أمين الفتوى يحسم الجدل حول سفر المرأة للحج بدون محرم    صحيفة أمريكية تتساءل: هل سيكون التهديد الكوري الشمالي أكبر في عهد بايدن أم ترامب؟    حريق ب4 وحدات سكنية فى السويس    لهذا السبب.. رئيس جامعة المنصورة يستقبل رئيس الهيئة العامة لتعليم الكبار    محافظ مطروح: ندعم جهود نقابة الأطباء لتطوير منظومة الصحة    حصول 6 مستشفيات جديدة على اعتماد جهار "GAHAR" بمحافظات من داخل وخارج المرحلة الأولى للتأمين الصحي الشامل    «الخطوط القطرية» تعتزم الاستثمار في شركة طيران بجنوب قارة أفريقيا    تقرير مغربي: تحديد موعد سفر نهضة بركان للقاهرة لخوض نهائي الكونفدرالية    زياد السيسي يكشف كواليس تتويجه بذهبية الجائزة الكبرى لسلاح السيف    بث مباشر مباراة بيراميدز وسيراميكا بالدوري المصري لحظة بلحظة | التشكيل    رئيس الهيئة العامة لتعليم الكبار يشيد بجهود جامعة المنصورة    وليد فواز يكشف رحلة كفاحه فى العمل الفنى ومغامراته مع الفنان أحمد زكي(فيديو)    طرح ديو "بنجيب القرش" لمصطفى حجاج وحاتم عمور (فيديو)    الطاهري: "القاهرة الإخبارية" كانت توجيهًا رئاسيًا في 2017 والآن تحصد جائزة التميز الإعلامي    ارتفاع أسعار الذهب بعد بيانات التضخم الأمريكية    خطوات استخدام التطبيق الخاص بحجز تاكسي العاصمة الكهربائي (فيديو)    جامعة قناة السويس ضمن أفضل 400 جامعة دولياً في تصنيف تايمز    إصابة 4 مواطنين في مشاجرة بين عائلتين بالفيوم    مدعومة من إحدى الدول.. الأردن يعلن إحباط محاولة تهريب أسلحة من ميليشيات للمملكة    الطاهري: القضية الفلسطينية حاضرة في القمة العربية بعدما حصدت زخما بالأمم المتحدة    وزير النقل: تشغيل مترو الخط الثالث بالكامل رسميا أمام الركاب    رئيس رابطة الجامعات الإسلامية في جولة تفقدية بمكتبة الإسكندرية.. صور    رجال أعمال الإسكندرية تتفق مع وزارة الهجرة على إقامة شراكة لمواجهة الهجرة غير الشرعية    اعرف قبل الحج.. حكم الاقتراض لتأدية فريضة الحج    وزير الدفاع يشهد مشروع مراكز القيادة بإحدى الجبهات الرئيسية بالقوات المسلحة    الصرف الصحي: الانتهاء من تنفيذ خط طرد محطة بيجام بتكلفة 180 مليون جنيه    رئيس جامعة المنصورة يتابع منظومة الحجز الإلكتروني للعيادات الخارجية    الحكومة توافق على ترميم مسجدي جوهر اللالا ومسجد قانيباي الرماح بالقاهرة    ملك قورة تعلن الانتهاء من تصوير فيلم جوازة توكسيك.. «فركش مبروك علينا»    الصورة الأولى لأمير المصري في دور نسيم حميد من فيلم Giant    إصابة عامل صيانة إثر سقوطه داخل مصعد بالدقهلية    وزير التعليم العالي ل النواب: السنة تمهيدية بعد الثانوية ستكون "اختيارية"    «تضامن النواب» توافق على موازنة مديريات التضامن الاجتماعي وتصدر 7 توصيات    المشرف على الحجر الزراعي المصري يتفقد المعامل المركزية بالمطار    موعد بدء إجازة عيد الأضحى 2024    «الصحة» تقدم 5 نصائح لحماية صحتك خلال أداء مناسك الحج 2024    ماذا قال مدير دار نشر السيفير عن مستوى الأبحاث المصرية؟    مفتي الجمهورية من منتدى كايسيد: الإسلام يعظم المشتركات بين الأديان والتعايش السلمي    أبرزها «الأسد» و«الميزان».. 