يقول الإمام محمد عبده: «إن للإسلام أصولا خمسة، الأولى: النظر العقلى لتحصيل الإيمان. والثانى: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض. والثالث: البعد عن التكفير. والرابع: الاعتبار بسنن الله فى الخلق. والخامس: قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها». هذه الأصول الخمسة التى أقرها الإمام محمد عبده حفظتها عن ظهر قلب منذ أن قرأتها- منذ سنوات بعيدة- فيما كتبه الإمام عن الإسلام من حيث هو «دين العلم والمدنية». ولقد تأملت هذه الأصول طويلا، وآمنت بها منذ أن وعيتها، وجعلت منها إطارا مرجعيا، بل كررتها مرارا كثيرة فيما كتبت عن التنوير والدولة المدنية، خلال ما يزيد على عشرين عاما. وبعد أن تمثلت عميقا وطويلا هذه الأصول الخمسة، جعلت منها مقياسا للحكم على ما أراه من أفكار تنتسب إلى الإسلام، كما أحلتها إلى معيار للقيمة أحدد به قيمة أى خطاب دينى أقابله، فإما أن أتقبل هذا الخطاب، وأقتنع بما فيه، وإما أن أرفض هذا الخطاب، إذا ما رأيت فيه عداء لهذه الأصول، أو رفضا لها، أو تهوينا منها كلها أو بعضها. ومع أنى درست- قبل معرفة هذه الفصول- أهم المبادئ التى تتميز بها الفرق الإسلامية التى درست فيما درست من علوم الكلام، ومذاهب فلاسفة الإسلام التى عرفتها ضمن ما قرأت من كتابات فلاسفة المسلمين وغير المسلمين. لكن الأصول الخمسة التى أوجزها الإمام محمد عبده صارت أساسا لتفكيرى الدينى من ناحية، وميزانا أزن به سلامة أى خطاب دينى، من حيث مدى قربه أو بعده عن الإسلام السمح الوسطى المعتدل الذى تربينا عليه من ناحية أخرى، وزادنى إيمانا بدوره فى الحياة عظماء مشايخ الاستنارة فى الأزهر، ابتداء من الشيخ حسن العطار وتلميذه رفاعة الطهطاوى، فى السياق الذى يصلهما بالشيخ محمد عبده وتلميذيه على ومصطفى عبد الرازق، مرورا بالشيخ شلتوت وتلامذته إلى أن نصل إلى الدكتور محمود زقزوق بنزعته العقلانية الإسلامية التى لا أجد لها نظيرا، وأرجو أن يكون لها امتداد فى أزهر هذا الزمان الذى يرعاه شيوخ هم بشر فى نهاية الأمر، يمكن لهم أن يصيبوا أو يخطئوا فى اجتهاداتهم، ولذلك لا أتوقف عن ترديد ما يغضب بعضهم منى، خصوصا حين أقول ما تعلمته من الإمام محمد عبده من أن الأزهر ليس سلطة دينية، وأكرر ما سبقنى إلى قوله الدكتور محمود زقزوق من أن الإسلام حرر الفرد من أى سلطة دينية أو دنيوية. وأضيف إلى ذلك ما لا أزال مؤمنا به من الأصول الخمسة التى اختزل بها الإمام محمد عبده ما أراه فهما عقلانيا للإسلام. لكن ما أريد أن أضيفه وأؤكده- فى هذا السياق- هو أن هذه الأصول الخمسة ليست أصولا اعتقادية أو دينية فحسب، وإنما هى أصول ثقافية أيضا، فالجانب الدينى فيها يوازى الجانب الثقافى، ويدعمه، ولا يتناقض معه، بل يؤازره بما يفتح الأفق الدينى للمسلم، جاعلا الدين للحياة، ويفجر الطاقات الخلاقة للثقافة، بما يفتح الأبواب لإبداعاتها الحرة فى آن. ولن أفعل –فى هذا المقال- شيئا سوى البرهنة على ما أقول، ويثبته تاريخنا الثقافى الحديث، منذ ثورة 1919 إلى مطلع السبعينيات، خصوصا فى مراحل صعود هذا التاريخ. أما الأصل الأول وهو