -رحمه الله-: ومتى كانت المسألة ذات أقسام لم تُفَصَّلْ في السؤال، لم يَجُزْ أن يضع جوابَه على بعضها فقط، بل يجب عليه أن يقسم المسألة فيقول: إن كان كذا فالحكم فيه كذا، وإن كان كذا فالحكم فيه كذا، وإن كان كذا فالحكم فيه كذا، ويجب أن يكون جواب المفتي محررًا، وكلامه ملخصًا[[37]].
وقال ابن الصلاح حكايةً عن القاضي أبي الحسن الماوردي: إن المفتي عليه أن يختصر جوابَه، فيكتفي فيه بأنه يجوز أو لا يجوز، أو أنه حق أو باطل، ولا يعدل إلى الإطالة والاحتجاج ليفرق بين الفتوى والتصنيف، ولو ساغ التجاوز إلى قليل لساغ إلى كثير، ولصار المفتي مدرسًا، ولكل مقام مقال، فقد يحتاج المقام إلى الإيجاز، وقد يحتاج إلى البيان والتفصيل، وهذا ثابت في كتب الفقهاء والمفتين قديمًا وحديثًا. قال ابن النجار في شرح التحرير في الفتاوي: إن العلماء لم يزالوا إذا كتبوا عليها اطمئنوا وزادوا على المراد، بل كان بعضهم يُسْأل عن المسألة، فيجيب فيها بمجلد أو أكثر، وقد وقع هذا كثيرًا للمفتين في كتبهم[[38]].
* ومن آداب الفتوى أن يكون المفتي عالِمًا بالأحكامِ الشرعية القطعية والظنية، وبقواعدِها العامة والخاصة، ومصادرِ هذه الأحكام، والفرقِ بين حكم المفتي العام والخاص، وحكم الحاكم والقاضي في الوقائع الخاصة التي يحكم فيها بين العباد بحكم واجب النفاذ، ورفع النزاع والخصومة بينهم في هذه الوقائع، وفتوى المفتي التي تتغير بتغير الأحوال والأشخاص والزمان والمكان.
فأحكام الشريعة الإسلامية قسمان: قسم مصدره الكتاب والسُّنَّة الصريحة العامة والخاصة أو إجماع الأمة: كوجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج مثلًا في الواجبات الشرعية المقطوع في الحكم بوجوبها على المكلفين من العباد، وتحريم الزنا والخمر والمسكرات والقتل بغير حق والسرقة والإفساد في الأرض في المحرمات الواجب الانتهاء عنها من العباد الكلفين في شريعة الإسلام.
والقسم الثاني من الأحكام الشرعية: أحكام مصدرها الاجتهاد الشرعي المنضبط بضوابط الشرع دون أن تكون مستندةً إلى نصوص تفصيلية مباشرة في الدلالة عليها؛ كأن تكون هذه الأحكام مبنيةً على مصلحةٍ سكت عنها الشرع ولا نَصَّ فيها، أو عرفٍ لم ينشئه نص شرعي؛ كالتراضي في البيوع وألفاظ اليمين، ونحو ذلك.
فأحكام القسم الأول ثابتةٌ إلى يوم الدين؛ لأنها قطعيةُ الثبوت والدلالة، فلا تتغير بتغير الزمان والمكان، وهذا ما عليه إجماع علماء أمة الإسلام خلفًا عن سلف إلى يوم الدين، وفي هذا قال ابن حزم -رحمه الله-: إذا ورد النص من القرآن أو السنة الثابتة في أمرٍ ما على حكمٍ ما، ثم ادعى مدَّعٍ أن ذلك الحكم قد انتقل أو بطل من أجل أنه انتقل ذلك الشيء المحكوم فيه عن بعض أحواله أو تبدل زمانه أو مكانه، فعلى مدعي انتقال الحكم من أجل ذلك أن يأتيَ ببرهان من نص قرآني أو سنة.. فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان ولا لتبدل المكان ولا لتغير الأحوال، وأن ما ثبت فهو ثابت أبدًا في كل زمان وفي كل مكان وعلى كل حال حتى يأتي نص ينقله عن حكمه في زمان آخر أو حال أخرى[[39]].
وأما أحكام القسم الثاني من الأحكام الشرعية: فهي الأحكام الاجتهادية التي قد تتغير بحسب اجتهاد المجتهد المتوفر فيه شروط الاجتهاد الشرعي حسب ما هو مدون في مظانه عند علماء الأصول، ومعرفته بتحقيق المناط للحكم وتحقق المصلحة ومراعاة أعراف الناس وعاداتهم بالضوابط الشرعية المعلومة بحكم الشرع عند العلماء المجتهدين. وفي ذلك يقول ابن القيم -رحمه الله-: الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة؛ كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه.
والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا؛ كمقادير التعزيرات وأجناسها، وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة، فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة.
وكمشروعية التعزير بأخذ شطر مال المزكي الممتنع عن إخراج الزكاة الواجبة عليه، وكمشروعية التعزير بالعقوبات المالية، والتضعيف بالعزم المالي على سارقٍ مالًا قطع فيه، وكاتمٍ ضالة الأبل، والتعزير في النشوز من الزوجات بالهجر ومنع قربان النساء[[40]].
* ومن آداب المفتي بيان الحكم الشرعي على جهة القطع في الفتوى لديه، سواء كان ذلك عن يقين لقطعية الدلالة على الحكم، أو كان عن اجتهاد توصل إليه بناءً على غلبة الظن الذي يقربه لديه إلى جهة اليقين، وذلك لقبول دليل الحكم هذا الاجتهاد الذي يقبل الخلاف بغيره لمجتهد آخر في المسائل الخلافية.
