لا يمكن أن نتذكر رحلة توفيق الحكيم المثيرة في عالم الكتابة دون أن يأتي في البال د حسين فوزي. ولا يمكن استرجاع ذكريات الدور السادس ل»الأهرام» والدور التنويري للصحيفة العريقة دون ذكر اسم العالم والمفكر والطبيب والأديب د حسين فوزي. وهو الذي رحل عن عالمنا يوم 20 أغسطس عام 1988 وهو في ال88 من عمره .. بعد عام من رحيل صديقه ورفيق دربه الفكري والفني منذ العشرينيات من القرن الماضي «توفيق الحكيم». وقد جاء رحيله قبل أسابيع من حصول «نجيب محفوظ» على جائزة نوبل للأداب لعام 1988. د حسين فوزي لمن اقترب منه وتحاور معه كان الانسان المثقف والمفكر الفنان .. كان من يتحدث بإعجاب وانبهار عن الحضارة المصرية وأيضا عن الحضارة الغربية. يتحدث ويكتب ويحلل و»يفصص» كل التفاصيل بلغة عربية جميلة ومبهرة وممتعة. كتابه المتميز «سندباد مصري» يظل تحفة فنية أدبية تاريخية لا يجب أن تفوتك قراءته.. وإعادة قراءته. والكتاب «سندباد مصري» جولات في رحاب التاريخ» أنتهى د حسين فوزي من كتابته عام 1959. واهداء الكتاب: إلى صديقي الفنان والكاتب الكبير توفيق الحكيم. وجولات الكتاب والكاتب مقسمة الى ثلاثة أقسام بهذه العناوين: «الظلام» و»الخيط الأبيض والخيط الأسود» و»الضياء». وكما كتب في مقدمه الكتاب: «كتابي صور من ملحمة هذا الشعب الذي أفخر بأنني أحد من آحاده.» ويقول أيضا «.. لست مؤرخا، لا بالفكر ولا بالمهنة، وإن كنت غير مجرد تماما من الاحساس بالتاريخ» ويذكر «.. كتبته في بحبوحة الأدب والفن: حرية في الفكر، وتحرر في الأسلوب، وتصرف في نقل النصوص المصرية القديمة..». ولا شك أن جولات د حسين فوزي في رحاب التاريخ وأيضا الموسيقى والفنون في العالم الغربي أخذتنا الى آفاق جديدة لم نراها من قبل. اقترابي الحقيقي من عالم د حسين فوزي كان في صباح يوم من أيام أبريل 1981 في مكتب «توفيق الحكيم» بالأهرام. وذلك بعد أن قرأ ما كتبته آنذاك عن «جبران خليل جبران» في مجلة «صباح الخير» وأنا جالس أمامه أتأمله ودخان غليونه يعبق المكان. وتوالت لقاءات وحوارات امتدت على مدى أسابيع زرت خلالها شقته الكائنة بعمارة مجاورة لحديقة الحيوان بالجيزة. خلال الزيارة أهداني كتابه «حديث السندباد القديم» واستمعنا معا لبرنامجه الأسبوعي الشهير والمميز عن الموسيقي الكلاسيكية. وكانت الحلقة عن موسيقى «آرام خاتشادوريان». د حسين فوزي وهو يهديني الكتاب كتب: «الى أخي توماس جورجيسيان / ذكرى زيارته الكريمة وتآلف روحي.. حسين فوزي 27 مايو 1981» نعم هذا «التآلف الروحي» لمسته وعشته معه .. وأنا أستمع باهتمام لهذا العملاق الفكري وهو لا يبدي مللا من الاستماع لما أقوله أو أحاول أن أقوله في حضرته.. بل كان يستمع أيضا بشكل عام الى آراء ومواقف واعتراضات وأحيانا اهانات الآخرين(مثلما كان الأمر مع كل من آثروا الاختلاف مع التفكير الجمعي و»الغوغائي»). الأمر الأهم في رأيي أن د حسين فوزي كان بجانب كونه مستمعا جيدا مستمتعا للغاية بهذه الأفكار والمواقف التي تواجهه وتتصادم معه لأنه كان مدركا ومتيقنا أن بهذا التصادم الفكري و»احتكاك العقول» .. تتبلور وتتوالد أفكار جديدة ويتم إيجاد مناخ فكري يتوالد فيه الابداع والابتكار. و د حسين فوزي كتب «عودتني حياتي العلمية في مصر والخارج أن لا أصدر