الخاص بالنظر العقلى لتحصيل الإيمان، فهو مبدأ يؤكد أهمية العقل الذى يتميز به الإنسان عن الحيوان، ويدرك به الإنسان كل الأمور الغامضة فى الكون والحياة التى يحياها فى العالم الذى يجمعه وغيره، ويميزه عن غيره بدرجات التفكير والتدبر والكشف عنما يظل فى حاجة إلى الكشف. ولذلك تحدث أبو حامد الغزالى عن شرف العقل فى الباب السابع من كتابه «إحياء علوم الدين» مؤكدا أن شرف العلم من قبل العقل، والعقل منبع العلم ومطلعه وأساسه، والعلم يجرى منه مجرى النور من الشمس. وما كان يعنى الغزالى فى كل ما ذكره عن العقل هو تأكيد المكانة المتميزة له، من حيث هو حجة الله على خلقه، وسبيلهم إلى معرفة عوالمهم وما بعد عوالمهم، وأداتهم فى إقامة نهضة علمية وحضارية، تجعل منهم جديرين بالكون الذى أصبحوا مستخلفين فيه. ويعنى ذلك أن الأصل الأول للإسلام، عند الإمام محمد عبده، ليس أصلا دينيا فحسب، وإنما هو أصل معرفى يتصل بكل أنواع المعارف والعلوم والفنون التى تبدأ من الاستبطان الذاتى، صاعدة فى سلم المعرفة التى تجاوز الذات إلى كل ما يقع فى دائرة إدراكها وكل ما تؤسس به للعلوم التى لا تكف عن التطور والتقدم والارتقاء بوضع الإنسان فى الكون. ولكن مهما ارتقى الإنسان فى الكون، وسيطر عليه، فإنه لا ينسى الغاية من أصل وجود العقل بوصفه حجة الله على خلقه، وسبيل خلقه للتقدم فى العلم الذى لا يتناقض مع الإيمان بالله والتسليم بقدرته على زيادة الإيمان بكشوفه. ولذلك ذهب الإمام محمد عبده إلى أن العقل يجب أن يحكم كما يحكم الدين، فالدين عرف بالعقل، والعقل هو الأصل فى العلم، وكل نجاح للعلم هو انتصار للعقل، والعقل -فى النهاية- هو حامى الدين وعدة الإنسان وحجته على البشر الذين يستضيئون به فى آن. ويترتب على ذلك الأصل الثانى الذى يؤكد أنه إذا جاءت النصوص الدينية- إلهية أو نبوية- بما يتناقض مع العقل وجب تأويل هذه النصوص حتى تتوافق مع العقل. وما يذهب إليه محمد عبده، فى هذا الأصل، هو امتداد لما سبق أن ذهب إليه الإمام الغزالى من «أن لنا معيارا فى التأويل، وهو أن ما دل نظر العقل ودليله على بطلان ظاهره، علمنا ضرورة أن المراد غير ذلك». وما ذهب إليه الغزالى، ومن قبله من المعتزلة، هو الأصل الذى بنى عليه ابن رشد «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال»- حين ذهب مؤكدا :»إنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدى النظر البرهانى إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له». والحق أن هذا الأصل الثانى يفتح الأبواب لما نسميه علوم التأويل (أو مقابلها الأوروبى الحديث Hermeneutics) التى بدأت من تفسير النصوص الدينية، وتأويل ما فيها من مجازات وكنايات إلى تفسير النصوص الأدبية والأعمال الفنية وتأويل ما فيها من مجازات ورموز وتمثيلات. والحق أن رحابة العقل الإسلامى فى موقفه من تأويل المجازات القرآنية، ورد الآيات المتشابهات إلى دلالات محكمات هى الوجه الآخر من انتقال رجال البلاغة ما بين المعانى الأول والمعانى الثوانى فى أسرار البلاغة أو دلائل الإعجاز القرآنى التى كشف عنها عبد القاهر الجرجانى وغيره فى الميراث الإسلامى الذى يدعو إلى الفخر، سواء على مستوى الكشف عن أسرار بلاغة النظم فى الشعر العربى القديم، أو دلائل الإعجاز فى آيات القرآن الكريم، وذلك فى تقاليد وصلت ما بين عبد القاهر الجرجانى فى القرن الخامس للهجرة وكل محللى النصوص الإبداعية ومؤولى الأعمال التشكيلية ذات الطابع الرمزى فى عصرنا الحاضر. هكذا أصبح الأصل الخاص بالتأويل هو الوجه الملازم للأصل الخاص بالعقل، فالإيمان بالعقل يقود إلى التأويل، والتأويل يقود إلى العقل، ليس فى الدين فحسب، وإنما فى الدائرة المعرفية الشاملة التى يعيد فيها الإنسان بناء الكون وصنعه على عينيه، حرا مختارا، فعالا لما يريد، واصلا ما بين الثرى والثريا، على امتداد الكون الذى سخره الله للإنسان وجعله مجالا لاختباره، وذلك بالقدر الذى جعل العقل حجة عليه وثقة فى نقاء عنصره فى آن. وهذا معنى تكريم الخالق للإنسان الذى هداه النجدين، وخلقه على صورته، وجعله قادرا على عمارة الكون بالفضائل التى زودّه بها، والتى أدّاها إليه عقله، حتى لو لم يكن هناك تنزيل بنص، فعظمة خلق العقل أنها تؤدى أول ما تؤدى إلى إدراك الإنسان لعظمة خلقه والجلال المطلق، كما أوصلت أمثولات حى بن يقظان وما يشبهها فى التراث الذى يرفع من قدر الإنسان وعقله الذى يغدو النور الأول للكائن فى معرفة مبدأ السببية الذى يتوصل به إلى الأصل فى وجود الله، والسر فى خلق عقله للتمييز بين الخير والشر، وفى معرفة كل ما يرتقى بحضوره من حيث هو أسمى مخلوقات الله فى كونه. ولا يمكن لهذا الكائن إلا أن يكون عارفا للخير بطبعه، نافرا من الشر بعقله، وذلك بالدرجة التى يؤكد فيها العقل حرية هذا الكائن الذى لابد أن يؤمن بحرية غيره إيمانه بحريته، عارفا أنه ليس أعلى من غيره إلا بما يفعل فى عمارة الكون، وأن غيره لابد أن يختلف عنه، ما ظلت هذه قاعدة الله فى خلقه الذى ينطوى على التعدد والتباين والتنوع والاختلاف بوصفها من سنن الله فى خلقه، فالله جعلنا مختلفين كى نتبارى فى هذا الكون، مقدمين أفضل ما لدينا بوصفنا أفضل مخلوقات الله الذى خلق أفضل ما فينا، وهو العقل الذى يكتمل بالقلب اليقظ والوجدان السليم والذوق الرفيع. وهذا ما يجعلنا ندرك أننا ننتسب إلى إنسانية واحدة، تختلف أديانها وتتتابع، وتتعدد شعوبها لتتعارف وتتآزر، ويفيد بعضها من بعض، وذلك بما لا يخالف القواعد الكلية للعقل الإنسانى الذى هو عقل كونى يجاوز الديانات والقوميات، خصوصا فى سعيه لتأسيس إنسانية لا تكف عن الترقى والتطور. هكذا كرمنا الله، وجعلنا متنوعين قابلين لاختلافنا فى كل جوانب حياتنا، ابتداء من العقيدة الدينية، وليس انتهاء بأشكال اختراعاتنا العلمية وإبداعاتنا التى يتآزر فيها العقل مع الحرية، فالعقل لا يبدع إلا إذا كان حرا. وحريته تبدأ من الاختيار الميتافزيقى إلى الاختيار الفيزيقى، مهما صغر أو ضؤل، فمبدأ الحرية متأصل فى كل الأحوال، تماما كالعقل الذى هو أعدل الأشياء توزعا بين البشر. ويقينى أن الأصل الأول فى علاقته بالأصل الثانى يصوغان مبادئ ثقافية، تنطوى على الإيمان بالتنوع البشرى الخلاق، وقبول الآخر، وحق الاختلاف، وتأكيد النزعة