طغت على المعرفة الإنسانية منذ القرن موجة من إعلان (النهايات)، توالت تدريجيا لتنال من أنساق وسرديات كبرى من قبيل: الفلسفة والإيديولوجيا والحداثة وصولا إلى التاريخ والدين. وفى الحقيقة كان الدين، هو الأوفر حظا بين تلك الأنساق الكبرى، باعتباره التعبير الأمين عن (منطق الروح) القديم والمتراجع، الذى تمت هزيمته أمام (منطق العقل) الجديد والمتصاعد، ومن ثم فقد سبقت نهايته كل النهايات الأخرى. لقد تحدث مفكروا النصف الثانى من القرن التاسع عشر عن تقدم حتمى وشامل للتاريخ الإنسانى على نحو يدفعه إلى السير في خط مستقيم، يتوازى مع نضوج العقل الإنسانى، ويتساوق مع نمو العقلانية الحديثة، الأمر الذى يلغى حاجة البشر إلى إعمال منطق الروح، وفى القلب منه يأتى الاعتقاد الدينى. وفى هذا السياق كان أوجست كونت قد أشار ضمنا إلى فكرة «نهاية الدين» ، وذلك من خلال تصوره التحقيبى لتاريخ الوعى البشرى موزعا على المراحل الثلاث: الدينى/ اللاهوتى، والميتافيزيقى/ ما وراء الطبيعى، ثم العلمى/ العقلى، فالانتقال بين هذا المراحل ولا شك هو انتقال تطورى، يتم خلاله تجاوز مفهوم الدين باعتباره تعبيرا عن وعى مرحلة بذاتها تجاوزها التقدم التاريخى إلى مرحلة أخرى أرقي منها بالضرورة. أما نيتشه فقد أعلنها صراحة من خلال بيانه العدمى عن موت الإله، وحلول الإنسان الجديد أو (السوبرمان) مكانه فى مركز الوجود. والحقيقة أن ما كان ممكنا، بل وربما مطلوبا تحت ضغط الحداثة، هو انزياح الدين من المجال العام السياسي إلى المجال العام الاجتماعى أو حتى إلى المجال الخاص الفردى، متنازلا عن ادعاءاته بالقدرة على تنظيم المجتمعات وبناء المؤسسات، والوصاية على المعارف والعلوم والمكتشفات، ليقتصر دوره على الإلهام الروحي والضبط الأخلاقى، وترشيد العلاقات الاجتماعية. وفى المقابل لم يكن ممكنا ولا مطلوبا أن يفقد الدين كل قيمته أو يعلن موته بفعل ضربات سيف العقلانية كما بشرت فلسفة الدين الوضعية، لأن حضور العقل لا يفترض غياب الإيمان. بل إن العقلانية الحديثة نفسها قد منحت الإيمان سيفا جديدا يحارب به منطقها المادى الخالص ونزعتها المتطرفة، ويكتسب من خلاله أهمية مضاعفة، كونه، أى الإيمان، هو المكون الوحيد القادر على انتزاع بذرة الخوف والقلق التى نبتت فى قلب العالم الحديث (العقلانى)، والتى انعكست فى شعور عميق لدى الإنسان بالنسبية وعدم اليقين، رغم كل الممكنات والأبنية التى وفرتها الحداثة، والتى جعلت حياته أكثر راحة، وجعلته هو أكثر أمنا على جسده. ففى العالم التقليدى، ورغم قسوة الطبيعة وغياب القانون، على نحو ترتب عليه شعور بالقلق على الجسد، كان ثمة اطمئنان نفسى لدى أولئك الذين تربوا فى أحضان الدين والأعراف، وفهموا العالم كإطار للثبات، أى للتقاليد الأخلاقية الراسخة، والأبنية المجتمعية المتلاحمة التى تسودها القبيلة ويحكمها العرق، كما يحتويها المكان الذى كان امتداده يبدو بلا نهاية، وكأنه كهف يحتوى حياة الإنسان والجماعة، فكم من أناس لم يخرجوا من بيوتهم أو محيطهم القريب قط أو، ربما لمرة واحدة فى العمر، فلم يعرفوا شيئا عن البلاد المجاورة لهم ناهيك عن البعيدة. ففى هذه البيئة/ الكهف تمتع الناس بزمن كان ينساب هادئا، ويتحرك رويدا رويدا، على هدى حركة الشمس