تزامنا مع احتفالات عيد القيامة، البابا تواضروس يترأس قداس خميس العهد    بالأسماء، وزير الداخلية يأذن ل 21 مواطنا بالحصول على الجنسيات الأجنبية    «بحر البقر».. أكبر محطة بالعالم لمعالجة الصرف الزراعى بسيناء    رئيس الوزراء يُهنئ البابا تواضروس الثاني بعيد القيامة المجيد    المشاط: استمرار التنسيق بين الجهات الوطنية والاتحاد الأوروبي لدفع جهود الإصلاح الاقتصادي    «الإسكان»: جاري تنفيذ 64 برجاً سكنياً و310 فيلات بمشروع «صواري»    رئيس الوزراء يبحث مع شركات كوريا الجنوبية سبل تعزيز استثماراتها في مصر    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الخميس    «الأهلي للصرافة» تجذب حصيلة 6.9 مليار جنيه خلال شهر أبريل    وزير التعليم العالي يستقبل مدير المجلس الثقافي البريطاني لبحث آليات التعاون المُشترك    شيخ الأزهر ينعي الشيخ طحنون بن محمد آل نهيان    جيش الاحتلال يقصف مسجد القسام في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة    سفير روسي: اتهامات أمريكا لنا باستخدام أسلحة كيميائية «بغيضة»    غضب الله.. البحر الميت يبتلع عشرات المستوطنين أثناء احتفالهم على الشاطئ (فيديو)    الدفاع الروسية تعلن إحباط هجوم جوي أوكراني وتدمير 12 طائرة مسيرة كانت تستهدف مناطق في العمق الروسي    تفاصيل جلسة جوميز مع لاعبي الزمالك قبل مواجهة البنك الأهلي    بايرن ميونخ يكشف حقيقة اتصالات ريال مدريد لضم ديفيز    تفاصيل مفاوضات الأهلي مع خادم دياو بديل معلول    صباحك أوروبي.. حقيقة عودة كلوب لدورتموند.. بقاء تين هاج.. ودور إبراهيموفيتش    حالة الطقس اليوم الخميس.. أجواء معتدلة على أغلب الأنحاء    تفاصيل مصرع سيدة ونجاة زوجها في حريق شقة بحلوان    تحرير 11 محضرًا تموينيًا لأصحاب المحال التجارية والمخابز المخالفة ببلطيم    العثور على جثتي أب ونجله في ظروف غامضة بقنا    مصرع طالب صدمته سيارة مسرعه أثناء عودته من الامتحان ببورسعيد    أخصائية تربية تقدم روشتة لتقويم سلوك الطفل (فيديو)    الفنان ياسر ماهر ينعى المخرج عصام الشماع: كان أستاذي وابني الموهوب    هل توجد لعنة الفراعنة داخل مقابر المصريين القدماء؟.. عالم أثري يفجر مفاجأة    تامر حسني يدعم بسمة بوسيل قبل طرح أغنيتها الأولى: كل النجاح ليكِ يا رب    بعد أزمة أسترازينيكا.. مجدي بدران ل«أهل مصر»: اللقاحات أنقذت العالم.. وكل دواء له مضاعفات    رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال أبريل 2024    ملخص عمليات حزب الله ضد الجيش الإسرائيلي يوم الأربعاء    حملة علاج الادمان: 20 الف تقدموا للعلاج بعد الاعلان    هل يستجيب الله دعاء العاصي؟ أمين الإفتاء يجيب    تحديد أول الراحلين عن صفوف برشلونة    ماذا يستفيد جيبك ومستوى معيشتك من مبادرة «ابدأ»؟ توطين الصناعات وتخفيض فاتورة الاستيراد بالعملة الصعبة 50% وفرص عمل لملايين    مشروع انتاج خبز أبيض صحي بتمويل حكومي بريطاني    أوستن وجالانت يناقشان صفقة تبادل الأسرى والرهائن وجهود المساعدات الإنسانية ورفح    تعرف على أحداث الحلقتين الرابعة والخامسة من «البيت بيتي 2»    الصحة: مصر أول دولة في العالم تقضي على فيروس سي.. ونفذنا 1024 مشروعا منذ 2014    خبير تحكيمي يكشف مدى صحة ركلة جزاء الإسماعيلي أمام الأهلي    تأهل الهلال والنصر يصنع حدثًا فريدًا في السوبر السعودي    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على حليمة بولند وترحيلها للسجن    متى تصبح العمليات العسكرية جرائم حرب؟.. خبير قانوني يجيب    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    لاعب الزمالك السابق: إمام عاشور يشبه حازم إمام ويستطيع أن يصبح الأفضل في إفريقيا    عاطل ينهي حياته شنقًا لمروره بأزمة نفسية في المنيرة الغربية    كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية؟    هاجر الشرنوبي تُحيي ذكرى ميلاد والدها وتوجه له رسالة مؤثرة.. ماذا قالت؟    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    يوسف الحسيني : الرئيس السيسي وضع سيناء على خريطة التنمية    برج الميزان .. حظك اليوم الخميس 2 مايو 2024 : تجاهل السلبيات    بعد أيام قليلة.. موعد إجازة شم النسيم لعام 2024 وأصل الاحتفال به    مفاجأة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم في مصر بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال    بقرار جمهوري.. تعيين الدكتورة نجلاء الأشرف عميدا لكلية التربية النوعية    أكاديمية الأزهر وكلية الدعوة بالقاهرة تخرجان دفعة جديدة من دورة "إعداد الداعية المعاصر"    النيابة تستعجل تحريات واقعة إشعال شخص النيران بنفسه بسبب الميراث في الإسكندرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نجوم الدور السادس بالأهرام
محمد سلماوي يتذكر الدور السادس..

متحف الخالدين الذي كان يضم أكبر الأسماء في عالم الفكر والأدب والفن
توفيق الحكيم يورط الكتاب والصحفيين في بيان ثم يفلت من عقاب السادات
الخصام الذي لم يدم بين الحكيم ود. حسين فوزي إلا أياما معدودة

أكثر من أربعة عقود قضيتها بجريدة الأهرام متنقلا بين أقسامها المختلفة, من القسم الخارجي الي الديسك المركزي, ومن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية الي الاهرام ويكلي, ثم الي تأسيس ورئاسة تحرير الأهرام إبدو, لكن اهتمامي الدائم كان معلقا طوال الوقت ببرج الدور السادس الذي أمضيت الكثير من الساعات بين مكاتبه المختلفة, الي ان انتهي بي المقام في برج الدور التاسع أثناء سنوات عملي الأخيرة بالأهرام حين عينت كاتبا لبضع سنوات قبل أن تقطع فجأة إدارة الجريدة في ظل حكم الأخوان علاقتي بالأهرام بشكل نهائي.
لقد كان الدور السادس ببرج الأهرام هو متحف الخالدين كما كنا نسميه نحن المحررين الشباب في بداية عملنا بالجريدة, حيث كان يضم مكاتب أكبر الأسماء التي كنا نسمع عنها في الوسط الفكري والفني والثقافي في فترة الستينات, والذين تنوعت أجيالهم وتراوحت اتجاهاتهم فكان مجلسهم حين يلتقون بمكتب كبيرهم أبو المسرح العربي توفيق الحكيم, أشبه بالبرلمان الفكري الذي يمثل كل الألوان والأطياف السياسية والفكرية والاجتماعية.