4 أبراج لا تتحمل الوحدة    بلينكن: سنوصل دعمنا لأوكرانيا وسنبذل قصارى جهدنا لتوفير ما تحتاج إليه للدفاع عن شعبها    6 يوليو.. بدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني بمركز التعلم المدمج ببني سويف    أمين الفتوى: الصلاة النورانية لها قوة كبيرة فى زيادة البركة والرزق    الإفتاء توضح حكم الطواف على الكرسي المتحرك    الأمم المتحدة: أكثر من 7 ملايين شخص يواجهون خطر انعدام الأمن الغذائي بجنوب السودان    حكم وشروط الأضحية.. الإفتاء توضح: لا بد أن تبلغ سن الذبح    "النقد الدولي" يوافق على قروض لدعم اقتصاد غينيا بيساو والرأس الأخضر    للنهائى الأفريقي فوائد أخرى.. مصطفى شوبير يستهدف المنتخب من بوابة الترجى    "التعاون الإسلامي" تؤكد دعمها الثابت لحقوق الشعب الفلسطيني    «الأمن الاقتصادي»: ضبط 13238 قضية سرقة تيار كهربائي ومخالفة لشروط التعاقد    الصحة تشارك في اليوم التثقيفي لأنيميا البحر المتوسط الخامس والعشرين    ضبط 123 قضية مخدرات في حملة بالدقهلية    أحمد مجدي: السيطرة على غرفة خلع ملابس غزل المحلة وراء العودة للممتاز    الأهلي يتلقى ضربة موجعة قبل لقاء الترجي في نهائي أفريقيا    تشاهدون اليوم.. نهائي كأس إيطاليا وبيراميدز يستضيف سيراميكا    الداخلية: سحب 1539 رخصة لعدم وجود الملصق الإلكتروني خلال 24 ساعة    قيادي ب«حماس»: مصر بذلت جهودا مشكورة في المفاوضات ونخوض حرب تحرير    بشرى سارة للجميع | عدد الاجازات في مصر وموعد عيد الأضحى المبارك 2024 في العالم العربي    ريال مدريد يكتسح ألافيس بخماسية نظيفة في ليلة الاحتفال بالليجا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية ..
الثقافة والدين -1
نشر في الأهرام اليومي يوم 08 - 04 - 2015

تتخذ العلاقة بين الثقافة والدين أوضاعا يمكن رصدها وتحليلها، وذلك من منطلق يقتصر على الديانات السماوية، ومن منظور مثقف مسلم درس تحليل الخطاب ونظرياته، فى مجالاته المتعددة ومشكلاته الوظيفية المختلفة، ومعنى بتحليل الخطابات الدينية والثقافية، فى أحوال سلبها وإيجابها، منطلقا فى ذلك من معنى الاجتهاد فى الإسلام, حيث التفكير فريضة إسلامية
والمسلم مأمور بإعمال عقله فى كل ما يتصل بصلاح دنياه وآخرته، مدركا أنه مثاب على اجتهاده حتى فى حالة الخطأ، فحق الخطأ فى الاجتهاد متاح، والمجتهد المسلم يعرف أنه مثاب حتى فى أحوال الخطأ التى لا ينبغى أن يخاف منها، فثوابه قائم، ويضاعف له فى أحوال الصواب الذى لا يحتكره أحد ولا يمكن له أن يدعيه مطلقا، حتى لو أغواه وهم القوة أو كثرة الأتباع، فما دمنا فى دائرة البشر، وما دام إعمال العقل ينزل منزلة الفريضة من المسلم، ليس عملا بعنوان كتاب العقاد «التفكير فريضة إسلامية» فحسب، وإنما انطلاقا مما قاله الإمام الغزالى «العقل أنموذج من نور الله»، وهو «ميزان الله فى أرضه» وقبله ذهب الجاحظ إلى أن العقل «وكيل الله عند الإنسان» وما أصدق ما يقوله الدكتور محمود زقزوق من أن حرص الإسلام على ممارسة العقل لكل وظائفه التى أرادها الله، كان هو السبب وراء الحرص على إزالة كل العوائق التى تعوق العقل عن ممارسة نشاطاته. ومن أجل ذلك رفض الإسلام التبعية الفكرية والتقليد الأعمى، وقضى على الدجل والشعوذة والاعتقاد فى الخرافات والأوهام وأبطل الكهانة. كما ركز الإسلام على المسئولية الفردية، وحرر الفرد من أى سلطة دينية أو دنيوية» ( محمود زقزوق: هوامش على أزمة الفكر الإسلامى المعاصر 12).