شروقا وغروبا، وعلى هدى إيقاعات الطبيعة حيث تغيرات المناخ تتوالى فصولا وشهورا. هذا هو العالم البسيط (المألوف)، سهل الإدراك والتحكم، هو ما حطمته الحداثة تحطيما: أولا أمام حركة الكشوف الحغرافية التى كشفت عن عالم جديد. وثانيا مع نمو وسائل المواصلات الحديثة من القطار إلى الطائرة. وأخيرا بفعل ثورة الاتصالات الحديثة. وفى موازاة تحطم صورة المكان القديم (الكهف) لصالح المكان الجديد (الفضاء) تم تفكيك سطوة الزمن فلم تعد له تلك الصورة المطلقة، هادئة الحركة، منتظمة الإيقاع التى رعت باستمرار، تلك الفضائل والمعانى الموروثة والجالبة للأمان النفسى، بل انفتح على مسيرة تطور لا تتوقف، طالما أصابت الجميع باللهاث والكثيرين بالدوار. وبدلا من أن تؤدى الثورات التكنولوجية المتتابعة، التى قامت على أساس العلم/ العقل الحديث، إلى تمكين الإنسان من إحكام سيطرته على الطبيعة، وتكريس شعوره باليقين إزاء مصيره فقد أدت إلى العكس، حيث بدت تلك السيطرة واهية وخادعة، إذ عندما يشاهد الناس تغير عالمهم بسرعة، تختلط عليهم الاتجاهات، وتزوغ الأبصار، ويشعرون بالتيه إزاء فقدانهم لمجتمعاتهم التقليدية (الرحيمة) ولعل هذا الشعور بالضياع فى عالم غريب صلد يفتقد للتلاحم والتعاطف يمثل التفسير الأعمق لجاذبية الظاهرة الأصولية فى عالم ما بعد الحداثة. وهكذا يتبين أن دعوى نهاية الدين نبعت فقط من قراءة مختزلة وقصيرة الأفق لحركة الوعى الغربى لا العالمى، وهو أمر يتسق تماما مع فكرة المركزية الغربية، بل يعد تطبيقا لها على صعيد الدين، ولا علاقة لها بصيرورة الدين فى الوعى الإنسانى. فما أن انتهى القرن التاسع عشر، وانتصف القرن العشرين، حتى بدا وكأن التاريخ قد أخذ يلوى خطاه إلى بعض طرق ومداخل تقود إلى ما يسبق القرن التاسع عشر وليس إلى ما يليه، حيث انفجر الإحياء الدينى فى كل مكان تقريبا، ولكنه ليس ذلك الإحياء الروحاني الصرف الذى كان سلفا، ولا الإيمان التقليدى الذى ساد زمنا، بل الإحياء العنيف الناجم عن شعور بالهزيمة وبالرغبة فى الثأر، وطموح إلى استعادة أرض مغتصبة كانت للدين قبل أن يطرد منها، حتى لو اضطر إلى حرقها. يحدث ذلك فى أبشع صوره بالعالم الإسلامي المريض بشتى ألوان الأصولية، منذ السبعينيات على الأقل. ويحدث ما يوازيه فى أقصى الشرق، فى صورة انبعاث جديد للهندوسية خصوصا، يؤكد حيوية الدين (الطبيعى) فى الشرق الآسيوي، ومن خلال نزعات تجديد أكثر عمقا وأقل صخبا داخل البوذية، والكونفوشية. ويحدث ما يقاربه فى قلب العالم الغربى ذاته حيث كان النزوع الكاثوليكي للإصلاح، واستدعاء الدين إلى قلب الثورات الوطنية عبر «لاهوت التحرير» فى أمريكا اللاتينية منذ الستينيات، ثم الإحياء الأصولى البروتستانتي فى الولاياتالمتحدة منذ السبعينيات. وهكذا يتبين كيف كان الدين في أكثر إلهاماته ثورية، وأكثر تجلياته راديكالية قابعا على الطريق، هازئا بالمصير الذى رسمته له الحداثة فى صيغتها المادية المتطرفة، مطالبا بحقه في الوجود، كاشفا عن قدرته على التحدى، وهى قدرة يبدو أنها ستظل باقية دوما، في مواجهة شتى المحاولات القسرية لنفي الروحانية المتسامية المتولدة عن مركزية الحضور الإلهي في التاريخ الإنساني. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم