أحسنت أوروبا المسيحية فى البداية استقبال الفلاسفة المسلمين عندما ترجمت أعمالهم إلى العبرية واللاتينية، وفى تلك الفترة السعيدة (النصف الأول من القرن الثالث عشر) أبدى بعض الأساتذة فى جامعة باريس استعدادا للتعلم من الفلاسفة الوافدين الذين أتوا إليهم بمؤلفات أرسطو وشروحهم عليها، واقتفوا أثرهم نحو الاستقلال المعرفي، وطلب العلم لذاته بمعزل عن هيمنة اللاهوت وسيطرة الكنيسة، ويبدو أن ابن رشد نعم عندئذ بفترة من الاحترام والتقدير، ونشأ له فى الجامعة أتباع هم الرشديون اللاتينيون، إلا أن السلطات الدينية سرعان ما تنبهت إلى خطر الاتجاه المتزايد نحو استقلال الفلسفة عن اللاهوت، فحظرت أعمال الفلاسفة جميعا بما فى ذلك أرسطو وشراحه، وفى فترة لاحقة أدان أسقف باريس فى سنة 1270 ثلاث عشرة مقالة نسبها إلى الرشديين، وتلاها بقائمة أخرى أشد طولا، وكان ذلك إيذانا بحدوث انقلاب ملحوظ فى موقف الثقافة الأوروبية المسيحية من ابن رشد، فبعد ان كان العداء موجها إلى الفلاسفة بصفة عامة بما فى ذلك أرسطو والفلاسفة المسلمون أصبح يتركز على فيلسوف قرطبة بصفة خاصة. نرى ذلك أيضا فى الكتاب الذى ألفه القديس توماس الأكوينى تحت عنوان وحدة العقل ضد الرشديين (1270) فقد انتقد آراء ابن رشد فى شرحه لأقوال أرسطو فى مسألة العقل، واتهمه بأنه أساء فهمها، بل وبأنه محرف لأقوال الفيلسوف اليوناني، وهو ما يعنى أن أرسطو أصبح فيلسوفا مقبولا لدى القديس، ولدى الكنيسة التى يمثلها شريطة أن يشرح من جديد بمعزل عن شارحه العربي، كما يعنى بالضرورة إقصاء هذا الأخير من دائرة الرأى الذى يعول عليه. فما هى أسباب ذلك الانقلاب؟ لماذا تحول العداء للفلسفة والفلاسفة بصفة عامة إلى مخاصمة لابن رشد دون غيره؟ ويزداد السؤال إلحاحا عندما نجد أنفسنا بإزاء ظاهرة فريدة فى تاريخ الثقافات، وهى أن أوروبا المسيحية تحتشد فى حرب شاملة على ذلك الفيلسوف فيما يشبه الهوس الجماعي، فكأن ابن رشد أصبح حلما سيئا، أو كابوسا مرعبا لايفلت منه الانسان إلا ليقع فى حبائله. القتل الرمزي لم يلق السؤال عن أسباب تلك الظاهرة الثقافية الفريدة اجابة تسكته حتى اليوم، فالآراء المتاحة فى هذا الصدد قاصرة تصف بعض أعراض الظاهرة ولاتتقصاها كما ينبغي، ولاتتوصل إلى الكشف عن أسبابها العميقة، والباحث الرائد فى هذا المجال هو المفكر الفرنسى إرنست رينان مؤلف كتاب ابن رشد والرشديين (1852) كان أول من التفت إلى الظاهرة المذكورة، وكانت له فى ذلك آراء ثاقبة لولا أنها لم تكن ثاقبة بما فيها الكفاية. التفت رينان إلى الشكوك التى سادت فى أوروبا طيلة القرن الثالث عشر بسبب الفلاسفة العرب، وذلك أن وفودهم أنهى فترة تطول أو تقصر من براءة الايمان أو بكارتة على حد تعبيره، صحيح فيما يقول إن تاريخ أوروبا المسيحية لم يخل من أشكال شتى من الشكوك، ولكن هذه الشكوك المبكرة لم تمس أسس الإيمان، وكان الأوروبيون خلال فترة البراءة لايدركون بوضوح أن المسيحية ليست هى الديانة الوحيدة، ثم تغير كل ذلك بعد وفود الفلاسفة المسلمين، وتبين للأوروبيين أن ثمة ديانات ثلاثا يعتد بها ومن بينها الإسلام بل وأصبحوا يلاحظون فيما يزعم رينان أن مفكرى الإسلام يضعون الأديان الثلاثة على قدم المساواة، ويعقدون مقارنات بينها، ويعددون محاسن ومساوئ كل منها. ولكن رينان لايوضح كيف أدى اطلاع