وبمثل هذا التفكير يتحقق للإنسان المسلم اكتمال الإرادة واستقلال الرأى، ويصبح فتح أبواب الاجتهاد وإعادة إعمال الفكر فيما يبدو من قبيل المسلمات المتبعة أو الشائعة مسئولية حتمية دينيا وفكريا واجتماعيا وسياسيا، وهى المجالات التى تنطوى عليها دلالات كلمة الثقافة بالمعنى الذى أفهمه، وأراه مجموع القيم والتقاليد والأفكار وأشكال الإبداع الفردى والجمعى المادى وغير المادى التى ترادف الوعى الاجتماعى من ناحية، وأسلوب الحياة أو رؤية العالم من ناحية موازية.
وأول ما يترتب على ذلك هو أن الدين مكوّن أساسى من مكونات الثقافة فى كل مجتمع من المجتمعات البشرية. ومن المؤكد أن هذا المكوّن يمكن أن يكون عنصر ضعف أو قوة فى هذه المجتمعات، حسب طبيعة الفكر الدينى السائد وصفاته التى تفتح أبواب الاجتهاد وازدهار الحضارة أو تغلق أبواب الاجتهاد، وتستبدل به التقليد والاتباع الأعمى فتعادى كل إعمال للعقل، أو كل اختيار حر للإنسان، وهذا هو الدرس الذى نستخلصه من تاريخ الحضارة الإسلامية التى فرضت وجودها على العالم الوسيط، وأضافت إلى الحضارات القديمة فى كل المجالات الحضارية، وأعلت من شأن العقل الذى رفع راياته الكندى وابن سينا وابن رشد. وعندما أعلنت هذه الحضارة الحرب على العقل، وناصرت التقليد الجامد، وحرقت كتب المخالفين فكريا فى ميادين العواصم الإسلامية، ولم ينج من الحرق حتى كتاب «إحياء علوم الدين» للغزالى، فى زمن اشتد فيه مدعو حماية العقيدة فى معاقبة العقلانيين على عقلانيتهم، وهو الأمر الذى انتهى بمحنة ابن رشد فى قرطبة، غربت شمس الحضارة العربية العظيمة، وهاجرت أفكار ابن سينا وابن رشد إلى أوروبا فأصبحت أساس النهضة الأوروبية التى أنتجت فلسفة التنوير التى كنا أولى بها، فالنور من الله عز وجل، ومن مسميات العقل الإنسانى فيما يقول الإمام الغزالى فى «إحياء علوم الدين».
والحقيقة التى ينتهى إليها أى متأمل محايد لتاريخ الحضارة العربية الإسلامية هى أنها كانت تزدهر مع تلازم حضور سلطان عادل وفقهاء (رجال دين) يفتحون باب الاجتهاد على مصراعيه، وتتقلص حين يقترن وجود سلاطين الاستبداد بفقهاء السلاطين الذين برروا لهم الظلم والاستبداد، وصاغوا المعادلة التى تقول «إن الدين بالملك يقوى والملك بالدين يبقى». ولم تكن الإشارة إلى الدين فى إطلاقه، وإنما إلى الدين كما فهمه فقهاء السلاطين الذين كانت العلاقة قائمة بينهم على أساس من المنفعة وليس عدل الشرع الذى هو دفع الظلم عن كل مظلوم.
هذا عن الوضع الأول من أوضاع العلاقة بين الثقافة والدين، ولكن هناك الوضع الثاني، وهو الوضع الذى يغدو به الدين موضوعا للإبداع الثقافي، وهو الوضع الذى يبدأ من قصائد حسان بن ثابت شاعر رسولنا الكريم «عليه الصلاة والسلام»، وهو الشاعر الذى كان يقول له نبينا: «اهجهم وروح القدس معك». ويمضى سياق الإبداع الثقافى، شعرا، فى سلسلة تبدأ من كعب بن زهير صاحب البردة إلى آخر الشعراء الذين يتخذون العقيدة الإسلامية موضوعا للإبداع. وكلنا نسمع «حديث الروح» التى تغنيها أم كلثوم للشاعر محمد إقبال، و»نهج البرده» للشاعر أحمد شوقى .. ومثلها آلاف القصائد، فضلا عن الإبداعات التى تدور حول السير، وكذلك الأعمال الروائية والدرامية التى تعرض ملامح من حياة نبينا الكريم أو حياة الصحابة والتابعين. وأضف إلى ذلك اللوحات التى نجدها فى الفنون الإيرانية الإسلامية، حيث تمضى لوحات الشيعة إلى ما يحرمه أهل السنة الذين يتخذون موقفا رافضا لتصوير النبى وصحابته، ويمضون فى ذلك إلى تحريم تمثيل الأنبياء السابقين عن الإسلام فى السينما، مع أن هؤلاء الأنبياء لا يوجد مانع من كتاب أو سنة على «تمثيلهم» – أى أن يقوم ممثلون بأداء درامى لشخصياتهم- فى السينما الأوروبية والأمريكية. وهو تحريم يفرض السؤال عن الحق الدستورى للمسيحى المصرى فى أن يرى ما يراه أبناء ديانته فى العالم المسيحى كله؟!
