حيثيات «الإدارية العليا» لإلغاء الانتخابات بدائرة الدقي    وزيرتا التنمية المحلية والتضامن ومحافظ الغربية يتفقدون محطة طنطا لإنتاج البيض    تعرف على مشروع تطوير منظومة الصرف الصحي بمدينة دهب بتكلفة 400 مليون جنيه    نائب محافظ الجيزة وسكرتير عام المحافظة يتابعان تنفيذ الخطة الاستثمارية وملف تقنين أراضي الدولة    إما الاستسلام أو الاعتقال.. حماس تكشف سبب رفضها لمقترحات الاحتلال حول التعامل مع عناصر المقاومة في أنفاق رفح    الجامعة العربية تحتفى باليوم العالمى للتضامن مع الشعب الفلسطينى    شبكة بي بي سي: هل بدأ ليفربول حياة جديدة بدون محمد صلاح؟    إبراهيم حسن يكشف برنامج إعداد منتخب مصر لأمم أفريقيا 2025    وادى دجلة يواجه الطلائع ومودرن سبورت وديا خلال التوقف الدولى    الأهلي أمام اختبار صعب.. تفاصيل مصير أليو ديانج قبل الانتقالات الشتوية    أحمد موسى: حماية الطفل المصري يحمي مستقبل مصر    حكم قضائي يلزم محافظة الجيزة بالموافقة على استكمال مشروع سكني بالدقي    خطوات تسجيل البيانات في استمارة الصف الثالث الإعدادي والأوراق المطلوبة    الثقافة تُكرم خالد جلال في احتفالية بالمسرح القومي بحضور نجوم الفن.. الأربعاء    مبادرة تستحق الاهتمام    مدير وحدة الدراسات بالمتحدة: إلغاء انتخابات النواب في 30 دائرة سابقة تاريخية    انطلاق فعاليات «المواجهة والتجوال» في الشرقية وكفر الشيخ والغربية غدًا    جامعة دمنهور تطلق مبادرة "جيل بلا تبغ" لتعزيز الوعي الصحي ومكافحة التدخين    أسباب زيادة دهون البطن أسرع من باقى الجسم    مصطفى محمد بديلا في تشكيل نانت لمواجهة ليون في الدوري الفرنسي    رئيس الوزراء يبحث مع "أنجلوجولد أشانتي" خطط زيادة إنتاج منجم السكري ودعم قطاع الذهب    هل تجوز الصدقة على الأقارب غير المقتدرين؟.. أمين الفتوى يجيب    "وزير الصحة" يرفض بشكل قاطع فرض رسوم كشف على مرضى نفقة الدولة والتأمين بمستشفى جوستاف روسي مصر    محافظ جنوب سيناء يشيد بنجاح بطولة أفريقيا المفتوحة للبليارد الصيني    أمينة الفتوى: الوظيفة التي تشترط خلع الحجاب ليست باب رزق    وزير العدل يعتمد حركة ترقيات كُبرى    «بيت جن» المقاومة عنوان الوطنية    بعد تجارب التشغيل التجريبي.. موعد تشغيل مونوريل العاصمة الإدارية    عبد المعز: الإيمان الحقّ حين يتحوّل من أُمنيات إلى أفعال    استعدادًا لمواجهة أخرى مع إسرائيل.. إيران تتجه لشراء مقاتلات وصواريخ متطورة    دور الجامعات في القضاء على العنف الرقمي.. ندوة بكلية علوم الرياضة بالمنصورة    الإحصاء: 3.1% زيادة في عدد حالات الطلاق عام 2024    الصحة العالمية: تطعيم الأنفلونزا يمنع شدة المرض ودخول المستشفى    الرئيس السيسي يوجه بالعمل على زيادة الاستثمارات الخاصة لدفع النمو والتنمية    وزير التعليم يفاجئ مدارس دمياط ويشيد بانضباطها    من أول يناير 2026.. رفع الحدين الأدنى والأقصى لأجر الاشتراك التأميني | إنفوجراف    وزير الخارجية يسلم رسالة خطية من الرئيس السيسي إلى نظيره الباكستاني    رئيس الوزراء يتابع الموقف التنفيذي لتطوير المناطق المحيطة بهضبة الأهرامات    إعلان الكشوف الأولية لمرشحي نقابة المحامين بشمال القليوبية    موعد شهر رمضان 2026 فلكيًا.. 80 يومًا تفصلنا عن أول أيامه    وزير الثقافة يهنئ الكاتبة سلوى بكر لحصولها على جائزة البريكس