كنت في عام1970 محررا صغيرا في القسم الخارجي ترك عمله كمعيد بقسم اللغة الانجليزية وآدابها بآداب القاهرة ليلتحق بالجريدة الكبري ذات السمعة الدولية, وكنت منشغلا في سنوات تكويني الفكري آنذاك بقضية الانتماء ويؤرقني شبح الانعزال داخل أسوار الجامعة, لكن لم يكن قد خطر ببالي قط أن أعمل بالصحافة, فقد كنت قد عدت لتوي من رحلتي الدراسية بجامعة أوكسفورد ببريطانيا لأكمل مشواري المهني أستاذا بالجامعة, ومع ذلك فبمجرد أن إختارني رئيس التحريرالأستاذ محمد حسنين هيكل للعمل بالأهرام انقلبت حساباتي ووجدت في ذلك فرصة لتحقيق مسعاي لتفادي خطر الانعزال وللانخراط في الواقع عن طريق العمل في الجريدة التي كانت في ذلك الوقت أحد أهم أدوات صنع ذلك الواقع.
وما إن دخلت ذلك المبني الأنيق بشارع الجلاء والذي كان قد افتتح عام1968 وكان يعتبر آنذاك ثاني أحدث مبني صحفي في العالم بعد مبني جريدة أساهي اليابانية, حتي أخذت أبحث عن طريقي الي الدور السادس حيث عشقي الأول الذي لم أبرأ منه بترك الجامعة, وهو الأدب والفكر والثقافة. في ذلك الوقت لم تكن تربطني أية علاقة ب شلة الخالدين إلا مع د. لويس عوض الذي عرفته أثناء وجودي في إنجلترا حين كان يأتي موفدا من الأهرام ليتابع الموسم المسرحي في لندن, فكنا نحضر العروض سويا ونتناقش فيها ثم يعود هو ليكتب عنها في ملحق الجمعة الأدبي الذي كان يشرف عليه قبل أن يختلف مع إدارة الأهرام في عهد الرئيس السادات وينتقل الي دار الهلال ثم يرحل عن عالمنا عام1990.
كان د. لويس عوض هو الوحيد من بين سكان الدور السادس الذي كان يهبط إلينا في الدور الرابع ويجلس معنا في كافتيريا المحررين التي تتصدرها لوحة بورتريه زيتية لكامل الشناوي. في هذه الكافتيريا أخذ مني لويس عوض نص مسرحية القاتل خارج السجن ليقرأه, وهو الذي حثني علي تقديمها علي المسرح وكتب لي المقدمة التي ساعدتني علي نشرها.
أما الدور السادس فلم أصعد اليه الا حين عرفت توفيق الحكيم, وربما كان من الطبيعي أن تكون أول علاقة لي بساكني هذا الدور هي تلك التي نشأت بيني وبين الحكيم, فقد كنت كاتبا مسرحيا مبتدئا يود ان يستفيد من نصائح وتوجيهات أبو المسرح العربي الذي كنت أعمل انا وهو في نفس المبني ولم يكن يفصلني عنه إلا بضع عشرات من درجات السلم الواصل ما بين صالة التحرير التي كنت أعمل بها بالدور الرابع والدور السادس الذي كان به مكتبه.
هكذا كان تفكير ذلك الشاب الذي كنته أنذاك, وكان ما دفعه اليه قبول توفيق الحكيم له وانفتاحه عليه رغم فارق السن وفارق المكانة بين الاثنين, وعلي مدي الشهور توطدت علاقتي بالحكيم فكان في بعض الأحيان يطلبني بمكتبه لأمر أو آخر, ولم يكن يفوتني وأنا في طريقي اليه أن أمر علي مكتب رئيس القسم الصديق الغالي محمد حقي الذي رحل عن عالمنا منذ بضعة شهور لأقول له بصيغة الاستئذان التي لا تخلو من بعض التفاخر أن توفيق الحكيم طلبني في مكتبه.
وفي احدي تلك المرات دخلت عليه المكتب فوجدت الدور السادس بأكمله بالغرفة بالإضافة لبعض الزائرين من خارج الأهرام. كان البعض جالسا والبعض الآخر واقفا لا يجد مكانا للجلوس, وعلي الفور قال لي الحكيم أمام جميع الحضور: انت مش كنت قاعد بتنتقد لي ديك النهار حالة اللا سلم واللا حرب إللي احنا فيها؟ خد بقي يا سيدي إقرأ الورقة دي وإذا عجبتك اكتب اسمك عليها.
وكانت تلك الورقة التي مد يده با لي هي البيان الشهير الذي كتبه الحكيم في مارس1973حول حالة الركود التي كانت تعيشها البلاد قبل حرب أكتوبر من ذلك العام والتي طالب فيها بضرورة تحريك القضية وإلا تجمدت الي الأبد, وكان توقيعي الذي وضعته عليها دون تردد هو الذي أدي بي وببقية من وقعوا البيان الي الفصل من العمل الصحفي والتحويل الي وظائف أخري, من الهيئة العامة للاستعلامات التي كانت من نصيبي الي محلات باتا للأحذية التي كانت من نصيب آخرين, فقد طال الأذي الجميع من ثروت أباظة الي أحمد حمروش, ومن نجيب محفوظ الي مكرم محمد أحمد, ومن لطفي الخولي الي أحمد بهاء الدين, وكان الوحيد الذي نجا من هذه المذبحة هو كاتب البيان نفسه توفيق الحكيم, فقد كان السادات مقتنعا بأن هيكل الذي كانت علاقته به قد بدأت تتوتر هو الذي أوقع الحكيم في هذا الفخ وأوعز اليه بكتابة البيان, أما نحن فقد كنا جميعا زبانية ضالعين في هذا الأمر الذي دعينا اليه ولم نبادر به.
وأذكر في مرة أخري من هذه المرات أن الحكيم قال لي بمجرد أن دخلت عليه المكتب انه طلبني لأن هناك امرا مهما في ذلك اليوم, فقد كان ينتظر بمكتبه مندوبا من اليونسكو جاء الي القاهرة ليتمم معه اتفاق لنشر ترجمة لإحدي مسرحياته, وقال لي أنه يريدني أن أدقق بلغتي الانجليزية في بنود الاتفاق الذي بعثت به اليه اليونسكو مسبقا عشان ما ينصبوش عليا علي حد قوله, فجلسنا سويا نقرأ العقد لأكتشف أولا أنه قرأه عدة مرات قبل أن آتي اليه, فكان أثناء قرائتي له يكمل لي بعض الجمل الواردة به, وثانيا أن إلمامه بالقانون الذي ترك دراسته في فرنسا ليتفرغ للمسرح كان يضاهي المام المتخصصين القانونيين, وثالثا أن فهمه للغة الانجليزية واصطلاحاتها القانونية لا يقل عن فهمه للفرنسية, وحين قلت له هذا قال لي معلش زيادة الخير خيرين, وشرح لي أنه في المسائل المالية يفضل التأني والتمحيص قبل التوقيع, خاصة أن ثقافته فرنسية علي حد قوله وليست انجليزية.
ثم وصل الضيف أخيرا فإذا به ضيفان, فارتسمت علي وجه توفيق الحكيم بعض علامات الضيق, وبعد الترحيب الواجب ظل يردد طوال الزيارة بابتسامة لم تخف خيبة أمله: لقد قالوا لي أن الآتي سيكون واحدا فقط!, وقد عرض عليهم الحكيم كوكاكولا وسفن آب اللتين كانتا أحد مفاخر عصر الانفتاح في السبعينات, ولعلمي بولع الأجانب بالقهوة المحلية التي يسمونها قهوة تركي أضفت علي ما قاله الحكيم أن لدينا أيضا قهوة تركي فاختارا علي الفور القهوة, وبعد أن انتهت الزيارة قال لي الحكيم مسرورا: انت لك عندي هدية كويسة وأخذ يحسب لي كيف وفرت عليه القهوة التي اقترحتها عليهم ماكان سيدفعه ثمنا للمياه الغازية التي كان ثمنها ثلاثة أضعاف القهوة, ثم فاجأني بالقول: انا حاعزمك علي الغدا, فلم أصدق نفسي وأجبته علي الفور: بكل سرور يا توفيق بك. اسمح لي فقط أن اتصل بهم في صالة التحرير لأخبرهم أنني سأتأخر قليلا. فقال لي منزعجا: لا, ما أقصدش النهاردة, قلت:أمال إمتي؟ فرد ملوحا بيده كأنه يبعد عنه الشر: أي يوم تاني, لكن الأيام مضت وتوفي الحكيم بعد ذلك بسنوات دون أن يأتي ذلك اليوم التاني الذي ذكره لي.