أما الوضع الثالث لأوضاع العلاقة بين الدين والثقافة، فهو الوضع الذى يتوازى فيه الدين من حيث هو بنية من النصوص، مع الثقافة من حيث هى بنية موازية من الموروثات والمكتسبات والعادات والمبادئ والقيم التى هى أسلوب حياة. صحيح أن البنيتين متداخلتان بالضرورة . ولكنى أفصل بينهما فصلا افتراضيا للعون على التحليل فحسب.
نعم، الدين موازٍ للثقافة، من حيث هو بنية من الشرائع والعقائد والنصوص السماوية التى يتأولها المؤمنون من البشر، حسب مقتضيات حياتهم ومصالحهم فى ما نطلق عليه الفكر الدينى أو الخطاب الدينى الذى تقوم عليه، أو تمارس صنعه، مجموعة من البشر ذات مصالح معينة تفرض عليها نوعا من التأويل أو نمطا بعينه من التفكير. ويمكن أن ننظر إلى الثقافة من المنظور نفسه، ونرى فيها بنية موازية، يمكن أن يكون لها استقلالها، نظريا بوصفها مجموعة موازية من الأفكار والقيم والممارسات. وكلتا البنيتين يمكن أن يحدث فيهما معا تضاد أو صراع بين المكونات، فى مراحل بعينها من تاريخ المجتمعات، هى مراحل التغير الجذرى أو التحولات العنيفة التى تؤدى إلى تغيير فى علاقات أجزاء كل بنية. قد يحدث هذا نتيجة التحولات الاجتماعية السياسية الاقتصادية، ومن ثم العلمية الفكرية الحادة، أو ما يسمى بعمليات التحديث المادية التى تفرض تأثيرها الفاعل بالضرورة وبطرائق مباشرة وغير مباشرة، الأمر الذى يؤدى إلى ما يسمى بالحداثة الفكرية. وعندئذ تنقسم ثقافة المجتمع إلى قسمين متضادين: قسم أقرب إلى الطليعة الثقافية التى تقف فى صف الجديد المتغير، إيمانا منها أنه يحمل مصالح لها أو يحقق آمالا ظلت تحلم بها. أما القسم المقابل فهو القسم الذى يلوذ بالقديم لأنه ألفه وتعوّد عليه، وترتبط مصالحه المادية (الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية) باستمراره، فيغدو كارها للتجديد، نافرا منه، أو مستريبا فيه على أكثر تقدير. وتكون النتيجة انقساما فى الثقافة وصراعا بين طرفيها المتضادين، كما حدث فيما أُطلق عليه الصراع بين القدماء (أنصار القديم الذين يخافون التغيير) والمحدثين فى العصر العباسى من تاريخ الأدب العربى، حيث انتقل العرب انتقالا جذريا من الثقافة الشفاهية إلى الثقافة الكتابية، وتأسست المدينة متعددة الأجناس (مثل بغداد الرشيد) مقابل مدينة الصحراء المنغلقة على تكويناتها القبلية، وذلك فى موازاة الانفتاح العقلى على ثقافات الآخرين فى كل مجال، فضلا عن الازدهار الاقتصادى. وكانت النتيجة التقابل بين القدماء والمحدثين فى الآداب والفنون، فى موازاة التقابل بين أهل النقل والتقليد وأهل العقل والتجديد فى مجال الفكر الفلسفى والدينى. ولم يكن أهل النقل كافرين بالعقل تماما، ولا أهل العقل مكفرين للنقل بالكلية، ولكن غلبت على كل فريق الصفة الأقرب إلى طريق تفكيره أو انحيازه إلى أحد طرفى ثنائية الابتداع أو الاتِّباع.