الأدبية    رئيس جامعة القاهرة يستقبل وفد جودة التعليم لاعتماد المعهد القومي للأورام    الإسماعيلية تستضيف بطولة الرماية للجامعات    وزير الإسكان يتابع تجهيزات واستعدادات فصل الشتاء والتعامل مع الأمطار بالمدن الجديدة    دانيلو: عمتي توفت ليلة نهائي كوبا ليبرتادوريس.. وكنت ألعب بمساعدة من الله    ضبط 846 مخالفة مرورية بأسوان خلال حملات أسبوع    تيسير للمواطنين كبار السن والمرضى.. الجوازات والهجرة تسرع إنهاء الإجراءات    مصطفى غريب: كنت بسرق القصب وابن الأبلة شهرتى فى المدرسة    شرارة الحرب فى الكاريبى.. أمريكا اللاتينية بين مطرقة واشنطن وسندان فنزويلا    صندوق التنمية الحضرية : جراج متعدد الطوابق لخدمة زوار القاهرة التاريخية    وزير الخارجية يلتقي أعضاء الجالية المصرية بإسلام آباد    صراع الصدارة يشتعل.. روما يختبر قوته أمام نابولي بالدوري الإيطالي    إطلاق قافلة زاد العزة ال83 إلى غزة بنحو 10 آلاف و500 طن مساعدات إنسانية    اتحاد الأطباء العرب يكشف تفاصيل دعم الأطفال ذوي الإعاقة    تعليم القاهرة تعلن خطة شاملة لحماية الطلاب من فيروسات الشتاء.. وتشدد على إجراءات وقائية صارمة    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 30نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا.... اعرف مواعيد صلاتك بدقه    وزير الدفاع يشهد تنفيذ المرحلة الرئيسية للتدريب المشترك « ميدوزا - 14»    مركز المناخ يعلن بدء الشتاء.. الليلة الماضية تسجل أدنى حرارة منذ الموسم الماضى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية ..
الثقافة والدين -1
نشر في الأهرام اليومي يوم 08 - 04 - 2015

تتخذ العلاقة بين الثقافة والدين أوضاعا يمكن رصدها وتحليلها، وذلك من منطلق يقتصر على الديانات السماوية، ومن منظور مثقف مسلم درس تحليل الخطاب ونظرياته، فى مجالاته المتعددة ومشكلاته الوظيفية المختلفة، ومعنى بتحليل الخطابات الدينية والثقافية، فى أحوال سلبها وإيجابها، منطلقا فى ذلك من معنى الاجتهاد فى الإسلام, حيث التفكير فريضة إسلامية
والمسلم مأمور بإعمال عقله فى كل ما يتصل بصلاح دنياه وآخرته، مدركا أنه مثاب على اجتهاده حتى فى حالة الخطأ، فحق الخطأ فى الاجتهاد متاح، والمجتهد المسلم يعرف أنه مثاب حتى فى أحوال الخطأ التى لا ينبغى أن يخاف منها، فثوابه قائم، ويضاعف له فى أحوال الصواب الذى لا يحتكره أحد ولا يمكن له أن يدعيه مطلقا، حتى لو أغواه وهم القوة أو كثرة الأتباع، فما دمنا فى دائرة البشر، وما دام إعمال العقل ينزل منزلة الفريضة من المسلم، ليس عملا بعنوان كتاب العقاد «التفكير فريضة إسلامية» فحسب، وإنما انطلاقا مما قاله الإمام الغزالى «العقل أنموذج من نور الله»، وهو «ميزان الله فى أرضه» وقبله ذهب الجاحظ إلى أن العقل «وكيل الله عند الإنسان» وما أصدق ما يقوله الدكتور محمود زقزوق من أن حرص الإسلام على ممارسة العقل لكل وظائفه التى أرادها الله، كان هو السبب وراء الحرص على إزالة كل العوائق التى تعوق العقل عن ممارسة نشاطاته. ومن أجل ذلك رفض الإسلام التبعية الفكرية والتقليد الأعمى، وقضى على الدجل والشعوذة والاعتقاد فى الخرافات والأوهام وأبطل الكهانة. كما ركز الإسلام على المسئولية الفردية، وحرر الفرد من أى سلطة دينية أو دنيوية» ( محمود زقزوق: هوامش على أزمة الفكر الإسلامى المعاصر 12).