وعلى ذلك فينبغي للمفتي في المسائل الخلافية أن لا يقتصر في فتواه على قوله: في المسألة خلاف، أو فيها قولان أو وجهان أو روايتان، أو مذهبان، أو يرجع فيها إلى قول أبي حنيفة، أو مالك، أو الشافعي، أو أحمد، أو إلى فلان، ونحو ذلك؛ لأن هذا ليس بجواب في الإفتاء، ولا يفيد المستفتي، سواء كان عاميًّا خالصًا أو كان مقلدًا، ومقصد المستفتي بيان المفتي له ما يعمل به، فينبغي للمفتي أن يجزم له بما هو الراجح عند الخلاف، فإن لم يعرفه أو لم يظهر له بعد، توقَّف عن الحكم والفتوى حتى يظهر له الراجح بدليله، أو يترك الفتوى في المسألة اتباعًا للسلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب الفقهية المجتهدين[[41]].
* ومن آداب المفتي الواجبة مراعاة النوازل العصرية والحوادث المستجدة التي لا نص عليها من الشارع، ولا حكم فيها من قبل عند مجتهد من الفقهاء المسلمين، والحكم فيها بما يوافق الحال والعصر بدليل اجتهادي لا يصادم نصًّا قطعيًّا للشرع ولا إجماعًا على خلافه، وأن يكون عند الحكم عالما بموقع هذه النوازل من أدلتها بالنسبة للعزائم والرخص، وبأن أحكام العزائم أحكام عامة ودائمة لا تتغير إلا بسبب شرعي يوجب هذا التغيير بدليله، وأن أحكام الرخص أحكام خاصة استثنائية مؤقتة تنتهي بانتهاء أسبابها الشرعية.
وعلى ذلك فيجب على المفتي في النوازل العصرية التفريقُ بين كونها في بلاد المسلمين أو في الأقليات الإسلامية في بلاد غير المسلمين، وأن يراعيَ في بلاد المسلمين في المسائل العامة التي يؤثر الخلاف في الحكم والإفتاء فيها على المسلمين في أمور دينهم أو دنياهم ويضعف من شوكتهم أمام أعدائهم، أن يكون الحكم والإفتاء بعد الاستشارة والعرض على أهل الاختصاص من المفتين والمجامع الفقهية في الدول الإسلامية، وبخاصة في عصر الفضائيات التي جعلت العالم في ظلها الآن كالقرية الواحدة، وعلى المفتي الالتزام بما يصدر عنها في العموم والخصوص؛ لأن اجتهاد الجماعة مقدَّم على الاجتهاد الفردي، بل هو قريب من الإجماع الذي لا يجوز مخالفتُه، والله أعلم.
* ومن الآداب الواجبة والقواعد الشرعية التي ينبغي على المفتي مراعاتها والعمل بها في مجال الإفتاء العام أو الخاص عدمُ التساهل في الفتوى والتسرع فيها، حيث يجب التثبت من الحادثة المراد طلب الفتوى فيها، وإعمال النظر والفكر فيها من جميع جوانبها، مع مراعاة حال المستفتي من الواقعة، وهل يراد بها العموم أو الخصوص، فمن لم يراعِ ذلك حرمت عليه الفتوى وحرم استفتاؤه، وذلك مالم يكن المفتي ممن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه؛ لأن المبادرة في مثل ما هو معلوم الحكم فيه شرعًا وسبق الإفتاء به وتكرر السؤال عنه ولم يوجد سبب لتغيره جائز شرعًا، ولا يعد ذلك من باب التساهل في الفتوى. قال النووي -رحمه الله-: يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاؤه[[42]].
ومن التساهل في الفتوى أن تحمل المفتي الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلبًا للترخيص لمن يريد نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره، وأما من صحَّ قصدُه من المفتين فاحتسب في طلب فتوى حيلة لا شبهة فيها لتخليص من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسن كما قال ابن الصلاح في أدب الفتوى، وقال: وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا كقول سفيان: إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد[[43]].
وقال ابن الصلاح: ويجب على المفتي حيث يجب عليه الجواب أن يبينه بيانًا مزيلًا للإشكال.
* ومن الآداب التي يجب مراعاتها في الفتوى الشرعية لدى المفتي عدمُ الفتوى في حال شغله بما يمنعه من التأمل والتثبت في الفتوى، أو تعرضه لحال يؤثر في ذلك؛ كغضب شديد، وجوع مفرط، أو هم مقلق، أو خوف مزعج، أو نعاس يغالبه، أو مدافعة أحد الأخبثين أو هما معًا، فمن أحسَّ من نفسه شيئًا من ذلك يخرجه عن حال اعتداله وكمال تَثَبُّتِه في الفتوى، أمسك عنها، فإن أفتى مع ذلك وكان فتواه على صواب صحَّت الفتوى وإن كان ذلك في حقه مكروهًا، فإن خرجت الفتوى عن الصواب حرم عليه ذلك ونقضت، ووجب ذلك منه أو من غيره ممن هو أهل للفتوى، وهذا ما يؤيده ابن القيم وغيره من العلماء[[44]].
* ومن آداب المفتي الصبرُ على المستفتي والرفقُ به بما يقتضيه الحال، قال ابن الصلاح، إذا كان المستفتي بعيد الفهم، فينبغي للمفتي أن يكون رفيقًا به، صبورًا عليه، حسن التأني في التفهم منه والتفهم له، حسن الإقبال عليه، سيما إذا كان ضعيف الحال، محتسبًا أجر ذلك، فإنه جزيل؛ أي عند الله تعالى في الآخرة[[45]].
