فى هذه الحلقة الختامية من سلسلة المقالات التى خصصتها لفلاسفة الأندلس أود أن أطرح السؤال عما إذا كان لابن رشد تأثير باق فى الثقافة الأوروبية. فقد انقرض تلامذته اللاتينيون فى أواخر القرن السادس عشر. وفى القرن السابع عشر، أى بداية العصر الحديث، توارى الأستاذ عن دائرة الضوء، وسكتت عنه الأقلام وجفت الصحف إلا من إشارات سلبية لم تخرج عن وجهة النظر الرسمية التى كان القديس توماس الأكوينى قد قررها، وأدت إلى حصر ابن رشد فى نطاق نظرية وحدة العقل وما يترتب عليها من نتائج تتعارض مع المسيحية وتتهم بالإلحاد. ويبدو أن حصر ابن رشد على ذلك النحو أسهم فى كف الكلام عنه، أو التنصل منه إذا ذكر، بوصفه فيلسوفا ملحدا. ومعنى ذلك أن الحملة التى شنها عليه خصومه فى العصور الوسطى أفضت فيما يبدو إلى هزيمته فى أوروبا بصفة نهائية. فهل يعنى ذلك أن ابن رشد لم يبق له أثر فى الثقافة الأوروبية؟ ذلك ما توحى به الظواهر، وما يؤكده بعض المفكرين الأوروبيين وعلى رأسهم إرنست رينان. ففى رأى هؤلاء أن الفلسفة الإسلامية كانت صفحة دخيلة على كتاب الثقافة الأوروبية، وأن الصفحة طويت إلا ما كان من رواسبها. ومن الباحثين اليوم من يصف ظهور الفلسفة الإسلامية فى أوروبا بأنه كان «عدوى» انتقلت إليها أو «تلوثا» أصابها؛ فهكذا أترجم الكلمة الانجليزية المستخدمة فى هذا الصدد: «contamination». وهو قول باطل ينم عن عنصرية قاتلة. فمن الثابت تاريخيا أن أوروبا المسيحية أقبلت على الفلاسفة المسلمين عندما ترجمت أعمالهم، وتأثرت بهم بطرق ودرجات متفاوتة، ولم تنبذ منهم فى النهاية إلا ابن رشد، أى بعد قرون ثلاثة شهدت ظهور الرشديين اللاتينيين وصعود نجم أستاذهم العربى، كما شهدت الهجوم عليه وعلى أتباعه. وثلاثة قرون من الدراسة والتدريس والجدل والمد والجزر لا تمحى بسهولة. فنبذ ابن رشد كان يعنى عمليا السكوت عنه إلا على سبيل الإشارة السلبية أو التنصل منه، ولكنه لم يحل دون إلحاح الفيلسوف الاندلسى على الخواطر ولم يوقف هزات الصدمة التى أحدثها. لقد هزم ابن رشد فى الظاهر، لكنه اختفى لينشط سرا «تحت الأرض». وذلك ما أريد أن أثبته فى هذه المقالة. من حسن الحظ أن الاهتمام بابن رشد شهد نشاطا ملحوظا فى القرنين الماضى والحالى. فقد عقدت مقارنات بينه وبين فلاسفة محدثين مثل سبينوزا وكانط وهوسيرل. وأجريت دراسات لتحديد ما قد يكون له من تأثير بالمعنى الدقيق للكلمة على فلاسفة العصر الحديث. وكل ذلك مفيد لحفظ تراثه من النسيان. ولكن يعيب دراسات المقارنة أنها تدور عادة حول محور واحد، هو مفهوم وحدة العقل الذى ينسب لابن رشد وما يقابله من مفاهيم مشابهة لدى غيره. وحصر النقاش فى نطاق هذه القضية الجزئية ينطوى على تبسيط مخل وظلم فادح، وهو من رواسب الحملة التى شنت عليه منذ القرن الثالث عشر، ولا بد على أى حال أن يصل إلى طريق مسدود. ولننظر مثلا فى مقارنة عقدت بين ابن رشد وكانط (القرن الثامن عشر). إذ يروى أن هيردر