الإنسانية، من منظور إنسان مسلم قادر، فاعل لما يريد، رافض للظلم الواقع عليه أو على غيره، متسامح الفكر وسمح المشاعر السماحة المقرونة بالرحمة، تماما كالإيمان بالعقل الذى يؤدى حضوره وإشاعته بين الناس إلى تأكيد حضور الوعى النقدى للمواطن، وعدم تقبله لكل ما يقال له، سواء فى أمور الدين أو أمور الدنيا، فى كل جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فالقاعدة التى ينبغى أن تحكم وجود الإنسان فى كل هذه المجالات هى أن يكون لما ينبغى قبوله أو الدفاع عنه أساس مقبول لدى العقل أو الوعى النقدى للإنسان. ومن المنطقى أن يقترن هذا المبدأ بالحرية فى الاختيار بين المطروح على الإنسان من أمور دينه ودنياه، فهذا الاختيار هو أصل الثواب بالمعنى الدينى، وأصل التقدم أو التأخر بالمعنى السياسى والاقتصادى والاجتماعى، فلا وجود للدولة الحديثة- الوطنية الديمقراطية- لمن ليس له عقل يختار به، دون قهر من أى سلطة، فيميز بين الحسن والقبيح بالمعنى الدينى الذى هو فى الوقت نفسه معنى دنيوى: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فأنت لا تختار بين هذا الموقف السياسى أو ذاك، أو حتى بين هذا المرشح الحزبى أو غيره، إلا بعد أن تعمل عقلك فى الاختيار، مترويا فى المقارنة بين المحتملات، متدبرا النتائج التى لابد أن تترتب على اختيار هذا دون ذاك، كى تضمن أن ما تنتهى إلى اختياره، هو لصالحك وصالح الجماعة فى الوقت نفسه، وحرية الاختيار هى مبدأ ثقافى من المنظور نفسه، يبدأ من اختيار قناة التليفزيون التى يليق بك مشاهدتها، أو المعرض الفنى الذى يمتعك الذهاب إليه، أو الفيلم الذى تعجبك مشاهدته، أو الباليه الذى هو برهان على الخفة غير المحتملة للكائن الذى يتحول إلى كيان أثيرى، يسمو على عنصره الترابى. ولا ينتهى فعل الاختيار الثقافى حتى عند الجريدة التى تؤثر قراءتها على غيرها، وقس ذلك على كل ما يتصل بأشكال الإبداع الثقافى، فضلا عن كل مجالات الثقافة من حيث هى أسلوب حياة أو رؤية عالم. وإذا كان من المؤكد أنه لا معنى لإعمال العقل فى غياب الحرية بصيغة المفرد أو الجمع، والعكس صحيح بالقدر نفسه، فمن المنطقى أن يلزم عن احترام العقل احترام عقول الآخرين، وقبول اختلافها عنك أو معك. ويترتب على ذلك أن إيمانك بحرية الآخرين ينبغى أن يكون هو الوجه الآخر من إيمانك بحريتك الذاتية فى كل مستوى من مستوياتها. ولم يكن من الغريب أن يقرن عباس محمود العقاد(الذى عاصر الإمام محمد عبده، وخصص له أحد كتبه فى العبقريات) الحرية بالجمال، ويجعل من الجمال فى الفن والحياة تجسيدا لمبدأ الحرية الذى يعلى من قيمته فى الحياة والأحياء، وذلك فى سياق من الإنجازات التى جعلت من العقاد مفكرا عظيما: لأنه كان يريد أن يرى النظام فى الفوضى وأن يرى الجمال فى النظام وغير بعيد عن اقتران العقل بكل من الاختلاف والحرية والجمال اقترانه بالنسبية. وربما كانت أروع القدرات التى خلقها الله فى العقل هى قدرته على تصحيح مساره، واكتشاف أخطائه الذاتية فى فعل التدبر الذاتى الذى أفهمه على أنه قدرة متأصلة فى العقل الذى يستطيع أن يضع نفسه موضع المساءلة، فيغدو