وإذا كنت قد شرفت برئاسة اتحاد كتاب مصر لمدة عشر سنوات بعد رحيل الحكيم الذي كان أول رئيس له عند بداية إنشائه عام1975, فالحقيقة أن توفيق الحكيم هو الذي أدخلني الاتحاد, فقد قال لي ذات مرة: انت إزاي مش عضو اتحاد كتاب لغاية دلوقت؟ ثم أضاف: أنا قلت لثروت عشان يخدوك معاهم, حضر بقي الكام كتاب إللي انت كتبتهم دول وإديهم له كدة عشان يشوفوا انك كاتب, ولم يكن الحكيم يعلم عندئذ أنه كان يضم الي الاتحاد رئيس قادم.
وبالفعل وجدت الاستاذ ثروت أباظة يتصل بي ويطلب مقابلتي ليقول أنه قرأ الكتب التي ارسلتها له وطلب مني ان أسلم بعض الأوراق الأخري المطلوبة للعضوية الي الزميل الصحفي بالقسم الأدبي بالجريدة المرحوم فتحي سلامة الذي سعدت بعد ذلك بسنوات أن كان عضوا بأول مجلس للاتحاد رأسته عام2005, وقد جمعت بيني وبين الأديب ثروت أباظة علاقة ود مشتركة رغم التباين السياسي فيما بيننا, وكان القاسم المشترك في هذه العلاقة هو توفيق الحكيم, فقد كان ثروت أباظة يري في ناصريا مغررا به كما كان يقول, بينما كان هو أحد قادة الحرب الصليبية التي انطلقت في عهد الرئيس السادات ضد الناصرية واليسار.
وقد كانت أول معرفة لي بأديبنا الأكبر نجيب محفوظ الذي ارتبطت به ارتباطا وثيقا دام أكثر من30 عاما في مكتب توفيق الحكيم, فهناك كنت اراه وأحييه ويحييني وقد نشارك في حديث عام يجري في مجلس الحكيم, ثم توطدت العلاقة بعد ذلك بواقعة اسردها هنا لأضيف بها دليلا جديدا علي الرعاية التي كان يوليها هذا الجيل من العمالقة للشباب من أمثالي ممن كانوا يخطون خطواتهم الأولي في عالم الأدب والابداع, ففي الوقت الذي جعلني الحكيم أضع أسمي في البيان الذي كتبه جنبا الي جنب مع أكبر أسماء الصحافة والأدب, كما فتح أمامي الطريق الي رئاسة اتحاد الكتاب, فقد فوجئت بنجيب محفوظ يقرأ لي متطوعا مسودة احدي مجموعاتي القصصية الأولي ويصححها لي(!!)
كانت لي عام1983 مجموعة قصصية علي وشك الصدور وبعث لي الناشر بروفاتها النهائية التي كانت منفذة بشكل أنيق داخل غلافها الملون, فقررت إهدائها لنجيب محفوظ وكتبت عليها انه يشرفني أن يكون هو أول من يقرأها قبل أن تصدر في كتاب سيكون بين أيدي الكثيرين, ثم وضعتها في مظروف مغلق وتركتها علي مكتبه, لكني فوجئت بعد ذلك بأيام بأنه كتب أسمي علي المظروف وأرسله الي مكتبي, فلم أفهم السبب, وخشيت أن أكون قد أغضبته بإهدائه كتابا لم تكتمل طباعته بعد, لكني حين فتحت المظروف وجدته قد وضع مع الكتاب ورقة مازلت أحتفظ بها كتب فيها أنه قرأ القصص جميعا وعنت له بعض الملاحظات فدونها بالقلم الرصاص حتي استطيع أن امحوها بالأستيكة اذا لم أقتنع بها.