تلميذ كانط اعترض على أستاذه لأن نظريته فى العقل الكلى تشبه نظرية ابن رشد فى وحدة العقل. فالعقل فى الحالتين يبدو كما لو كان كيانا قائما بذاته بمعزل عن الأفراد، وكأن هؤلاء ليس لهم عقول يمارسون بها التفكير ويتحملون المسئولية. وقد رد كانط على الاعتراض فنفى فكرة وجود عقل واحد للنوع البشرى ككل، ورأى أن ما يسمى بالنوع ليس سوى مفهوم عام لا وجود له إلا فى الأفراد، وأن الحديث عن النوع بوصفه شيئا موجودا فى الواقع كلام لا يفهم. ورفض أن يزج بفلسفته فى «المغامرة على دروب فلسفة ابن رشد» - على حد تعبيره. يرى كاتب هذه السطور أنه ينبغى الخروج من الدائرة الضيقة ومثيلاتها من دوائر المسائل الجزئية الناجمة عن شرح العلوم الأرسطية. فالفوائد التى تجنى من بحث هذه المسائل كل على حدة محدودة، والأسوأ من ذلك أن حصر النقاش فى أى منها يحجب المصدر الأساسى لجميع تلك المسائل، والسبب الحقيقى للأزمة التى نشبت بين ابن رشد وأوروبا المسيحية. وأعنى بذلك العلم الأرسطى الذى واجه به الفيلسوف الأندلسى أوروبا لأول مرة. فقد وفد إليها بشرح للفيلسوف اليونانى خلص به مذهبه من العناصر الدخيلة التى طمست طابعه العلمى، ووضعه فى صورته الصارمة مع ما يحمله من إشكالات تهدد مبادئ الإيمان. وصحيح أن ابن رشد حاول التوفيق بين الطرفين. غير أن محاولته تميزت بأنها ردت طرفى التوفيق إلى الحدود الأساسية الدنيا لكل منهما. فهناك العلوم الأرسطية مجردة من الزيادات والتعديلات وما يتمخض عن ذلك من نتائج تتعارض مع الدين من ناحية؛ وهناك مبادئ الإسلام الأساسية من ناحية أخرى. كان هناك إذن فصل قاطع بين العلم وبين الدين يليه عمل ابن رشد على مد الجسور بين الطرفين وإثبات التواؤم بينهما. إلا أن أوروبا المسيحية عندما نقلت إليها أعمال ابن رشد لم تر لسبب أو لآخر إلا العلم الأرسطى فى حدوده الصارمة المخالفة للدين، وغفلت عن عمل ابن رشد على إثبات التواؤم بين الطرفين أو لعلها أهملته لأنه كان فيما رأت يرجح كفة أرسطو. ومن ثم كانت الصدمة التى أحدثت تصدعا كبيرا فى الثقافة الأوروبية بعد فترة من بكارة الإيمان. نرى ذلك بوضوح فى ظهور الرشديين اللاتينيين الذين فضلوا طلب العلم لذاته بمعزل عن اللاهوت وسلطة الكنيسة، وساروا فى الاتجاه العلمى لفلسفة أرسطو وأخذوا بنتائجها رغم مساسها بأسس المسيحية. وكان هذا التصدع بداية لمزيد من الشقوق. فلم يكن ظهور الرشدية اللاتينية إلا موجة أولى من موجات الزلزال الذى أحدثه ابن رشد. وقد تنبهت السلطات الكنسية مبكرا إلى الخطر، وسارع القديس توماس الأكوينى إلى القيام بمحاولة ضخمة لرأب الصدع، فوضع توليفة جديدة للتوفيق بين الفلسفة (العقل، العلم) والإيمان بالمسيحية. وهى توليفة كانت بطبيعتها مضادة للتوليفة الرشدية ورد فعل عليها. فابن رشد حاول إثبات التواؤم بين الشريعة والعقل بناء على أن الشريعة فى باطنها عقلانية وعلمية. أما عالم اللاهوت المسيحى، فقد حاول احتواء الفلسفة