* ومن الآدابِ الواجبة في الفتوى الشرعية والقواعدِ الثابتة التي لا خلافَ عليها عند العلماء والفقهاء والتي يجب مراعاتُها في حق المكلفين من المسلمين عمومًا، وفي حقِّ ولاة الأمور خصوصًا، هو مَنْعُ المفتي الماجن والجاهل من التعرُّض للفتوى بين الناس؛ لأن أمر الفتيا عظيمٌ، ومنصبَ الإفتاء خطيرٌ، والنصوص في ذلك ثابتة، فمن لم يكن أهلًا للإفتاء فليتقِ الله وليعرفْ عظم المسؤولية الدينية والدنيوية التي تقع على عاتقه نتيجة أخطائه في الفتوى في حقوق الله أو في حقوق العباد، ولذلك وجب على ولي الأمر من المسلمين مَنْعُ مَن ليس أهلًا للإفتاء من الفتوى، سواء كان ذلك لفسقه أو لمجونه أو لجهله، قال ابن القيم -رحمه الله-: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثمٌ عاصٍ، ومَن أقرَّه مِن ولاة الأمور على ذلك فو آثمٌ أيضًا. وقال ابن الجوزي: يلزم ولي الأمر منعهم، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من يطبب الناس ولا علم ولا معرفة له بالطب، بل المفتي الماجن والجاهل أسوأ حالًا من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟ ولذلك كان الحجر في الفتوى من غير أهلها لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان[[46]].
وفي منع الجاهل من الفتوى والحجر عليه في ذلك جاء قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ 0لۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى 0للَّهِ 0لۡكَذِبَۚ إِنَّ 0لَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى 0للَّهِ 0لۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ} [سورة النحل: الآية 116]. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: ((من أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على الذي أفتاه)).
ولذلك قال الخطيب البغدادي -رحمه الله-: ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقرَّه عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها وأوعده بالعقوبة إن لم ينْتَهِ عنها، والطريق للإمام إلى معرفة حال من يريد تنصيبه للفتوى أن يسأل عنه أهل العلم في وقته والمشهورين من فقهاء عصره، ويعول على ما يخبرونه من أمره. وقد نقل الخطيب البغدادي إجماعَ المسلمين على أن الفاسق لا تصح فتواه. وقال ابن مفلح -رحمه الله- في ذلك: ويلزم ولي الأمر منع من ليس أهلًا للفتوى من الإفتاء[[47]].
وهذا ما يجب مراعاتُه واتخاذ كل السبل المشروعة لولاة أمور المسلمين في هذا العصر لمنع من يتصدَّى للفتوى من غير أهلها المختصين بعلم الفتوى وبقواعدها وضوابطها الشرعية، حيث اختلط في هذا العصر الحابل بالنابل، وتعرَّض للفتوى مَن ليس أهلًا لها في وسائل الإعلام المختلفة المسموعة والمقروءة والمرئية المحلية والعالمية، مما كان له أثره السلبي على الأمة الإسلامية في أمور دينها ودنياها لدى كثير من الناس، ومن هذه الآثار السلبية الخروجُ على أولي الأمر والجماعة، وتنازع المسلمين وقتالهم فيما بينهم، واستباحة دمائهم المحرمة عليهم؛ وذلك بفتاوى التكفير التي تصدر من غير أهلها في بلاد المسلمين، والشواهد العملية على ذلك كثيرة في العراق وغيرها من بلاد المسلمين كسوريا وليبيا واليمن والصومال ونيجيريا.
وكما في الفتوى بغير علم فتوى إرضاع الأجنبي الكبير للتحريم وهذا إشاعةٌ للفاحشة في هذا العصر، وإثمٌ كبير، وظلمٌ عظيم يجب دفعه بكل الطرق المشروعة، وفتاوى التكفير والتفسيق والتجهيل بغير علم والتي شاعت بين العامة، وكفَّر المسلمون بها بعضهم بعضًا، وشاعت الفتاوى بينهم في كل مكان من بلاد المسلمين، وعمَّ البلاء وعظم بسببها.
وفق الله ولاة أمور المسلمين من الحكام والعلماء في جميع المجامع الفقهية للجهاد في مقاومة هذا الخطر، وتحقيق وحدة الأمة الإسلامية في كل ما يتعلق بمصالحها لشؤون دينها ودنياها وتحقيق الأمن والسلام الدائم لكل العباد في كل البلاد.