وتأثرت لهذه الواقعة بالغ التأثر فأنا لم أكن أطمح الي أن يقرأ القصص أصلا, ناهيك هي تصحيحها, ثم أسرني هذا التواضع الجم الذي لا يعطي لصاحبه الحق في التدخل فيما كتبه غيره حتي لو كان كاتبا شابا فيكتب ملاحظاته بالرصاص حتي يستطيع الكاتب أن يمحوها بالأستيكة, لكن من ذا الذي تقوي يده علي أن تمحو ما كتبته يد محفوظ السحرية المقتدرة؟! فمن من الأدباء الكبار لديه الآن الوقت أو الاستعداد لمساعدة شباب الكتاب بهذا الشكل؟!
وأذكر أنني كنت ذات مرة في بداية تعرفي بنجيب محفوظ عنده في مكتبه حين طلبه توفيق الحكيم, فذهبنا اليه سويا لأسلم علي الحكيم قبل أن أعود الي مكتبي بالدور الرابع, وحين دخلنا علي الحكيم قال لمحفوظ: كويس انك موجود النهاردة ألا الأستاذ هيكل عايز يقعد معانا شوية, كان ذلك في بداية السبعينات وكنت مازلت أتعرف علي تقاليد هذا الصرح العريق الذي هو الأهرام, وتصورت أنهم سينزلون الي مكتب رئيس التحرير في الدور الرابع أو سيصعدون الي مكتب رئيس مجلس الإدارة في الدور ال2112,لكني اكتشفت أن رئيس التحرير ورئيس مجلس الإدارة هو الذي سينتقل اليهم اليهم حيث هم في قلعتهم ببرج الدور السادس ولن يستدعيهم الي مكتبه تأكيدا لاحترامه لهم وليس ممارسة لسلطته عليهم, وحين أبديت تلك الملاحظة لمحفوظ وانا اتركه عند الحكيم قال هو هيكل كدة, وما هي الا ثوان معدودة وكان المكتب قد امتلأ عن آخره ببقية أعضاء البرج الذين أذكر منهم د. حسين فوزي ود. بنت الشاطيء والفنان صلاح طاهر ويوسف جوهر وغيرهم, وقد لاحظت أن الحكيم بعد رد السلام علي د. حسين فوزي تجاهل حضوره تماما وأشاح بوجهه عنه بشكل لافت, وحين سألته بعدها بأيام إن كان قد فعل ذلك قاصدا قال علي الفور نعم, وشرح لي أن د. فوزي له شقة معفنة كدة في باريس وأنه وعد الحكيم أن يستضيفه بها, لكن حين اقترب موعد السفر وبدا الحكيم يرتب له أخذ د. حسين فوزي يتملص من وعده فاغتاظ الحكيم لذلك وقرر أن يخاصمه, لكن الخصام لم يدم طويلا حيث وجدتهما في الأسبوع التالي يتبادلان معا حديثا ضاحكا وكأن شيئا لم يكن.
ومن المصادفات الغريبة أن مكتب توفيق الحكيم الذي تركت فيه محفوظ يومها للاجتماع المنتظر مع هيكل ونزلت الي الدور الرابع هو ذاته المكتب الذي خصص للكاتب العالمي نجيب محفوظ بعد حصوله علي نوبل عام1988, وكان الحكيم قد توفي عام1987 وظل مكتبه مغلقا الي أن قررت ادارة الأهرام أن يكون لكاتب نوبل الكبير حتي يليق بمكانته الرفيعة وبزواره القادمين من مختلف دول العالم بدلا من مكتبه السابق الذي كان مشتركا مع آخرين, وخصصت له لأول مرة سكرتيرة خاصة هي الفاضلة كوثر البطراوي التي كانت في السابق سكرتيرة د. لويس عوض وكانت علي ثقافة عالية وتجيد اللغات.