الاوروبيين على المقارنات الإسلامية بين الديانات وشكوك المتشككين الإسلاميين إلى تورط الأوروبيين فى شكوك جذرية فى أسس الايمان، وهو ماحدث فى حالة الرشديين اللاتينيين الذين أدينوا لكفرهم،. وحدث أيضا فى ظهور خرافة تطعن فى صدق رسل التوحيد الثلاثة فى كتاب عنوانه الدجالون الثلاثة، وهو كتاب لم يره أحد من الناطقين باللاتينية، وقد لا يكون له وجود أصلا.. من المؤكد أن تشكيك الأوروبيين فى أسس الدين لم يكن من قبيل المحاكاة العمياء للمتشككيين المسلمين ولابد أن الأوروبيين كانت لديهم أسبابهم الخاصة، فما هى هذه الأسباب؟ لا نجد جوابا عن ذلك فى رينان. يضاف إلى ذلك أن أقواله فى هذا السياق ذات طابع عام ولا تفسر سبب اتخاذ ابن رشد مشجبا تعلق عليه المسئولية عن كل أشكال الشك والإلحاد فى ذلك العصر هذا رغم أن رينان يدرك أن الرشديين اللاتينيين لا يعبرون بالضروة عن مواقف ابن رشد، ويدرك أيضا أن هذا الأخير لا علاقة له بذلك الكتاب الوهمى الذى نسب اليه. وكان رينان ثاقب النظر عندما تنبه إلى اتساع نطاق الهوس الذى أصاب الثقافة الأوروبية بسبب الفيلسوف الأندلسي، ومن ذلك امتداد الحملة التى شنت عليه إلى قصائد الشعراء مثل دانتى وبترارك، وإلى أعمال الفن التشكيلى مثل اللوحات الجدارية العديدة التى رسمها المصورون الإيطاليون للإشادة بإفحام القديس توماس الأكوينى لابن رشد أو انتصاره عليه كما بدا لهم فى كتاب وحدة العقل ضد الرشديين. وفى هذه الصور يظهر القديس فى المستوى الأعلى من اللوحة جالسا أو واقفا بينما يوجد ابن رشد مطروحا على الأرض وكأنه سحق بالضربة القاضية. ويدل اشتداد تلك الحملة واتباع نطاقها على رغبة جامحة فى الانتقام من الفيلسوف العربي، وعلى شعور بالضعف وفقدان التوازن أمامه، وتذكر كثرة الصور المرسومة لابن رشد المهزوم بأعمال السحر الأسود عندما يصور الخصم على شكل دمية تطعن بالدبابيس حتى الموت، ومن أوضح الأمثلة على ذلك لوحة لفنان فقأ بسكينه عينى ابن رشد، والفتك بالخصم بهذه الطريقة الرمزية لا يمس الخصم بسوء وليس سوى حيلة بائسة تعبر عن عجز صاحبها. ومن الملاحظ بالمناسبة أن ابن رشد يظهر فى بعض تلك الصور متحديا كأنه لم يهزم رغم ما كيل له من ضربات، فلماذا اتخذت الحملة المشتدة على ابن رشد اللجوء إلى تلك الحيل السحرية اليائسة؟ وما هو سر قوة ابن رشد؟ لا توجد لدى رينان إجابات شافية عن هذه الأسئلة. مثير القلق. الأسئلة التى لم يستطع رينان أن يقدم عنها إجابات مفيدة فى القرن التاسع عشر مازالت قائمة بغير جواب حتى اليوم ولكن هناك كتابا صدر أخيرا فى باريس لأستاذ فى السوربون هو جان بايتست برينيه تحت عنوان «ابن رشد المقلق»، (باريس، 2015) والكتاب يوحى بداية من عنوانه بأنه يسد الفجوات التى تركها رينان، فالمؤلف يحاول أو يرجع عداء الثقافة الأوروبية المسيحية لابن رشد إلى أن هذا الأخير أثار قلقها وأيقظ فيها مخاوف وهواجس لا تطاق. وهو يسترعى الانتباه مع ذلك إلى صعود ابن رشد فى وجه الحملة التى شنت عليه، وهو ما تمثل فى إلحاح الرشدية على العقول الأوروبية حتى منتصف القرن السابع عشر، وذلك رغم الضربات الموجعة التى وجهت اليها منذ اللحظة الأولي. ويبدو إذن أننا نقترب من الإجابة عن الأسئلة التى لم يجب عنها رينان، لأن المؤلف يبدو للحظة كما لو كان بصدد عرض الأسئلة الملحة على التاريخ ليقول