وبمثل هذا التفكير يتحقق للإنسان المسلم اكتمال الإرادة واستقلال الرأى، ويصبح فتح أبواب الاجتهاد وإعادة إعمال الفكر فيما يبدو من قبيل المسلمات المتبعة أو الشائعة مسئولية حتمية دينيا وفكريا واجتماعيا وسياسيا، وهى المجالات التى تنطوى عليها دلالات كلمة الثقافة بالمعنى الذى أفهمه، وأراه مجموع القيم والتقاليد والأفكار وأشكال الإبداع الفردى والجمعى المادى وغير المادى التى ترادف الوعى الاجتماعى من ناحية، وأسلوب الحياة أو رؤية العالم من ناحية موازية.
وأول ما يترتب على ذلك هو أن الدين مكوّن أساسى من مكونات الثقافة فى كل مجتمع من المجتمعات البشرية. ومن المؤكد أن هذا المكوّن يمكن أن يكون عنصر ضعف أو قوة فى هذه المجتمعات، حسب طبيعة الفكر الدينى السائد وصفاته التى تفتح أبواب الاجتهاد وازدهار الحضارة أو تغلق أبواب الاجتهاد، وتستبدل به التقليد والاتباع الأعمى فتعادى كل إعمال للعقل، أو كل اختيار حر للإنسان، وهذا هو الدرس الذى نستخلصه من تاريخ الحضارة الإسلامية التى فرضت وجودها على العالم الوسيط، وأضافت إلى الحضارات القديمة فى كل المجالات الحضارية، وأعلت من شأن العقل الذى رفع راياته الكندى وابن سينا وابن رشد. وعندما أعلنت هذه الحضارة الحرب على العقل، وناصرت التقليد الجامد، وحرقت كتب المخالفين فكريا فى ميادين العواصم الإسلامية، ولم ينج من الحرق حتى كتاب «إحياء علوم الدين» للغزالى، فى زمن اشتد فيه مدعو حماية العقيدة فى معاقبة العقلانيين على عقلانيتهم، وهو الأمر الذى انتهى بمحنة ابن رشد فى قرطبة، غربت شمس الحضارة العربية العظيمة، وهاجرت أفكار ابن سينا وابن رشد إلى أوروبا فأصبحت أساس النهضة الأوروبية التى أنتجت فلسفة التنوير التى كنا أولى بها، فالنور من الله عز وجل، ومن مسميات العقل الإنسانى فيما يقول الإمام الغزالى فى «إحياء علوم الدين».
والحقيقة التى ينتهى إليها أى متأمل محايد لتاريخ الحضارة العربية الإسلامية هى أنها كانت تزدهر مع تلازم حضور سلطان عادل وفقهاء (رجال دين) يفتحون باب الاجتهاد على مصراعيه، وتتقلص حين يقترن وجود سلاطين الاستبداد بفقهاء السلاطين الذين برروا لهم الظلم والاستبداد، وصاغوا المعادلة التى تقول «إن الدين بالملك يقوى والملك بالدين يبقى». ولم تكن الإشارة إلى الدين فى إطلاقه، وإنما إلى الدين كما فهمه فقهاء السلاطين الذين كانت العلاقة قائمة بينهم على أساس من المنفعة وليس عدل الشرع الذى هو دفع الظلم عن كل مظلوم.
هذا عن الوضع الأول من أوضاع العلاقة بين الثقافة والدين، ولكن هناك الوضع الثاني، وهو الوضع الذى يغدو به الدين موضوعا للإبداع الثقافي، وهو الوضع الذى يبدأ من قصائد حسان بن ثابت شاعر رسولنا الكريم «عليه الصلاة والسلام»، وهو الشاعر الذى كان يقول له نبينا: «اهجهم وروح القدس معك». ويمضى سياق الإبداع الثقافى، شعرا، فى سلسلة تبدأ من كعب بن زهير صاحب البردة إلى آخر الشعراء الذين يتخذون العقيدة الإسلامية موضوعا للإبداع. وكلنا نسمع «حديث الروح» التى تغنيها أم كلثوم للشاعر محمد إقبال، و»نهج البرده» للشاعر أحمد شوقى .. ومثلها آلاف القصائد، فضلا عن الإبداعات التى تدور حول السير، وكذلك الأعمال الروائية والدرامية التى تعرض ملامح من حياة نبينا الكريم أو حياة الصحابة والتابعين. وأضف إلى ذلك اللوحات التى نجدها فى الفنون الإيرانية الإسلامية، حيث تمضى لوحات الشيعة إلى ما يحرمه أهل السنة الذين يتخذون موقفا رافضا لتصوير النبى وصحابته، ويمضون فى ذلك إلى تحريم تمثيل الأنبياء السابقين عن الإسلام فى السينما، مع أن هؤلاء الأنبياء لا يوجد مانع من كتاب أو سنة على «تمثيلهم» – أى أن يقوم ممثلون بأداء درامى لشخصياتهم- فى السينما الأوروبية والأمريكية. وهو تحريم يفرض السؤال عن الحق الدستورى للمسيحى المصرى فى أن يرى ما يراه أبناء ديانته فى العالم المسيحى كله؟!