المطلب الرابع
ضوابطُ الفتوى الشرعية ومراعاة منهج التعامل مع فقه النوازل في الجهات الأربع حسب الزمان والمكان والحال والمقام
الضابط الأول
مراعاة المفتي عموم التشريع الإسلامي لجميع العباد والبلاد
التشريع الإسلامي تشريع عام باقٍ على وجه الزمان والمكان، فلا يختص بأمة دون أمة من البشر، ولا بزمان دون زمان، ولا بمكان دون مكان، ولهذا بني على أصول تشريعية عامة محكمة تشمل جميع شؤون الدين وشؤون الدنيا معًا للحياة الإنسانية على تعاقب عصورها وأجيالها لتساير تشريعاتها تطور الحياة في حضارتها ومدنيتها البشرية، وتتيح في كل عصر لأهل النظر والاجتهاد من العلماء الأخيار أن يتعرفوا أحكامَ الله تعالى في كل ما يقع في مجتمعاتهم من وقائعَ وأقضيةٍ، وما يحدث فيها من أطوارِ الحضارة عن طرق الكسب وأنواع المعاملات مهما تعاقبت العصور وتنوعت أنظمة الحياة الإنسانية بتنوع الحضارات والمدنيات، فإن كل ما يحدث ويجد من حوادثَ للإنسان بعد عهد التشريع في زمن الوحي والنبوة من شؤون الحياة الدنيا وما تقتضيه مصلحة الإنسان والعيش فيها خليفةً في الأرض خلافةً شرعيةً كما أمر الله وأراد، لا يخرج حاله عن أن يكون صورةً مكررةً لما حدث في عهد التشريع وتقرر له حكم شرعي إما بالنص أو بالاجتهاد الشرعي الصحيح، فيأخذ ذلك الحكم الجديد الحكم الذي تقرر لنوعه الشرعي، فإن الحكم على العام حكمٌ على جميع أفراده ما لم يرد ما يخصصه كما تقرر ذلك في علم أصول الفقه الشرعي، أو يكون ذلك الحكم الجديد نظير الشيء السابق في الحدث منصوصًا على حكمه، ويكون مساويًا له في علة حكمه، فيأخذ حكم نظيره بقياسه عليه عند القائلين بحجية القياس وهم جمهور الفقهاء المجتهدين من علماء الشريعة الإسلامية وأهل الأصول، أو يكون حكم الحدث الجديد مسكوتًا عنه، أو لم يرد فيه دليل شرعي يخصه أو يخص نوعه، وليس نظير الشيء منصوصًا على حكمه فيأخذ الحكم الذي تقرر في أصول الفقه للمسكوت عنه كقاعدة شرعية عامة تقرر: أن الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضار الحظر. وهذا في الشؤون الحياتية للعباد التي تجمع بين أمر الدين والدنيا معًا، وتخضع في تنظيمها لأمر الدين، إما سماعًا بالنص، أو اجتهادًا بالعقل حسب ضوابطه البشرية.
هذا والشؤون الدنيوية البحتة قد وكل التشريع الإسلامي أمر تدبيرها وتصريف شؤونها إلى عقول الناس ومواهبهم، كما يدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: ((أنتم أعلم بأمر دنياكم))[[48]]. وما رواه أحمد في مسنده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- برواية أخرى: ((ما كان من أمر دينكم فإليَّ، وما كان في أمر دنياكم فأنتم أعلم به))[[49]]. وبذلك كان نظام الحكم بين المسلمين من أمور دنياهم بما يحقق لهم مصالح دينهم ودنياهم معًا على أي صورة، والخلاف في الحكم من فروع الدين وليست من أصوله عند الفقهاء أهل السنة والجماعة.
فبيان هذه الشؤون الدنيوية ليس من شأن التشريع الإسلامي الموحى به النص عليه مباشرة في نصوصه التشريعية القطعية أو الظنية، إنما شأنه فيها أنه وجَّه عقولَ الناس والعباد إلى رعاية هذه الشؤون التي لا بد لهم منها في حياتهم رعاية صحية وسليمة، بحيث أرشدهم إلى طرق وأبواب الوصول إليها والانتفاع بها في شؤون حياتهم بطريق مباشر أو غير مباشر كما في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي 0لسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي 0لۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مِّنۡهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الجاثية: الآية 13]، وقوله تعالى: {هُوَ 0لَّذِي جَعَلَ لَكُمُ 0لۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَ0مۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ 0لنُّشُورُ} [سورة الملك: الآية 15]. وعلى العقول والأفكار بعد هذا التوجيه الإلهي والإرشاد منه سبحانه أن تتعرف أنواع الشؤون الدنيوية التي لا حصر لها وتتجدد دائمًا بتغير الزمان وتجديده ومعرفة مقدار الحاجة إليها وكيفية الانتفاع بها، على أن يكون ذلك كله في الحدود التي رسمها الشرع الحكيم من خلال قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام مالك وابن ماجه بسنده: ((لا ضرر ولا ضرار))[[50]].
الضابط الثاني
مراعاة المفتي أن الأصول التشريعية في الإسلام هي وحي الله ولا يتطرق إليها الخطأ
إن الأصول التشريعية لا قصور في كفاية إصلاحها التشريعي، ولا تحتاج إلى تكميل في أحكامها التشريعية مهما طال الزمان وتغيرت أوضاع الحياة؛ لأنها من وضع الحكيم العليم الخبير الذي لا تخفى عنه خافية، ولا يغيب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وإنما قد يقع الخطأ والقصور في كيفية الاستدلال بها والاستنباط منها في فهم مقاصدها وأسرار أحكامها، وإدراكها واتساع مجال تفكيرها.
وأقصى ما تحتاج إليه في إظهار كيفية تشريعها وصلاحيتها لكل زمان ومكان هو دراستها دراسةً رائدها الإخلاص للدين والعلم، وقوامها البحث العلمي المثمر الذي يقوم على صحة النظر واستقامة التفكير وسعة الأفق، والذي لا تشوبه شوائبُ الأهواء والأعراض، ولا تتحكم في طرائقه عصبية المذاهب الفقهية أو الكلامية وتقديس الآراء، ولا يذهب بفائدته الجدلُ العقيم الذي لا نفع منه ولا جدوى، وإنما يكون غايتها التي تنتهي إليها هي المعرفة الواعية للحكم الشرعي عبر مدلولات هذه الأصول التشريعية ومقاصدها العامة والخاصة الكلية والجزئية وتطبيقها في الحياة العملية تطبيقًا حكيمًا يصلح به مصالح الناس وتتم مصالحهم الدنيوية والتي لا غنى عنها في إصلاح حياتهم الدينية والدنيوية صلاحًا تامًّا وكاملًا.