حكما قبل أن أتبين الأمور بكل ملابساتها. وعرفت أن الحقيقة في مسائل الرأي بعيدة المنال، على العكس من بعض المسائل العلمية التي تقوم على قوانين الطبيعة، كالبديهيات الرياضية، أو المؤسسة على الفحص المباشر وتسجيل الملاحظات. أقول بعض المسائل العلمية، لأنه حتى العلم لا يقف عند حدود الوصف التشريحي، والتسجيل الموضوعي، وانما يتقدم بخطوات يعمل الاستقراء فيها عملا كبيرا، فتجرى على العلم أحكام سرمدية، لأن العقل يخطئ كما يصيب.» كان المثقف المفكر الذي يرى أن الثقافة ليست زينة نتزين بها بل معرفة وخبرة انسانية تفيدنا وتعيننا في مواجهة تحديات الحاضر. الثقافة ليست تراث نحفظه ونكرر ترديده كأننا بهذه الحركات نحمي هويتنا ونحافظ على ثقافتنا.هكذا كان د حسين فوزي .. مؤمنا بالثقافة المصرية بمعناها الشامل والمتكامل والراقي والمتحضر والمتذوق وأيضا بدورها الحاضن للثقافات الأخري وأبنائها. ويذكر دائما أن الاحتفاظ بالقديم ليس هو المشكلة بل التوقف عنده فقط أو فلنقل التمسك أو التزمت بالوقوف عنده وليس الأخذ به ومن ثم التحرك الى الأمام. بما أن «السباحة ضد التيار» تعد الرياضة المفضلة لأغلب المفكرين والفنانين فلم يكن بالأمر الغريب أن نسمع من يقول عن د حسين فوزي انه «الخواجة» أو «داعية الثقافة الغربية». وقيل له أيضا عندما قرر أن يذهب في بعثة لباريس لدراسة الأحياء المائية «بقى تسيب الطب علشان تشتغل .. سماك!!» وتمر سنوات قبل أن أسمع من الصحفي الكبير لويس جريس حكايته مع د حسين فوزي كاشفا جانبا انسانيا آخرا من حياة الأخير عندما كان عميدا لكلية العلوم بجامعة الاسكندرية في بداية الأربعينيات من القرن الماضي. وقد صار مديرا للجامعة ذاتها عام 1945. الشاب لويس كان في بداية حياته الجامعية يحاول أن يتبين طريقه ويسير فيه فجاءت هذه المحطة بكلية العلوم. وقد تم ابلاغه في يوم ما بأنه هو ومعه باقي طلبة الدفعة الجديدة (وبالطبع كان عددهم قليلا في تلك الأيام) سيستقلبهم العميد بمنزله مساء أحد الأيام. وجاء هذا اليوم وحسب ما ذكره لويس جريس فإن العميد بعد أن رحب بالطلبة تحدث معهم عن طرق العلم والتعلم وبالطبع استمع اليهم.. ثم أكلوا لقمة معا ثم طلب منهم العميد الجلوس والانصات الى عزف موسيقي إذ قام العميد د حسين فوزي بالعزف على الكمان بمصاحبة زوجته على البيانو. صديق عمره «توفيق الحكيم» قال عن «حسين فوزي» وهو يحتفل بعيد ميلاده ال75 « رجل حمل طول حياته مصباح المعرفة ليضئ العقول والقلوب في هذا الوطن. وكان هذا هو هدفه الوحيد منذ شبابه. منذ اليوم الذي ترك فيه مهنة الطب وما كان يمكن أن تدر عليه من منافع مادية ليذهب الى بلاد النور يأتي منها بزيت يملأ به مصباحه».. «لم يترك قط شأنا من شئون المعرفة.فلم يشغله الفن عن العلم. فهو مازال حتى اليوم مرتبطا بكلية العلوم يحمل نفسه بسرور أعباء امتحانات الطلبة كل عام وهو في هذه السن.كما لم يشغله العلم عن الأدب فهو يؤلف الكتب ويكتب المقالات بأسلوبه الممتع الرفيع.وهو لا يكل ولا يمل من التنقل هنا وهناك في أنحاء مصر والبلاد العربية والأجنبية يلقي بها المحاضرات وينفع بها الناس..انه منار على بحر الانسانية يلقي الضوء في كل اتجاه ..» أن يكون منارا .. ويلقي الضوء في كل اتجاه هذا هو د حسين فوزي