فاعلا للمساءلة وموضوعا لها. وهو أمر يؤكد صفة النسبية وانعدام اليقين المطلق فى كل رأى يراه الإنسان، أو ينتهى إليه اجتهاد عقله مهما كانت مكانته الدينية. ولذلك قال الإمام الشافعى:» رأيى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب». وهو أمر لا يقتصر على الفكر الدينى، بل يمتد ليشمل كل ما ينتجه العقل الإنسانى، ذلك لأن عقل الإنسان لم يؤسس الحضارة، ويعلى من بنائها إلا لأنه يصوب أخطاءه، ويبدأ من حيث انتهى الآخرون فى كل مجال ليضيف إليهم. وهذا هو الأصل فى تطور العلوم والفنون وحياة البشر نفسها. أما الأصل الثالث الخاص بالبعد عن التكفير، فهو ليس أصلا دينيا فحسب، وإنما هو أصل معرفى وثقافى فى آن، فالتكفير من حيث هو دال لغوى يؤدى معنى الإنكار والجحود والنفى والتعطيل من ناحية، كما يؤدى معنى النبذ والإقصاء من ناحية ثانية، كما يعنى الاستئصال معنويا وماديا من ناحية أخيرة. والفرق ليس بعيدا ما بين التكفير عند الأصولى الدينى والتخوين عند الأصولى الشيوعى أو البعثى أو حتى الناصرى فى جذور تعصبه، فكل حكم بالتكفير على نحو دينى أو التخوين على نحو مدنى لا يصدر إلا عن عقل أصولى، يرى أن ما آمن به أو ما تعلمه عن شيوخه هو حق صراح، لا يأتيه الباطل من فوقه أو تحته، وأن تسليمه بهذا الذى تعلمه يقين مطلق، لا يقبل الشك أو حتى المساءلة، وذلك بمعنى غير بعيد عن ما تتاورثه طوائف السلفية من مبادئ مثل: قف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل السلف الصالح. وما كان يمكن للشافعى أو أبى حنيفة أو مالك أن يصدر أوامر جازمة على هذا النحو، فالإيمان عندهم لم يكن مجرد اتِّباع جامد ونقل متعصب، بل ناتج عقل متسامح وسمح، عقل كان هو الأصل الذى دفع محمد عبده أن يروى عن مالك قوله: «إذا ورد قول عن قائل يحتمل الإيمان من وجه واحد، والكفر من مائة وجه، حمل على الإيمان ولم يحمل على الكفر». ولذلك رفض الإمام محمد عبده التكفير ونهى عنه ورأى فيه جريمة ترتكب فى حق حرية العقل التى لا تكتمل إنسانيتنا إلا بممارستها. ولا جناح علينا لو أخطأنا فى اجتهاد دينى أو مدنى، فحق الخطأ مكفول، ومن اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر. وهو مبدأ أصيل فى الإسلام، فتح أمام العقول كل الأبواب المغلقة، فنتجت الإبداعات الفكرية العظيمة للمعتزلة والأشاعرة، ومعهما إبداعات الكندى وابن سينا ومسكويه وابن رشد وعشرات غيرهم من الأسماء التى يزهو بها تاريخنا الثقافى والإبداعى الذى كان يزدهر فيه الإبداع فى كل مجال، موازيا مدى الانفتاح المتاح والعقلانية غير المفصولة عن النزعة الإنسانية التى انطوت على الفكر الصوفى. أما عندما تحول الانفتاح إلى انغلاق كان سجن ابن رشد والعداء لأفكاره نتيجة طبيعية، فى مدى هبوط الحضارة الإسلامية التى استبدلت ابن تيمية بابن رشد، فكان الجمود الدينى والفكر الإبداعى الذى لم نحطم قيوده إلا مع أنوار العصر الحديث التى يريد بعضنا أن يطفئها ليحدثنا عن تزويج الفتاة المسلمة فى الخامسة من عمرها- لو كانت سمينة- وهو ما لا يقبله العقل الذى أكرمنا الله بخلقه فينا. لمزيد من مقالات جابر عصفور