الضابط الثالث
مراعاة المفتي مبدأ شرعية الاجتهاد بشروطه الشرعية وقبوله في أدلة الأحكام الشرعية
إن التشريع الإسلامي بني على أساس الاجتهاد في فهم أصوله التشريعية واستنباط الأحكام العملية للحياة الإنسانية منها في كل زمان ومكان، ولذلك فقد طلب المشرع الإسلامي صاحب التشريع الإلهي من كل قادر على البحث والنظر في هذا التشريع بالاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها الشرعية التفصيلية والإجمالية على قدر حاجته من العلم والعمل، سواء كان ذلك الاجتهاد كليًّا أو في جميع مسائل الفقه، أم كان جزئيًّا؛ أي في بعض المسائل الفقهية، وفي كلتا الحالتين يجب أن يكون الاجتهاد قائمًا على التثبت من صحة الأدلة وكيفية الاستدلال بها ومراعاة خصائص اللغة العربية في أوضاعها اللغوية وأساليبها وأحوال الدلالة اللفظية وأنواعها والانتهاء في ذلك كله إلى الحد الذي يفيد الظن القوي بإحالة حكم الله تعالى في المسألة المبحوث عن حكمها، فإن الظن القوي يكفي في العمل بالأحكام العملية كما تقرَّر ذلك في أصول الفقه الإسلامي، وأن بناء التشريع الإسلامي في كل عصوره الشرعية على أساس النظر والاجتهاد الشرعي الصحيح بقواعده وضوابطه الشرعية، كما أنه من أهم عناصره التي جعلته مسايرًا لأطوار الحياة الإنسانية في بداوتها وحضارتها وصالحًا للتكيف به في كل زمان ومكان، كما كان توسعة من الله تعالى على عباده وتيسيرًا عليهم[[51]]، فقد يكون في بعض الأقوال الاجتهادية للمجتهدين في الأحكام الشرعية من الفقهاء المسلمين من التيسير على الناس في حل ما يعرض لهم من ضرورات الحياة ومشاكلها ما ليس في الأقوال الاجتهادية الأخرى؛ فكثيرًا ما تتفاوت هذه الأقوال في الشدة واليسر تبعًا لتفاوت القائلين بها في مناهج البحث والاجتهاد حسب أصولهم الاجتهادية التي بنوا عليها أحكامهم الفقهية والاجتهادية المخولة لهم من الشرع الإسلامي الحكيم بقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديثه الصحيح: ((من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر)).
الضابط الرابع
مراعاة المفتي أن التشريع الإسلامي دائمًا هو لمصالح العباد والبلاد في كل زمان ومكان حسب النوازل في الجهات الأربع
فقد راعى الإسلام أن تساير تشريعاتُه وأحكامُه دائمًا مصالحَ الناس جميعًا في كل زمان وكل مكان، باعتبار أن تشريعَه خاتمُ الشرائع السماوية، ولو نظرنا بفهم وعمق في أحكام التشريع الإسلامي لتبيَّن لنا وجْهُ هذه المصلحة حتى في الأمور التي تَعَبَّدَنَا الله بها وهي ما نعتبرها عباداتٍ خالصةً لله تعالى؛ فإذا ما تأملنا مثلًا الحكمة الشرعية من مشروعية الصلاة وتكليف العباد بها، فسوف نجدها في نص التكليف بها في قوله تعالى: {إِنَّ 0لصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ 0لۡفَحۡشَآءِ وَ0لۡمُنكَرِ}[[52]]. وإذا تأملنا الحكمة في مشروعية الصيام، فسوف نجدها في التقوى وتربية الضمير والإخلاص الذي أشارت إليه آية التكليف بها في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيۡكُمُ 0لصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى 0لَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ}[[53]]. وإذا تأملنا الحكمة من مشروعية الزكاة سوف نجدها في زيادة المال وتطهيره وتحصينه ضد الاعتداء عليه من جميع الوجوه غير المشروعة، وذلك مشار إليه في النص التشريعي للزكاة بقوله تعالى: {خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا}[[54]]. وإذا تأملنا الحكمة في مشروعية الحج، فسوف نجدها في تبادل المنافع بين الناس جميعًا في كل أنحاء العالم في جميع المجالات الإنسانية التجارية والسياسية والاجتماعية والمالية والثقافية والعلمية، وذلك مشار إليه في قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي 0لنَّاسِ بِ0لۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ 27 لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ 0سۡمَ 0للَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ 0لۡأَنۡعَٰمِ}[[55]].
وهذا في العبادات وهي حق الله الخالص، فما بالك بشأن أمور المعاملات أو التصرفات الاجتماعية التي تخص البشر ولا ينال الله من أعمالنا فيها شيء إلا طاعته في فعل أوامره واجتناب نواهيه؛ لأنه -سبحانه وتعالى- منزَّه عن جميع الصفات البشرية والنقائص التي عليها البشر، ولا شكَّ في كل ذي قلب ولب سليم أن تشريعات الله كلها والحكمة منها واضحة وضوح الشمس في وسط النهار، وهي أولًا وأخيرًا مراعى فيها مصلحة الإنسان بصفته الإنسانية وذاته الفردية أو الكلية والاجتماعية المحلية والعالمية، فالتشريعات الإسلامية دائمًا مع العباد في كل أمور الحياة توازن بين النفع والضرر، فما كان فيه ضرر تمنعه الشريعة وتنهى عنه وتحرمه، وما كان فيه مصلحة للإنسان تجيزه ولا تمنعه، ولذلك فإن التشريع الإسلامي يربط الحكم التشريعي المتعلق بالإنسان المكلف في الحياة بالمصلحة وجودًا وعدمًا، سواء كان ذلك يخص أمور الدين أو أمور الدنيا.