فى إطار دينى مقدس، وجعل أدلتها العقلية توابع مستأنسة للتسليم دون برهان بما جاء فى الوحى. إلا أن التماسك الذى أعاده الأكوينى إلى البناء لم يصمد طويلا. وليس من السهل فى ظل الظروف المعرفية الراهنة تقصى مسار التيار الرشدى فى كل مساربه الخفية. ولكن يخيل إلى أن من المجدى بدء البحث بالثالوث التالى: ابن رشد، سبينوزا، كانط. والخيط الهادى هنا هو مشكلة العلاقة بين العلم والدين، ووجود قاسم مشترك بين الحلول التى قدمها ثلاثتهم، وهو تصور العلاقة المذكورة فى إطار تفرقة تعطى للعقل دورا أساسيا بمعنى أو بآخر. فهم جميعا ميزوا فى الدين بين نواة عقلية من الحقيقة وبين غلاف خارجى موجه إلى جميع فئات المتلقين على اختلاف قدراتهم. ففى البداية أقام ابن رشد تفرقة بين باطن عقلانى للشرع وبين ظاهر مؤلف من صور ومجازات ومناسب لمخاطبة الجمهور. وكانت تلك طريقته فى إثبات التواؤم بين الدين والعقل. واستجاب الفيلسوفان المحدثان لنفس المشكلة على نحو مشابه إلى حد ما للحل الرشدى. فسبينوزا يفرق بين نور الإيمان الفطرى بالقانون الإلهى وبين القوانين المفروضة من الخارج (انظر سبينوزا، رسالة فى اللاهوت والسياسة) ترجمة حسن حنفى، القاهرة، د.ت.، الفصل الرابع). وكانط يقيم تفرقة مماثلة بين لباب الدين وقشوره، أو بين الدين المجرد وبين كسائه التاريخى الذى يعرضه كسلسلة من الأحداث والمعجزات ومجموعة من الطقوس والشعائر (انظر كتاب عمانويل كانط، «الدين فى حدود مجرد العقل» ترجمة فتحى المسكينى، بيروت، 2012 ). وهناك بعض الشواهد التى تشير إلى أن سبينوزا تأثر بابن رشد، وشواهد أخرى تشير إلى أن كانط تأثر بسبينوزا. ولكن ينبغى توخى الحذر فى دراسات المقارنة التى تسعى إلى اكتشاف علاقات التأثر والتأثير بالمعنى الدقيق للكلمة، ولن يتحقق ذلك إلا بمراعاة أوجه الشبه وأوجه الاختلاف. وهناك حلقات ما زالت مفقودة فى تلك السلسلة الممتدة من ابن رشد إلى الفلاسفة المحدثين. ولكن ما قلت يكفى لتأكيد أن ابن رشد كان حافزا مبكرا وفعالا على ظهور الثورة العلمية الفلسفية فى القرن السابع عشر. وسبب ذلك أن ابن رشد عندما أطلق شيطان العلم بفضل شرحه الصارم على أرسطو فرض على الفلاسفة الأوروبيين العمل على بحث العلاقة بين العلم والإيمان وصياغتها بطريقة أو بأخرى. وكل ذلك يثبت زيف القول بأن الفلسفة الإسلامية كانت دخيلة على الثقافة الأوروبية. فأوروبا المسيحية وأوروبا العقلانية وأوروبا التنويرية استجابت - وكان لا بد أن تستجيب - لأزمة التعارض الظاهر بين العلم والإيمان. وبذلك اندمجت المشكلة الوافدة مع الفلسفة الإسلامية، ومع ابن رشد بصفة خاصة، فى صلب الفكر الأوروبى حتى يومنا هذا. فكلما تطور العلم، أعيد طرح الأسئلة الرشدية: أين مكان الدين من العلم؟ هل هما متوائمان؟ أين ينبغى ترسيم الحدود؟ وبهذا المعنى يمكن القول إن ابن رشد فيلسوف معاصر وسيظل كذلك طالما بقى هناك علم ودين. لمزيد من مقالات د.عبدالرشيد محمودى