وقد حدث ما يشبه ذلك فى مصر الحديثة مع صعود ثورة 1919، الثورة الجذرية الأولى على الاستعمار فى التاريخ المصرى الحديث، وكان صناع هذه الثورة من المحدثين الليبراليين الذين كان مطلب حرية الوطن والمواطن عندهم يرادف حرية التفكير والإبداع، وذلك بالقدر الذى كانت العقلانية الليبرالية هى الوجه الأحدث للعقلانية المتواصلة فى التراث الإسلامى «المحدث» .
أعنى ذلك التراث الذى جمع بين شعراء الحداثة العباسية وعقلانية المعتزلة التى كانت موازية لفكر الكندى، أول فيلسوف بارز عند العرب، وذلك فى السياق المتصل الذى جمع بين تأملات المتنبى فى الكون وأفكار ابن سينا فى «الشفاء» و»النجاة»، وهو السياق نفسه الذى جمع بين شعر أبى العلاء العظيم الذى ثار عليه التقليديون المحافظون واتهموه بالكفر، مثلما اتهموا ابن رشد بالكفر والإلحاد مع أنه هو الذى رفع من شأن قيمة العقل الذى ميز به الله سبحانه وتعالى الإنسان عن الحيوان.
والحق إنى أجد التلازم وثيقا بين الخطاب الدينى الذى صاغ الإمام محمد عبده أصوله ودوافع ثورة 1919 التى قادها سعد زغلول، بل أصل إلى حد القول إن الخطاب الدينى الجديد الذى صاغه محمد عبده هو الذى انطوى على المبادئ الوطنية المدنية التى نادى بها سعد زغلول وأقرانه من قادة ثورة 1919 التى حررت العقول من التقليد الجامد، والاتِّباع الإذعانى الذى لم يعد يليق بالذين يرفعون شعار «الوطن للجميع والدين لله» ولا بالنساء اللائى خرجن مع الرجال سافرات بعد خلعهن «اليشمك» صارخات: «الاستقلال التام أو الموت الزؤام»، ولا حتى بالمشايخ الذين دعوا أخاهم سرجيوس ليخطب فى الثوار من فوق منابر المساجد التى تغير خطابها الدينى والثقافى فى آن.
وعندما نعود بثورة 1919 إلى جذورها الأولى، حيث ابتداء صحوة العقل العربى من سباته الطويل، فإننا نعود إلى نقطة ابتداء العصر الحديث فى العالم العربى، أعنى إلى اللحظة التى ابتدأت بتأسيس النهضة العربية الحديثة لأسباب متعددة، منها اتصال الدول العربية التى كانت قد وصلت إلى أقصى درجات التخلف بالغرب الاستعمارى الذى كان يمثل أشكالا جديدة من الغلبة العسكرية المترتبة على تقدم صناعى اقتصادى اجتماعى ثقافى. وكان لابد لصدمة اللقاء غير المتكافئ أن تحدث صدمة فى وعى الطليعة المثقفة بما أدى إلى طرح السؤال: لماذا تقدموا؟ ولماذا تخلفنا؟. وتوالت الإجابات مع البعثات التى سافرت إلى الغرب المتقدم، وعادت بإجابات تشمل أنواعا من المعارف التى تؤكد ضرورة التسلح بالعلم الحديث ماديا، وبالعقل الحديث ثقافيا. وكانت من أولى النتائج المادية تأسيس محمد على مطبعة بولاق الأميرية سنة 1820، بعد أن ذهبت أولى بعثاته إلى إيطاليا لتعلم فنون الطباعة الحديثة التى نقلت العقل المصرى من وعى المخطوط إلى وعى المطبوع، وهى نقلة حضارية وفكرية بالغة الأهمية، فى موازاة المصانع التى كان على محمد علىّ أن يبنيها، لكى تسهم فى بناء وتأسيس جيشه الحديث الذى كان تكوينه موازيا لتكوين مصر الحديثة، ومرتبطا بتأسيس نهضتها الوطنية ارتباطا عضويا، وهى الصفة التى لم تفارقه قط.