فحيثما وجدت المصلحة وجد الحكم الشرعي بالإباحة أو المنع، وإن كان ذلك يخفى علينا في بعض التشريعات كما في تحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وما في دائرة هذا، حيث يترتب على هذا المنع مصلحة شرعية، وهي إبقاء حبل المودة موصولًا بين الأرحام، وهي أولًا وأخيرًا تعود على العباد، ومن هنا غلب جانب المصلحة للعباد الذي هو ثابت دائمًا ولا غنى عنه للبشر في كل زمان وفي كل مكان، فكان هذا الحكم التشريعي بحرمة الزواج مع الجمع بين النساء على الصورة المشار إليها بالنسبة للمرأة وعمتها وما في حكمها حالات خاصة مع بقية المحرمات من النساء، وما عداه فهو حل بشروطه الشرعية.
ولكون الحكم الشرعي مع أفعال العباد يدور مع المصلحة وجودًا وعدمًا، فإن الحكم قد يتغير تبعًا لذلك؛ ومثال ذلك المؤلفة قلوبهم في الصدقات الواجبة وهي الزكاة، وهم الذين فرض لهم سهم في الزكاة المفروضة على المسلمين بقوله تعالى: {إِنَّمَا 0لصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَ0لۡمَسَٰكِينِ وَ0لۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَ0لۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ}[[56]]. فقد اقتضت المصلحة الشرعية إيقافَ هذا السهم الخاص بالمؤلفة قلوبهم ومنعه عنهم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في زمن خلافته، بعد أن تبين له أن علة الإعطاء الخاصة بهذا السهم قد زالت، وأن المصلحة للمسلمين في منع هذا السهم عن المؤلفة قلوبهم وإعطائه لمصارفه الشرعية من المسلمين؛ وذلك لزوال علة الحكم بالإعطاء والواردة في الآية، وقد أجمع الصحابة على صحَّة حكم عمر بعد استشارتهم وموافقته في الحكم، ولهذا فقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هذا السهم ولم يعطه لغير المسلمين المؤلفة قلوبهم اجتهادًا منه في أن المصلحة في إعطائه قد زالت بعد أن قويت شوكة المسلمين وحماية أنفسهم بأنفسهم، وأصبحوا في غير حاجة إلى حماية من كانوا يأخذون سهم المؤلفة قلوبهم بهذا السبب من غير المسلمين.
ولا يعد هذا الفعل من سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- نسخًا للحكم الشرعي؛ لأنه لا نسخ للأحكام الشرعية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبناءً على ذلك فإن الأمر لو تغير تبعه حكم يلائمه شرعًا في أي عصر لاحق لعصر الخليفة عمر رضي الله عنه.
والنسخ وإن كان قد انتهى بانتهاء الوحي، فإن الشارع علَّل الأحكام الشرعية للعباد بعللٍ ظاهرةٍ أو خفية ليرشدنا سبحانه وتعالى إلى أن الحكم يتبع علته ويتغير بتغييرها في الكثير الغالب، وخاصة في مسائل العقود والمعاملات التي كثيرًا ما تتأثر باختلاف المكان وتغير الحال والزمان، فإذا تضاربت المصالح لوحظ تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ومن أجل هذا لم تتناول النصوص الشرعية في الإسلام أحكام المعاملات التي تقع بين الناس بالتفصيل، وإنما دلَّت عليه بوجه عام حتى يكون ولاة الأمور في سعة من أخذ الأحكام منها في دائرة ما يحقق الصالح العام للإسلام والمسلمين والمجتمع الذين يعيشون فيه بما لا يتعارض مع نص قطعي الثبوت أو الدلالة مع كتاب أو سنة[[57]].
الضابط الخامس
مراعاة المفتي مشروعية العمل في فقه الواقع عند الاجتهاد بدليل المصالح المرسلة
من الأدلة الشرعية المعول عليها في البحث والدراسة الفقهية الشرعية في الأمور الحادثة والخاصة بالمعاملات والحياة المعيشية بين الناس والتي لم يرد بشأنها نص خاص بالإثبات أو النفي دليلُ المصالح المرسلة، وتعرف هذه المصلحة المرسلة بأنها كل مصلحة لم يرد بشأنها دليل معين في كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس يمنع العمل بها، مع مراعاة أن تكون المصلحة حقيقيةً أو عامةً، وبها يتحقق جلب مصلحة أو دفع مضرة، مثال ذلك تطعيم الأطفال وتحصينهم ضد الأمراض الوبائية الخطيرة التي تهدد حياتهم، وتطعيم القادمين للبلاد أو الخارجين منها ضدَّ الأمراض الوبائية التي يخشى الإصابة منها، وهذا أمر لم يرد بشأنه دليل معين في الشرع يدل على اعتباره أو إلغائه وتركه، لكن لو أوجبناه على جميع أولياء الأمور وعلى الناس في الحالات التي تقتضي ذلك، لكان حكمًا شرعيًّا صحيحًا يجب العمل والالتزام به؛ لأن في ذلك دفعَ ضررٍ عامٍّ، وهو خطر انتشار المرض الوبائي الذي يهدِّد الناس جميعًا في حياتهم وصحتهم ومعاشهم، وهذا لا تعارضه الشريعةُ الإسلاميةُ التي أمرت بالمحافظة على نفوس الناس وحياتهم ومعاشهم، بل دعت إليه واعتبرته الشريعة في بناء كل أحكامها التشريعية الخاصة بالعباد؛ لأن الشريعة الإسلامية ما جاءت إلا لتحقيق مصالح العباد والبلاد ودفع المفاسد والضرر عنهم في كل حال، ولا تتحقق هذه الحكمة بالوقوف في بناء الأحكام الشرعية عند المصالح التي نص الشارع على اعتبارها بخصوصها فقط وعدم تجاوزها إلى غيرها مما سكت عنه الشارع، بل أباح التجاوز إلى غيرها من المصالح المرسلة التي تتعلق بأفعال العباد التي لا نص فيها؛ لأن مصالح الناس ليس لها حدٌّ يقف عنده لتطورها وتجددها غالبًا حسب الزمان والمكان بين البشر والعباد والبلاد، ولأن الاقتصار في بناء الأحكام الشرعية بين العباد فيما ورد بشأنه النص الشرعي يؤدى إلى إهدار كثير من مصالح الناس وإلحاق الضرر بهم وإيقاعهم في العنت والمشقة، وذلك مرفوع عن الناس شرعًا بكثير من النصوص الشرعية قطعية الثبوت الدلالة، ومنها قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي 0لدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ}[[58]]، وقوله تعالى: { يُرِيدُ 0للَّهُ بِكُمُ 0لۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ 0لۡعُسۡرَ }[[59]]، وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ 0للَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا}[[60]]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)).