أما الوضع الثالث لأوضاع العلاقة بين الدين والثقافة، فهو الوضع الذى يتوازى فيه الدين من حيث هو بنية من النصوص، مع الثقافة من حيث هى بنية موازية من الموروثات والمكتسبات والعادات والمبادئ والقيم التى هى أسلوب حياة. صحيح أن البنيتين متداخلتان بالضرورة . ولكنى أفصل بينهما فصلا افتراضيا للعون على التحليل فحسب.
نعم، الدين موازٍ للثقافة، من حيث هو بنية من الشرائع والعقائد والنصوص السماوية التى يتأولها المؤمنون من البشر، حسب مقتضيات حياتهم ومصالحهم فى ما نطلق عليه الفكر الدينى أو الخطاب الدينى الذى تقوم عليه، أو تمارس صنعه، مجموعة من البشر ذات مصالح معينة تفرض عليها نوعا من التأويل أو نمطا بعينه من التفكير. ويمكن أن ننظر إلى الثقافة من المنظور نفسه، ونرى فيها بنية موازية، يمكن أن يكون لها استقلالها، نظريا بوصفها مجموعة موازية من الأفكار والقيم والممارسات. وكلتا البنيتين يمكن أن يحدث فيهما معا تضاد أو صراع بين المكونات، فى مراحل بعينها من تاريخ المجتمعات، هى مراحل التغير الجذرى أو التحولات العنيفة التى تؤدى إلى تغيير فى علاقات أجزاء كل بنية. قد يحدث هذا نتيجة التحولات الاجتماعية السياسية الاقتصادية، ومن ثم العلمية الفكرية الحادة، أو ما يسمى بعمليات التحديث المادية التى تفرض تأثيرها الفاعل بالضرورة وبطرائق مباشرة وغير مباشرة، الأمر الذى يؤدى إلى ما يسمى بالحداثة الفكرية. وعندئذ تنقسم ثقافة المجتمع إلى قسمين متضادين: قسم أقرب إلى الطليعة الثقافية التى تقف فى صف الجديد المتغير، إيمانا منها أنه يحمل مصالح لها أو يحقق آمالا ظلت تحلم بها. أما القسم المقابل فهو القسم الذى يلوذ بالقديم لأنه ألفه وتعوّد عليه، وترتبط مصالحه المادية (الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية) باستمراره، فيغدو كارها للتجديد، نافرا منه، أو مستريبا فيه على أكثر تقدير. وتكون النتيجة انقساما فى الثقافة وصراعا بين طرفيها المتضادين، كما حدث فيما أُطلق عليه الصراع بين القدماء (أنصار القديم الذين يخافون التغيير) والمحدثين فى العصر العباسى من تاريخ الأدب العربى، حيث انتقل العرب انتقالا جذريا من الثقافة الشفاهية إلى الثقافة الكتابية، وتأسست المدينة متعددة الأجناس (مثل بغداد الرشيد) مقابل مدينة الصحراء المنغلقة على تكويناتها القبلية، وذلك فى موازاة الانفتاح العقلى على ثقافات الآخرين فى كل مجال، فضلا عن الازدهار الاقتصادى. وكانت النتيجة التقابل بين القدماء والمحدثين فى الآداب والفنون، فى موازاة التقابل بين أهل النقل والتقليد وأهل العقل والتجديد فى مجال الفكر الفلسفى والدينى. ولم يكن أهل النقل كافرين بالعقل تماما، ولا أهل العقل مكفرين للنقل بالكلية، ولكن غلبت على كل فريق الصفة الأقرب إلى طريق تفكيره أو انحيازه إلى أحد طرفى ثنائية الابتداع أو الاتِّباع.