وهنا يعطينا محفوظ درسا آخر في التواضع وكرم الأخلاق فيرفض طوال السنوات التي قضاها في هذا المكتب الجديد أن يجلس علي كرسي توفيق الحكيم وإنما استمر كالضيف يجلس علي نفس الأريكة الجلدية ذات اللون الأخضر الداكن الموجودة بالمكتب والتي كان يجلس عليها حين كان يذهب للحكيم في مكتبه, وهي ذات الأريكة التي جلس عليها ستوري آلين السكرتير الدائم للجنة نوبل حين صحبته الي مكتب محفوظ ليخطره رسميا بحصوله علي جائزة نوبل وليقدم له الدعوة الرسمية لاستلام الجائزة من يدي ملك السويد بالحفل الذي يقام سنويا في ستكهولم بهذه المناسبة.
لقد كان محفوظ يضع الحكيم في موقع أستاذه, وحين فاز بنوبل كان أول ما صرح به هو: كان أساتذتي أولي مني بها, وحين سألته عمن كان يقصدهم قال علي الفور: طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وعبد القادر المازني.
وقد لا يعرف البعض أن الحكيم هو الذي سعي للتعرف علي نجيب محفوظ, وقد روي لي ثروت أباظة أن الحكيم قال له ذات مرة أنه معجب بأعمال محفوظ التي يتابعها وأنه يريد أن يتعرف عليه, وكان ثروت أباظة هو الذي رتب اللقاء الأول بين الاثنين, وعن هذا اللقاء قال لي محفوظ أن الموعد كان في مقهي اعتاد الحكيم ارتياده أمام بنك مصر بوسط البلد, وروي لي أنه ذهب في الموعد المحدد فوجد الحكيم في انتظاره, وبمجرد أن جلس علي طاولته جاء النادل فطلب كل منهما فنجانا من القهوة, لكن الحكيم بادر فجأة بالقول: حأقولك أعزمك وتقولي لأ أنا إللي أعزمك, مش حاينفع, خلي كل واحد يدفع حسابه أحسن عشان ما نتخانقش.
وشاءت الأقدار أن تكون لي علاقات عائلية أيضا بالدور السادس وبكبير أعضائه وهو توفيق الحكيم وذلك حين تزوج إبنه الموسيقي النابغ إسماعيل الحكيم من شقيقتي الصغرة هيدي, وقد كان اسماعيل هو الذي أدخل الموسيقي الالكترونية في مصر حين بدأ يستخدمها في فرقته الموسيقية الشهيرة البلاك كوتس, لكنه رحل عن عالمنا وهو في بداية الثلاثينيات من عمره بينما عاش والده حتي قارب التسعين.
وقد جمعتني في الدور السادس علاقة قوية مع الفنان صلاح طاهر الذي تزاورت معه كثيرا وكان يدعونني الي مرسمه لمشاهدة أحدث إبداعاته الفنية خاصة في مرحلته الأخيرة التي ركز فيها علي ما يمكن أن يوصف بالتجريد التعبيري, كما جمعتني علاقه ود مع الروائي الهاديء يوسف جوهر, وكانت ابنته نادية صديقة لنا أنا وزوجتي, وأذكر انها التقت عندنا في البيت لأول مرة بزوجها فيما بعد السفير البريطاني القدير ديريك بلاملي الذي كان آنذاك دبلوماسيا شابا ملحقا بسفارة بلاده في القاهرة ثم عاد بعد ذلك بسنوات سفيرا فكان أول سفير للبلاط البريطاني في مصر زوجته مصرية.
ان ذكريات متحف الخالدين ببرج الدور السادس بالأهرام منذ انتقال الجريدة الي مبناها الحالي بشارع الجلاء قبل قرابة نصف قرن من الزمان, جديرة بأن يكتب فيها كتاب كامل, وكيف كانت شلة الخالدين هذه مركز إشعاع ثقافي وحضاري لشد ما نحتاجه اليوم, وكيف كانت مع ذلك قريبة من الأجيال الجديدة تأخذ بيدهم وهم في بداية الطريق, وهو ما نفتقده اليوم وتفتقر اليه الحياة الثقافية والفكرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.