فالضرر والضرار منهي عنه، والحرج مرفوع عن العباد شرعًا، وأحكام الشريعة كلها مبنيةٌ في أحكامها على التيسير بالعباد ورفع الحرج عنهم وتحقيق كل ما فيه مصلحة لهم، وهذا مشروع ومأمور به في كل حال بين العباد في كل زمان وفي كل مكان، والعمل بمقتضى المصلحة المرسلة مشروع في كل حال مع مراعاه ضوابطها الشرعية وألا يتوسع فيها بما يتعارض مع حدود ما شرعه الله بنصوص قطعية الدلالة والثبوت؛ حتى لا يكون العمل بالمصلحة المرسلة ذريعةً إلى الفساد بين العباد والخروج عن أحكام الشريعة الإسلامية وأهدافها العامة الرئيسية، وهذا مرفوض التفكير فيه أو العمل به بالإجماع[[61]].
وإنه وإن كان المشهور أن الإمام مالكًا -رضي الله عنه- هو الذي أخذ بهذه المصالح المرسلة وعمل بها في مجال الأحكام الشرعية العملية، إلا أن الواقع العملي والأقرب إلى الفهم أن جميع الفقهاء والمجتهدين في الشريعة الإسلامية لا يمانعون بالعمل والأخذ بها وإن كان تحت مسمى آخر عندهم في أدلة الأحكام الشرعية النصية والاجتهادية قطعية الثبوت أو الدلالة أو الظنية في بناء الأحكام الشرعية عليها حسب قواعدهم الشرعية وأصولهم التشريعية في أدلة الأحكام الشرعية.
هذا، والحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
دكتور/ نصر فريد محمد واصل
عضو هيئة كبار العلماء
مفتي الديار المصرية الأسبق
التوصيات
في بيان أزمة الفتوى الفقهية المعاصرة
أسبابها ووسائل علاجها
أولًا: الأسباب:
* الدعاة الجدد ورجال الوعظ والإرشاد الديني الذين يتعرضون للإفتاء في وسائل الإعلام المختلفة وبخاصة الفضائيات وهم غير مؤهلين لها ولا متخصصين فيها من الناحية الشرعية وليسوا من أهل الذكر فيها.
* لجوء العامة من الناس وبعض الخاصة منهم في طلب الفتوى إلى من هم خارج المؤسسات الرسمية للإفتاء في الدولة؛ لاعتقادهم خطأً أنهم علماءُ السلاطين والحكام، وأن فتاواهم الدينية تخضع لإرادة الحكام والسلاطين في القضايا السياسية والإدارية، كما في إعلان الرؤية الشرعية لبداية الشهور القمرية وبخاصة في المناسبات الدينية.
* الخلط في المفاهيم عند الناس بين الداعية والفقيه والواعظ والمفتي.
* تعارض الفتوى في الظاهر من أهل الاختصاص الفقهي والشرعي في وسائل الإعلام بين الناس بدون بيان أسباب هذا التعارض وهذا الخلاف، مما يوقع الناس في حرج والظن السيئ بأهل الذكر الشرعي واللجوء إلى من هم غير أهل للفتوى في الأحكام الشرعية وهم كثير وللأسف في كل بلاد الإسلام والمسلمين.
* التعصب مع البعض في الإفتاء على مذهب واحد ومحاولة إضعاف المخالفة له في الرأي بدون سند شرعي صحيح، وهذا ظاهر وكثير في بعض المسائل الخلافية كالنقاب واللحية وتقصير الثوب وغير ذلك من الفروع الفقهية التي يدور الحكم فيها بين الواجب والمندوب حسب الاجتهاد في فهم الدليل عند المجتهدين فيه من الفقهاء المجتهدين في الأحكام الشرعية.
ثانيًا: العلاج:
* عدم الاعتماد في طلب الفتوى على الدعاة الجدد في الفضائيات غير المؤهلين لها بطريق شرعي ورسمي.
* عدم الاعتماد في طلب الفتوى على سماع شريط لمتحدث يتعرض فيه للإفتاء الديني والشرعي.
* عدم الاعتماد في طلب الفتوى على حضور درس ديني أو فقهي عام؛ لأن الفتوى تختلف باختلاف الأشخاص والزمان والمكان، وبعدم مراعاة ذلك تكون الفتوى على غير وجهها الصحيح شرعًا.
* عدم الاعتماد في طلب الفتوى لغير المتخصص على القراءة الشخصية والفردية من الكتب الفقهية أو الدينية؛ لأن ذلك يوقع غير المتخصص في معرفة الحكم الشرعي على غير وجهه الصحيح في الغالب؛ لأن الفتوى تختلف باختلاف الأشخاص والزمان والمكان، ولا يعرف ذلك إلا أهل الذكر والاختصاص في إصدار الأحكام الشرعية؛ لأن المفتي في إصدار فتواه موقِّع عن رب العالمين.