وقد حدث ما يشبه ذلك فى مصر الحديثة مع صعود ثورة 1919، الثورة الجذرية الأولى على الاستعمار فى التاريخ المصرى الحديث، وكان صناع هذه الثورة من المحدثين الليبراليين الذين كان مطلب حرية الوطن والمواطن عندهم يرادف حرية التفكير والإبداع، وذلك بالقدر الذى كانت العقلانية الليبرالية هى الوجه الأحدث للعقلانية المتواصلة فى التراث الإسلامى «المحدث» .
أعنى ذلك التراث الذى جمع بين شعراء الحداثة العباسية وعقلانية المعتزلة التى كانت موازية لفكر الكندى، أول فيلسوف بارز عند العرب، وذلك فى السياق المتصل الذى جمع بين تأملات المتنبى فى الكون وأفكار ابن سينا فى «الشفاء» و»النجاة»، وهو السياق نفسه الذى جمع بين شعر أبى العلاء العظيم الذى ثار عليه التقليديون المحافظون واتهموه بالكفر، مثلما اتهموا ابن رشد بالكفر والإلحاد مع أنه هو الذى رفع من شأن قيمة العقل الذى ميز به الله سبحانه وتعالى الإنسان عن الحيوان.
والحق إنى أجد التلازم وثيقا بين الخطاب الدينى الذى صاغ الإمام محمد عبده أصوله ودوافع ثورة 1919 التى قادها سعد زغلول، بل أصل إلى حد القول إن الخطاب الدينى الجديد الذى صاغه محمد عبده هو الذى انطوى على المبادئ الوطنية المدنية التى نادى بها سعد زغلول وأقرانه من قادة ثورة 1919 التى حررت العقول من التقليد الجامد، والاتِّباع الإذعانى الذى لم يعد يليق بالذين يرفعون شعار «الوطن للجميع والدين لله» ولا بالنساء اللائى خرجن مع الرجال سافرات بعد خلعهن «اليشمك» صارخات: «الاستقلال التام أو الموت الزؤام»، ولا حتى بالمشايخ الذين دعوا أخاهم سرجيوس ليخطب فى الثوار من فوق منابر المساجد التى تغير خطابها الدينى والثقافى فى آن.
وعندما نعود بثورة 1919 إلى جذورها الأولى، حيث ابتداء صحوة العقل العربى من سباته الطويل، فإننا نعود إلى نقطة ابتداء العصر الحديث فى العالم العربى، أعنى إلى اللحظة التى ابتدأت بتأسيس النهضة العربية الحديثة لأسباب متعددة، منها اتصال الدول العربية التى كانت قد وصلت إلى أقصى درجات التخلف بالغرب الاستعمارى الذى كان يمثل أشكالا جديدة من الغلبة العسكرية المترتبة على تقدم صناعى اقتصادى اجتماعى ثقافى. وكان لابد لصدمة اللقاء غير المتكافئ أن تحدث صدمة فى وعى الطليعة المثقفة بما أدى إلى طرح السؤال: لماذا تقدموا؟ ولماذا تخلفنا؟. وتوالت الإجابات مع البعثات التى سافرت إلى الغرب المتقدم، وعادت بإجابات تشمل أنواعا من المعارف التى تؤكد ضرورة التسلح بالعلم الحديث ماديا، وبالعقل الحديث ثقافيا. وكانت من أولى النتائج المادية تأسيس محمد على مطبعة بولاق الأميرية سنة 1820، بعد أن ذهبت أولى بعثاته إلى إيطاليا لتعلم فنون الطباعة الحديثة التى نقلت العقل المصرى من وعى المخطوط إلى وعى المطبوع، وهى نقلة حضارية وفكرية بالغة الأهمية، فى موازاة المصانع التى كان على محمد علىّ أن يبنيها، لكى تسهم فى بناء وتأسيس جيشه الحديث الذى كان تكوينه موازيا لتكوين مصر الحديثة، ومرتبطا بتأسيس نهضتها الوطنية ارتباطا عضويا، وهى الصفة التى لم تفارقه قط.