وفى الوقت نفسه، كان الأزهر المتطلع إلى نهضة حديثة، بقيادة شيخه حسن العطار (1766-1875) يقوم بخطوة موازية، تجلت فى اختياره تلميذه رفاعة الطهطاوى (1801-1873) ليكون إماما لأعضاء البعثة التى أرسلها محمد على إلى باريس، فإذا بالإمام الشاب يتفوق على كل أعضاء البعثة، ويعود محملا بفكر جديد، وثقافة مغايرة، انطوت على خطاب دينى مختلف، خطاب يتأسس على العقل الذى يتقبل ما يقبل ويرفض ما يرفض على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين عند المعتزلة. وهى القاعدة التى جعلته يترجم من الدستور الفرنسى ما يكون أساسا لدولة وطنية حديثة، قوامها العدل والحرية والمساواة، مؤسسا للمرة الأولى فى تاريخنا الحديث أساسا جديدا لخطاب دينى يفتح الأبواب على مصاريعها لثقافة وطنية حديثة، لا يتعارض فيها المدنى مع الدينى، ولا العقل مع النقل الذى تقاس سلامة منقوله بالبرهان والحجة، ويتحول فيها الدينى الجامد إلى معقول مستحدث، فيغدو عنصرا تكوينيا فى تأسيس ثقافة تقدم وطنى. كانت هى الأساس الذى بنى عليه الإمام محمد عبده (1849-1905) خطابه الدينى العقلانى الذى لم ينفصل عن خطاب ثقافى تحديثى، فالإمام الذى جعل العقل البداية والنهاية فى خطابه الدينى هو نفسه الذى أباح الرسم والنحت فى مقالين نشرهما فى «المنار» سنة 1914. والإمام الذى ظهرت نزعته الوطنية الثورية، تأييدا لأحمد عرابى الذى طالب بأن تكون مصر للمصريين هو نفسه الذى كان صديقا لسعد زغلول (1858-1927) رفيقه الأزهرى النشأة الذى توسط له عند الخديوى توفيق كى يعفو عنه، ليعود إلى موطنه، ويرتقى فى مناصبه الدينية الرفيعة إلى أن يختمها بمنصب مفتى الديار المصرية.
والمسافة بين وفاة محمد عبده وانفجار ثورة 1919 هى أربعة عشر عاما حمل فيها سعد زغلول مبادئ الخطاب الدينى الجديد لصديقه الإمام محمد عبده، وجعلها أساسا ملازما لخطاب الثورة وشعاراتها، الأمر الذى جعل من الخطاب الدينى المستنير مكونا أساسيا من مكونات الخطاب السياسى والثقافى فى آن، وذلك على نحو أسهم فى تحرير العقل العربى الحديث من الجمود الذى أصابه لعدة قرون، بسبب سيطرة خطاب دينى – ثقافى جامد ومنغلق ومسرف فى التقليد والتعصب. وكان تحرير العقل العربى – من زاوية الخطاب الدينى – الثقافى إيقاظا لوعى الأمة نحو التحرر، وبعثا للوطنية، وإحياء للاجتهاد الفقهى الشجاع لمواكبة التطورات السريعة فى علوم العالم المتقدم، ومسايرة حركة الوطن وتطوره فى النواحى السياسية والاقتصادية والثقافية، وذلك بتأسيس مبدأ المواطنة ومعانى الوطنية الجديدة والناشئة. وهى المعانى التى حملها شعار «الدين لله والوطن للجميع». وهو الشعار الذى كان ترديده يعنى الإعلاء من رابطة الوطنية المفتوحة للجميع والتى تعلو على رابطة الدين الذى لم يكن مفهومه الرحب نفيا للمواطنة ولا أساسا للتمييز بين المواطنين الذين أصبحوا متساوين لا تمايز بينهم على أساس من مبدأ المواطنة. وقد قام الخطاب الدينى للإمام محمد عبده على تأكيد أصول اعتقادية، هى أصول ثقافية فى الوقت نفسه. وذلك على أساس أن الأصول الاعتقادية الصحيحة فى الإسلام، بكل ما تنطوى عليه من وسطية واعتدال ومرونة وتقبل للتغير والتطور، لا يمكن أن تقع موقع التناقض أو العداء مع القيم والإبداعات الثقافية الأصيلة التى لا يمكن إلا أن تنطوى على كل ما يثرى الروح ويرتقى بالوجدان والشعور، مؤكدا الأبعاد الإنسانية والروحية للحضارة فى كل الأزمان؛ والأبعاد التأسيسية لمعنى الوطن ومبادئ المواطنة ومشاعر الوطنية فى كل الأحوال.
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.