* عدم نقل الفتوى عن الغير بدون سماع ومشافهة بين المفتي والمستفتي؛ لأن هذا غالبًا ما يؤدي إلى الخطأ أو التدليس في النقل أو الحكم الشرعي، وهذا لا يجوز ولا يصح في مجال الأحكام الشرعية وإصدار الفتوى بشأنها.
* ضرورة إصدار تشريع في الدول الإسلامية بتجريم من يتصدى للفتوى بدون تصريح وهو غير مؤهل لها.
وهذا، والله أعلى وأعلم
أ.د./ نصر فريد محمد واصل
عضو هيئة كبار العلماء
مفتي الديار المصرية الأسبق
[1] مختار الصحاح مادة: فتي.
[2] القاموس الفقهي لسعد أبو حبيب، ص281.
[3] لمزيد من التفصيل يراجع مباحث: القضاء والدعوى والبينات في المذاهب الفقهية عند الفقهاء، وللباحث: السلطة القضائية ووسائل الإثبات الشرعية.
[4] تفسير القرطبي (4/ 304).
[5] آداب الفتوى والمستفتي للنووي في مقدمة كتابه المجموع شرح المهذب.
[6] تفسير القرطبي (4/ 304).
[7] سنن الدارمي (1/ 69).
[8] سير أعلام النبلاء (12/ 66).
[9] لمزيد من الإيضاح والتفصيل يراجع: إعلام الموقعين لابن القيم، والموافقات للشاطبي، والفتاوى الإسلامية للباحث ولدار الإفتاء المصرية، والفقيه والمتفقه للبغدادي، والاعتصام بالكتاب والسنة للشاطبي، والأحكام للآمدي، والأشباه والنظائر للسيوطي.
[10] مقدمة المجموع للنووي.
[11] إعلام الموقعين لابن القيم (4/ 259 وما بعدها).
[12] المرجع السابق بتصرف.
[13] آداب الفتوى والمفتي للنووي (1/ 14)، وإعلام الموقعين لابن القيم (4/ 199).
[14] رواه أحمد في المسند (2/ 321)، والحاكم (1/ 129).
[15] رواه البخاري.
[16] رواه عبد الرزاق في المصنف 867، والدار قطني (1/ 191)، وابن حبان في صحيحه وصححه (4/ 13)، والحاكم في المستدرك (1/ 138).
[17] الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 349).
[18] جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1/ 388).
[19] آداب الفتوى للنووي من مقدمة المجموع شرح المذهب.
[20] المرجع السابق.
[21] المرجع السابق.
[22] المرجع السابق.
[23] المرجع السابق.
[24] المرجع السابق.
[25] معالم السنن (1/ 81).
[26] المرجع السابق بتصرف.
[27] نيل الأوطار (1/ 21).
[28] مدارج السالكين لابن القيم 305 وما بعدها.
[29] المرجع السابق.
[30] المرجع السابق.
[31] أداب الفتوى لابن الصلاح 94 وما بعدها، المجموع للنووي (1/ 82)، وإعلام الموقعين لابن القيم (4/ 177).
[32] أدب الفتوى لابن الصلاح 109 وما بعدها.
[33] إعلام الموقعين (4/ 178) وما بعدها.
[34] المرجع السابق.
[35] المرجع السابق.
[36] أدب الفتوى لابن الصلاح 96 وما بعدها.
[37] الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 188)، وما بعدها.
[38] يراجع الفتاوى الإسلامية عند الفقهاء في مكانها وما صدر عن دار الإفتاء المصرية وغيرها في الدول العربية والإسلامية، وللباحث: الفتاوى الإسلامية.
[39] الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (5/ 3) وما بعدها.
[40] إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 462)، وما بعدها، وإعلام الموقعين (3/ 14، 37)، والفروق للقرافي (1/ 171).
[41] آداب الفتوى للنووي مقدمة المجموع وشرح المهذب.
[42] المجموع للنووي (1/ 79)، وما بعدها.
[43] أدب الفتوى لابن الصلاح 94 وما بعدها، والمرجع السابق، وإعلام الموقعين لابن القيم (4/ 177).
[44] إعلام الموقعين (4/ 227).
[45] أدب المفتي ص 101.
[46] إعلام الموقعين (4/ 17)، وصفة الفتوى لابن حمدان 6.
[47] الفروع لابن مفلح بتصرف (10/ 425)، المجموع شرح المهذب للنووي (1/ 74)، والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 154).
[48] صحيح مسلم.
[49] مسند أحمد.
[50] ابن ماجه من حديث ابن عباس وعبادة ابن الصامت، والبيهقي والدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري، وذكره السيوطي في الأشباه والنظائر 172، والقواعد الفقهية للباحث ص140.
[51] راجع للباحث قاعدة المعاملات التشريعية من القواعد الفقهية، ص191 وما بعدها.
[52] سورة العنكبوت: الآية 45.
[53] سورة البقرة: الآية 183.
[54] سورة التوبة: الآية 103.
[55] سورة الحج: الآيتان 27، 28.
[56] سورة التوبة: الآية 60.
[57] المدخل الوسيط لدراسة الشريعة والفقه والتشريع للباحث 45 وما بعدها، المكتبة التوفيقية، والقواعد الفقهية ص 191 وما بعدها الطبعة الثانية – الدار المصرية.
[58] سورة الحج الآية 78.
[59] سورة البقرة: الآية 185.
[60] سورة البقرة: الآية 286.
[61] راجع للباحث المدخل الوسيط 161 وما بعدها، والقواعد الفقهية ص118 وما بعدها، ص126 وما بعدها، ص191 وما بعدها، وأصول الفقه للخضري ص334.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.