وفى الوقت نفسه، كان الأزهر المتطلع إلى نهضة حديثة، بقيادة شيخه حسن العطار (1766-1875) يقوم بخطوة موازية، تجلت فى اختياره تلميذه رفاعة الطهطاوى (1801-1873) ليكون إماما لأعضاء البعثة التى أرسلها محمد على إلى باريس، فإذا بالإمام الشاب يتفوق على كل أعضاء البعثة، ويعود محملا بفكر جديد، وثقافة مغايرة، انطوت على خطاب دينى مختلف، خطاب يتأسس على العقل الذى يتقبل ما يقبل ويرفض ما يرفض على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين عند المعتزلة. وهى القاعدة التى جعلته يترجم من الدستور الفرنسى ما يكون أساسا لدولة وطنية حديثة، قوامها العدل والحرية والمساواة، مؤسسا للمرة الأولى فى تاريخنا الحديث أساسا جديدا لخطاب دينى يفتح الأبواب على مصاريعها لثقافة وطنية حديثة، لا يتعارض فيها المدنى مع الدينى، ولا العقل مع النقل الذى تقاس سلامة منقوله بالبرهان والحجة، ويتحول فيها الدينى الجامد إلى معقول مستحدث، فيغدو عنصرا تكوينيا فى تأسيس ثقافة تقدم وطنى. كانت هى الأساس الذى بنى عليه الإمام محمد عبده (1849-1905) خطابه الدينى العقلانى الذى لم ينفصل عن خطاب ثقافى تحديثى، فالإمام الذى جعل العقل البداية والنهاية فى خطابه الدينى هو نفسه الذى أباح الرسم والنحت فى مقالين نشرهما فى «المنار» سنة 1914. والإمام الذى ظهرت نزعته الوطنية الثورية، تأييدا لأحمد عرابى الذى طالب بأن تكون مصر للمصريين هو نفسه الذى كان صديقا لسعد زغلول (1858-1927) رفيقه الأزهرى النشأة الذى توسط له عند الخديوى توفيق كى يعفو عنه، ليعود إلى موطنه، ويرتقى فى مناصبه الدينية الرفيعة إلى أن يختمها بمنصب مفتى الديار المصرية.
والمسافة بين وفاة محمد عبده وانفجار ثورة 1919 هى أربعة عشر عاما حمل فيها سعد زغلول مبادئ الخطاب الدينى الجديد لصديقه الإمام محمد عبده، وجعلها أساسا ملازما لخطاب الثورة وشعاراتها، الأمر الذى جعل من الخطاب الدينى المستنير مكونا أساسيا من مكونات الخطاب السياسى والثقافى فى آن، وذلك على نحو أسهم فى تحرير العقل العربى الحديث من الجمود الذى أصابه لعدة قرون، بسبب سيطرة خطاب دينى – ثقافى جامد ومنغلق ومسرف فى التقليد والتعصب. وكان تحرير العقل العربى – من زاوية الخطاب الدينى – الثقافى إيقاظا لوعى الأمة نحو التحرر، وبعثا للوطنية، وإحياء للاجتهاد الفقهى الشجاع لمواكبة التطورات السريعة فى علوم العالم المتقدم، ومسايرة حركة الوطن وتطوره فى النواحى السياسية والاقتصادية والثقافية، وذلك بتأسيس مبدأ المواطنة ومعانى الوطنية الجديدة والناشئة. وهى المعانى التى حملها شعار «الدين لله والوطن للجميع». وهو الشعار الذى كان ترديده يعنى الإعلاء من رابطة الوطنية المفتوحة للجميع والتى تعلو على رابطة الدين الذى لم يكن مفهومه الرحب نفيا للمواطنة ولا أساسا للتمييز بين المواطنين الذين أصبحوا متساوين لا تمايز بينهم على أساس من مبدأ المواطنة. وقد قام الخطاب الدينى للإمام محمد عبده على تأكيد أصول اعتقادية، هى أصول ثقافية فى الوقت نفسه. وذلك على أساس أن الأصول الاعتقادية الصحيحة فى الإسلام، بكل ما تنطوى عليه من وسطية واعتدال ومرونة وتقبل للتغير والتطور، لا يمكن أن تقع موقع التناقض أو العداء مع القيم والإبداعات الثقافية الأصيلة التى لا يمكن إلا أن تنطوى على كل ما يثرى الروح ويرتقى بالوجدان والشعور، مؤكدا الأبعاد الإنسانية والروحية للحضارة فى كل الأزمان؛ والأبعاد التأسيسية لمعنى الوطن ومبادئ المواطنة ومشاعر الوطنية فى كل الأحوال.
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.