كلمته فيها. ولكن من المؤسف أن المؤلف يدير ظهره للتاريخ ويجرى بحثه بأكمله من وجهة نظر الثقافة الأوروبية المسيحية، أو «خصوم» ابن رشد كما يقول فهو يركز كما ركزت السلطات الكنسية على قضية واحدة من بين قضايا عديدة شملتها القائمتان اللتان أدانت فيهما آراء الرشدية. وأعنى بذلك قضية وحدة العقل التى خصص لها القديس توماس الأكوينى كتابه السالف الذكر. والمؤلف يتقصى مختلف أشكال القلق أو لنقل المخاوف والهواجس التى أثارتها آراء ابن رشد فى القضية المذكورة كما عبر عنها أولئك الخصوم أو كما كشف النقاب عنها بعد أن كانت مكبوتة عن طريق التحليل النفسى الفرويدي. وذلك أمر مؤسف لأن المؤلف يردد ما ادعاه الخصوم أو توهموه، وقد لا تكون تلك الادعاءات والأوهام إلا ستارا يخفى الأسباب الحقيقية لمعاداة ابن رشد وهذه الأسباب لا تكتشف بمساءلة هؤلاء الخصوم فقط بل تكتشف بعد الاستماع طبعا إلى شكاواهم وأوجاعهم ببحث موضوعى يستند إلى قراءة التاريخ. ولننظر إلى صلب الشكوي، لقد نسب إلى ابن رشد أنه رأى فى شرحه الطويل على كتاب النفس لأرسطو أن العقل واحد بالعدد »لكل أفراد البشر، فليس لهم من عقول سواه« وأنه مفارق »أى أنه يقع خارج نفوس الأفراد« وأنه أبدى »أى أنه هو كل ما يبقى خالدا بعد فنائهم« ويقول المؤلف ان اراء الفيلسوف العربى فى هذه القضية بدت لخصومه اللاتينيين بمثابة »الكارثة« »المروعة«، وذلك أن نقل التفكير إلى عقل كلى خارج نفوس الأفراد كان يعنى بالنسبة لهم دمار العقلانية الفردية، وإنكار التفكير على الانسان، وبطلان السياسة والأخلاق، وزوال الفارق بين الأخيار والأشرار. ويستعين المؤلف بفرويد لكى يشرح كيف أيقظت هذه الشناعات مخاوف وهواجس مألوفة ولكنها كانت مكبوتة لدى اؤلئك الخصوم، ومن الأمثلة على ذلك هاجس المس الشيطانى فهو يستشهد بقول خصم من خصوم الرشدية إن استقلال العقل عن النفس مماثل لما يحدث فى حالة الانسان الذى تلبسه الشيطان، فالشيطان عندئذ لايكون معه كلا واحدا، بل هو حاضر فيه وقادر على التحكم فى أعضائه وذلك بطبيعة الحال وضع لايطاق. وقس على ذلك سائر الكوابيس الأوروبية التى يعتقد المؤلف أنها كانت غافية إلى ان ايقظتها نظرية ابن رشد فى وحدة العقل، ولسنا فى حاجة إلى الخوض فى سائر الحالات، فهى تنويعات على فكرة واحدة، ويكفينا ذلك المثال الذى اخترناه لاستخلاص حكم شامل كما يلي، ليس هناك شك فى أن خصوم ابن رشد قالوا ماقالوا بشأن المخاوف والهواجس التى تسببت فيها نظرية ابن رشد فى قضية وحدة العقل، ومن المؤكد ان فكرة الشيطان الحت على العقول فى ذلك العصر بصدد الفيلسوف العربي. فقد شبه بالشيطان، وقيل إن الشيطان تلبسه أو إنه الشيطان ذاته، ولكن قراءة التاريخ تدل على أن النظرية المذكورة لم تكن هى السبب الحقيقى لمعاداة الفيلسوف العربي، كما ادعى اولئك الخصوم، فابن رشد لم يبتدع النظرية، بل كان على أقصى تقدير واحدا من بين كثير من المفكرين المسلمين وغير المسلمين الذى ناصروها عبر العصور قبله وبعده، ومعنى ذلك ان موقف ابن رشد فى الموضوع لم يكن إلا اجتهادا من بين اجتهادات عديدة ظهرت من أجل تفسير أقوال ارسطو فيما يسميه العقل الفعال وموقعه من نفوس الأفراد، هل يوجد داخلها كجزء منها أم انه مفارق لها؟ وهى أقوال مقتضبه، ومتفرقة بين أعمال مختلفة، وملتبسة، ومن ثم كانت ومازالت مثارا للجدل ولتفسيرات متعددة ومتضاربة، ومن بينها نظرية وحدة العقل، ومؤلف كتاب ابن رشد المقلق يذكر بعض مناصرى هذه النظرية، ويضاف إليهم كل من تبنى فكرة العقل الفعال المفارق، بهذا العقل وفقا لهم واحد بالعدد، ومنفصل عن النفس، ويبقى خالدا عند فناء الأفراد، ومن الخطأ بناء على ذلك أن توجه الاعتراضات على النظرية إلى ابن رشد دون غيره من مناصريها، أو ان يفسر العداء المسيحى له بآرائه فى هذه القضية. يضاف إلى ذلك ان نظرية وحدة العقل لاتؤدى بالضرورة إلى كارثة مروعة وكوابيس مدمرة كما يدعى خصوم ابن رشد وكما يدعى مؤلف كتاب ابن رشد المقلق وذلك ان النظرية لاتعنى بالضرورة فتح باب النفس على مصراعيه لتدخل الشيطان، فهناك وفقا لمناصرى نظرية العقل الفعال المفارقة قوة مضادة وغالبة تحول دون ذلك، وهم يرون بناء على بعض عبارات ارسطو نفسه ان هذا العقل ذو طبيعة إلهية خيرة، وان تأثيره على الأفراد أو اتصالهم به امر حميد تماما، بل هو ذروة السعادة التى يمكن ان تتاح لبشر. ومؤدى كل ذلك ان آراء ابن رشد فى قضية العقل ايا ما كانت هذه الأراء ليست هى مصدر القلق الذى اثاره الفيلسوف العربى فى الثقافة الأوروبية المسيحية ولا تفسر العداء الذى اختصته به، ويبدو ان تركيز علماء اللاهوت المسيحى على تلك القضية وعلى آراء ابن رشد فيها والتهويل من شأن النتائج التى تترتب عليها كان محاولة واعية أو غير واعية لصرف الانظار عن الأسباب الحقيقية للأزمة، فما هذه الأسباب وأين يكمن الشيطان؟ مكمن الشيطان أحد هذه الأسباب بسيط وواضح، وإن لم يلق اهتمام الباحثين، فمن المؤكد ان السلطات الكنسية تبين لها فى وقت ما أن ابن رشد المعادى لعلماء الكلام المسلمين يعاديها هى أيضا. فابن رشد كما نعلم رأى ان علماء الكلام لايحق لهم تأويل نص الشرع من أجل التوصل إلى حقيقة الباطنة، فهى حقيقته عقلية لايستطيع استبانتها إلا العلماء الراسخون فى العلم »أى الفلاسفة« ومثل هذا الموقف من علماء الكلام لابد أنه أثار سخط علماء اللاهوت عندما استوعبوه، لانهم هم المرادف المسيحى لأولئك العلماء المسلمين. وهناك اسباب اخرى أقل وضوحا لمعاداة علماء اللاهوت لابن رشد ويبدو أنهم اكتشفوها فى وقت مبكر نسبيا عندما قرأوا شرحه لأرسطو وادانوه، فقد كان هذا الشرح ينطوى فى نظرهم على كثير من القضايا المثيرة للمخاطر والمحاذير، وهى القضايا التى أحصوها فى قائمتين وادانوا آراء الرشديين بشأنها. ولم تكن نظرية وحدة العقل إلا مصدرا واحدا من بين مصادر عديدة للقلق، وإن ناسبهم أن يضعوها على رأس القائمة ويركزوا نيران غضبهم عليها، وإذا كان ثمة شيطان فإنه كامن فى شرح ابن رشد لأرسطو، وقد ادرك ذلك القديس توماس الأكوينى بوضوح، فهو لم يقتصر على رفض تلك النظرية التى خصها باهتمامه، بل رأى ان الحل هو رفض ذلك الشرح بأكمله واستبداله بشرح آخر، ولقد كان القديس متحفظا ولبقا فى التعبير عن ضرورة استبعاد الشرح والشارح، ولكن ما قاله كان ايماءة نافذة المفعول، فبعد الادانة الرسمية لاراء الرشديين، وبعد صدور تلك الايماءة عن القديس بدأت الحملة الثقافية الشاملة التى شنت على ابن رشد من أجل طرده تماما كما تطرد الشياطين، وبذلك اصبح الشارح الأكبر هو الشيطان الأكبر، فكيف يكون الشرح مجرد الشرح لآراء الغير مصدرا لكل ذلك الهوس؟ .. للحديث بقية لمزيد من مقالات د.عبدالرشيد محمودى